أثينا وإسبرطة هما أشهر مدينتين يونانيّتين في اليونان القديمة، ومنهما انطلقت الجيوش والأساطيل للسيطرة على مدن وسواحل البحر المتوسّط. وهناك هُزم الإمبراطور الفارسي العظيم داريوس عندما حاول ضمّ الجزر اليونانية إلى إمبراطوريته الواسعة.
كان الوضع في اليونان القديمة مختلفاً، فلم تكن إمبراطورية موحّدة وإنما كانت عبارة عن العشرات من المُدن لكلّ منها جيشها وحكومتها، ويطلق عليها تاريخياً المُدن/الدول. وهكذا، كانت تلك المدن تتنازع السلطة والسيطرة فيما بينها، وعندما يأتي خطرٌ خارجيّ يتحدون لمواجهته، كما فعلوا مع الإمبراطورية الفارسية. كما سنذكر لاحقاً.
في هذا التقرير سنحكي لكم قصّة حرب مدمرة حدثت لعقود في شبه الجزيرة اليونانية، بين أبرز مدينتين/دولتين في اليونان القديمة: أثينا وإسبرطة.
الحرب البيلوبونيزية في القرن الخامس قبل الميلاد
وخلال القرن الخامس قبل الميلاد، اندلعت تلك الحرب المدمرة، من خلال معارك برية وبحرية في صراعٍ دمويٍّ طويل الأمد في شبه جزيرة البيلوبونيزية جنوب اليونان.
في تلك الفترة كانت المدينتان رائدتين، وهما الأقوى في دول اليونان القديمة. وهكذا تأسّس تحالفات في اليونان، تحالف بقيادة أثينا وتحالفٌ آخر بقيادة إسبرطة. وقد وقعت الحرب بين عامي 431 إلى عام 404 ق.م، وقد شكّلت هذه الحرب عالم الحضارة اليونانية اللاحق.
الفرق الأوضح بين هذين البلدين هو أنّ أثينا – وهي مدينة ساحلية – اشتهرت بأسطولٍ بحريٍّ هائل وحديث، بينما اشتهرت إسبرطة – وهي مدينة ليست ساحلية – بمقاتليها الأشداء.
وقد سميت الحرب باسم شبه جزيرة بيلوبونيز اليونانية، وهي المنطقة التي كانت تضم إسبرطة وبعض حلفائها، رغم أن القتال لم يقتصر على تلك الجزيرة وحدها، فقد انطلق إلى غيرها من المناطق. لقد دمرت المعارك ساحل بحر إيجة وجزيرة صقلية.
بدايات الصراع.. لماذا وقعت الحرب بين أثينا وإسبرطة؟
كانت لدى الإمبراطورية الأخمينية الفارسية مناطق مستعمرات في بلاد الأناضول (تركيا الحالية)، وقد بدأت هذه المستعمرات في التمرد على حكم الإمبراطور الفارسي داريوش الأول، فبدأ التجهيز لحملته العسكرية للقضاء على التمردات من خلال غزو اليونان كلها، فقد كانت أثينا تدعم تلك التمردات.
لكن داريوش هُزم هو وأسطوله في اليونان بعدما اتحدت المدن اليونانية، وكان أبرز مشاهد هذا الاتفاق هو التحالف بين أثينا وإسبرطة، وقتالهما معاً ضد داريوش عام 490 ق.م ثمّ قتالهما ضد ابنه زركسيس في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد.
وفي أعقاب ذلك تشكّل تحالفٌ عام 478 ق. م من الدول اليونانية يسمّى "الحلف الديلي" للحماية ضد أي هجمات فارسية مستقبلية.
انضمت المئات من الدول إلى هذا الحلف، لكنه أصبح بشكلٍ ما تحت سيطرة أثينا، ولاحقاً حوّل الأثينيون هذا الحلف إلى إمبراطورية حول بحر إيجة. وقد بنت تلك الإمبراطورية أسطولاً بحرياً ضخماً، وبه أصبحت أثينا القوة البحرية المهيمنة في اليونان.
هذا التطور زاد من قلق منافسها التقليدي: إسبرطة.
حكمت أثينا البحار بأسطولها، بينما كانت إسبرطة ترأس منذ فترة طويلة تحالفها الخاص المكون من دول شبه جزيرة البيلوبونيز ووسط اليونان، وبالطبع كان لديها محاربيها الأقوياء وجيشها القوي الشهير.
اكتسبت إسبرطة شهرتها من شهرة مقاتليها الأشداء، فقد قضى رجال إسبرطة معظم حياتهم في الخدمة العسكرية وكرسوا حياتهم لتحقيق المجد في المعارك.
كان تدريبهم قاسياً للغاية، ويبدأ في سن السابعة عندما يؤخذ الأولاد من عائلاتهم ليخضعوا للتدريب وطقوس التأهيل البدني كمقاتلين لإسبرطة. ومن خلال الكثير من الانتصارات في معارك عديدة، داخل اليونان وأثناء الحروب مع الفرس، اكتسبت مقاتلو إسبرطة سمعتهم. للقراءة أكثر حول نظام التدريب الإسبرطي للأطفال لتأهيلهم ليكونوا مقاتلين، (يمكنك قراءة هذه المادة).
احتدم الصراع بين أثينا وإسبرطة قبل أن تبدأ بينهما الحرب الطويلة. انخرطت كلا المدينتين في صراعات المدن الأخرى أو استغلت الظروف لتعزيز مصلحتهما.
وهذه الفترة، التي تسمى أحياناً الحرب البيلوبونيزية الأولى، انتهت بسلام الثلاثين عاماً في شتاء 446/45 ق. م. وقد استمرّ هذا السلام نصف ذلك الوقت فقط.
واصلت أثينا تحرشاتها بتحالف إسبرطة، ويبدو أنّ التنافس بينهما كان محسوماً بوصوله لنقطة صراع لفرض سيطرة إحداهما الأخرى.
انحازت أثينا ضدّ مدينة كورينث، وهي حليفةُ إسبرطة، من خلال إرسال السفن لمساعدة حليفتها، كوركيرا، في إحدى المعارك.
اختبرت أثينا بعد ذلك حدود معاهدة السلام من خلال فرض حصارٍ على مستعمرة كورينثيان، كما فرضت حظراً تجارياً على حليفٍ آخر لإسبرطة. لكنّ إسبرطة لم تردّ على تلك الاستفزازات على الفور
المقاتلون في مواجهة الأسطول
عندما اندلعت الحرب عام 431 كان لدى إسبرطة هدفٌ واضح: تحرير اليونان من السيطرة الأثينية وتفكيك إمبراطوريتها.
قاد الملك أرشيداموس الثاني جيشاً من المحاربين العسكريين، مسلّحين بالرماح والدروع، إلى شبه جزيرة أتيكا، مسبباً دماراً وفوضى وسلباً للموارد الحيوية من أثينا. وكان يأمل بذلك في استفزاز الأثينيين وإخراجهم من جدرانهم المحصنة إلى معركةٍ مفتوحة، ففي معركةٍ مفتوحة ستكون النتيجة شبه محسومة للإسبرطيين.
لكن أثينا كشفت الخدعة بفضل توجيهات رجل الدولة المؤثِّر بريكليس. وبدلاً من الخروج لمواجهةٍ مفتوحة، استخدمت أثينا أسطولها البحري المتفوّق لمضايقة سفن إسبرطة والقيام بهجمات في منطقة شبه جزيرة البيلوبونيز.
ورغم أن الإسبرطيين اعتبروا ذلك جبناً، فإن البقاء خلف الجدران كان خطوةً ذكية. لكن حدثت كارثة أخرى: اجتاح الطاعون أثينا وقضى على نسبة كبيرة من السكّان تصل إلى الربع، أو حوالي 100 ألف شخص – وتسبب في هلاك غالبية القيادة الأثينية. وقد مات بريكليس نفسه عام 429.
ومع ذلك فقد فشلت إسبرطة في الاستفادة من ضعف أثينا، وفشلت في بعضٍ من حملاتها البرية والبحرية. ولكن في عام 427 استولت إسبرطة على مدينة بلاتيا، الحليف الاستراتيجي لأثينا، بعد حصارٍ طويل.
المفاجأة: إسبرطة تهزم أثينا في البحر!
مع رحيل رجل الدولة المحنّك بريكليس بسبب الطاعون، تولّى القائد كليون المتشدد زمام الأمور في أثينا. وشرع في استراتيجية أكثر عدوانية.
خرج الجيش الأثيني وشنّ عدّة هجمات على الإسبرطيين، وانتصر في عدّة معارك، كما استطاع أن يستولي على بعض المستعمرات الإسبرطية في شبه جزيرة بيلوبونيز، وهكذا أرادت إسبرطة أن تلجأ للسلام.
لكنّ إسبرطة لم تذهب لاستراتيجية السلام إلا عندما رجحت كفتها عندما انتصرت في بعض المعارك خصوصاً الاستيلاء على مستعمرة أمفيبوليس الأثينية وفرضت شروطها للسلام عام 422.
ومن المفارقات المثيرة أنّ الرجل الذي أرسلته أثينا لحماية المستعمرة يدعى ثوسيديديس وبسبب فشله، نُفي وبدأ في تكريس وقته لكتابة تاريخه الحيادي عن الحرب بين أثينا وإسبرطة. ومن خلاله نعرف الآن تاريخ هذه الحرب.
غير أنّ تفاصيل أخرى قد برزت خلال هذا السلام، فقد مات جنرال إسبرطة المتميز براسيداس في معركة الاستيلاء على أمفيبوليس، وكذلك مات كليون في أثينا، فبدأ الآخرون يفكرون في السلام.
تمّ توقيع معاهدة سلام نيكياس عام 421، ونيكياس هو اسم الرجل الذي أرسلته أثينا للتفاوض باسمها على المعاهدة. كان من المفترض أن يستمر السلام لمدة 50 عاماً، لكن انتهى به الأمر لستة أعوام فقط.
في فترة السنوات الستّ تلك كانت كلتا الدولتين تحاول الفوز بدولٍ أصغر، أو تحاول توسيع تحالفها. وفي عام 415 استؤنفت الحرب من جديد، عندما شنت أثينا هجوماً واسعاً على جزيرة صقلية بهدف الاستيلاء على سيراكيوز، وهي دولة قوية تسيطر على حصة كبيرة من تجارة البحر الأبيض المتوسط. إذا نجحت أثينا، فقد تسيطر على مواردها الوفيرة.
لكنّ المفاجأة أنّ سيراكيوز استطاعت -بمساعدة إسبرطة- كسر حصار صقلية وهزمت قوات أثينا، حتى في المعركة البحرية، التي من المفترض أنّ أثينا صاحبة التميّز فيها.
بعد هذه الهزيمة لأثينا أصبحت إسبرطة أقرب إلى النصر النهائي في تلك الحرب. اندلعت عدة ثورات ضد الحكم الأثيني، وكانت أثينا نفسها في حالة اضطراب سياسي حيث جرت الإطاحة بعدة حكومات. وعلاوةً على ذلك، دَعَمَ الفرس إسبرطة لأنهم رأوا في إمبراطورية أثينا تهديداً لهم.
خلال سنوات الحرب تلك تمكنت إسبرطة من بناء أسطولٍ ضخم من مئات السفن. وفي عام 405 سحق الأسطول الإسبرطي الأثينيين في معركة إيجوسبوتامي. ثمّ تقدم الأسطول إلى أثينا نفسها وأجبرها على الاستسلام في العام التالي.
لتنتهي بهذا الحرب البيلوبونيزية بعد 27 عاماً من بدايتها.
أمر الإسبرطيون المنتصرون بهدم الجدران الأثينية الطويلة، ومنعوا أثينا من بناء أسطول أكبر من 12 سفينة وطالبوا أثينا بدفع الجزية لهم. لم تعد الإمبراطورية الأثينية موجودة وظهرت إسبرطة قوةً مهيمنة في اليونان القديمة.
ولكن لم تدم حالة إسبرطة طويلاً. فقد انخرطت أيضاً في صراعاتٍ كثيرة للغاية، وانتهت سيطرتها على اليونان على يد جنود مدينة طيبة اليونانية عام 371 ق.م.
وعلى مدار ما يقرب من قرنٍ من الحرب البيلوبونيزية كانت اليونان عرضة للخطر. واستغل القائد الماهر فيليب المقدوني حالة عدم الاستقرار وغزا وهزم كلّ دول المدن ووحدها ووضع أسس إمبراطورية مقدونية، والتي ستنمو إلى حجم غير مسبوق في عهد ابنه الإسكندر الأكبر.