في صباح يومٍ حار ورطب من شهر يوليو/ تموز عام 1881، وصل الرئيس العشرون للولايات المتحدة جيمس جارفيلد مبكراً إلى محطّة القطار. كانت غرفة الانتظار في المحطة شبه فارغة عندما وصل، كان قلقاً بشأن الوقت، أخبره الشرطي أن لا داعي للقلق، وأكد أن القطار سيكون في الموعد عند التاسعة والنصف، نحن نعلم هذا الجزء من الحوار لأن الشرطي شهد لاحقاً في المحكمة بأنه استدار فجأة، ليرى رجلاً يطلق النار باتجاه الرئيس. وبإطلاق هذه الرصاصة بدأت قصّة أشعة X-ray.
كيف نُخرج الرصاصة من جسد الرئيس؟!
في غضون ثوانٍ، كان الدكتور سميث تاونسند، الذي تصادف وجوده في مكانٍ قريب من المحطة، إلى جانب الرئيس. قطع بدلته الرمادية ليستكشف ثقب الرصاصة بإصبعه. قدر الدكتور تاونسند أن الرصاصة التي دخلت من الخلف، استدارت يميناً واستقرت في مكانٍ ما في ظهر الرئيس. ولن يعرفوا مكانها على وجه اليقين حتى تشريح الجثة.
كانت حالة الرئيس مستقرة نسبياً وتم نقله في عربة إسعاف، تحوّلت غرفة النوم الجنوبية في البيت الأبيض إلى مستشفى. كان جارفيلد رجلاً قوياً يبلغ من العمر 49 عاماً، وسرعان ما استعاد جزءاً من عافيته.
اجتمعت نخبة أطباء أمريكا في البيت الأبيض، جميعهم في وضعٍ حرج لأنهم لم يتمكنوا من العثور على الرصاصة. لقد فكروا في حالة الرئيس وراقبوا تقدُّمه بأحدث الأدوات المتاحة: السماعات ومقاييس الحرارة.
كانوا مهووسين بالرصاصة، فبدون معرفة مكانها لن يتمكنوا من اتخاذ قرار بشأن تركها أو محاولة استئصالها جراحياً. سيطرت الرصاصة الخفيّة على الأخبار في أمريكا، كانت عناوين الأخبار في جميع أنحاء البلاد معنونة بـ"أين الرصاصة؟".
وفي عصرٍ شهد اختراع التليفون والتلغراف، طالب الجمهور بأن يجد أحد العلماء طريقةً للكشف عن رصاصة داخل جسد الرئيس بواسطة أجهزة الكشف عن المعادن أو ما شابه.
وبعد أسبوعٍ من الجريمة، فكَّر عالم الفيزياء والفلك سيمون نيوكومب الذي ترأَّس المرصد البحري في واشنطن أنه قد يكون من الممكن تحديد موقع الرصاصة من خلال عملية الحث الكهربائي. لكنّ الفكرة رُفِضت على الفور باعتبارها مُعقَّدة للغاية بحيث لا تجعلها قابلة للتطبيق في الوقت المناسب.
أمّا ألكسندر جراهام بيل، المخترع الأسكتلندي الذي نال شهرةً دولية بهاتفه، لم يوافقهم الرأي واستطاع إيجاد فكرة لتجهيز الآلة بسرعة. وفي اليوم التالي، غادر بيل منزله في بوسطن واستقلّ القطار مع مُساعده إلى العاصمة واشنطن.
كان بيل آنذاك في ذروة شعبيته، فقد كانت شركته بيل للهواتف أول شركة على الإطلاق تحقق إجمالي مليون دولار في عام واحد، عام 1881.
عندما وصل بيل إلى واشنطن خرج بثقة واستعرض أمام الصحافة "آلة تحريض" رائعة رآها قبل ثلاث سنوات في لندن، وهي جهازٌ يمكن أن يولد مجالاً كهربائياً حول رجل.
مع مثل هذه الآلة، أكّد بيل أنه يمكن للمشغِّل تمرير "ملف استكشاف" فوق شخصٍ ما، و في اللحظة التي يمر فيها الملف فوق المعدن، فإنه سيصدر إشارة تدل على موقعه.
الحماس ينطفئ بعد الفشل الأوّل
وبينما كان الرئيس يرقد وهو يحتسي الشمبانيا المثلَّجة، كان فريق بيل يجمعون قطع المعدّات من جميع أنحاء المدينة، وجرّبوا الجهاز النهائي على أنفسهم عن طريق تخبئة الرصاص في أفواههم، أو داخل قبضة أيديهم، والتناوب على تمرير "ملف الاستكشاف" على أجسادهم والاستماع إلى صوتٍ باهت يصدر مُحدِّداً مكان الرصاصة.
قام بيل بضبط آليته بإطلاق الرصاص على بقرةٍ مذبوحة حديثاً وتجربة جهازه على جثة مثقوبة بالرصاص، وتمكَّن من تحديد موقع الرصاصات بدقة.
ولكن في 26 يوليو/تموز، بعد خمسة وعشرين يوماً من إطلاق النار، نقل بيل جهازه إلى غرفة نوم الرئيس جارفيلد.
وتحت أنظار خمسة أطباء، قام بتحريك "ملف الاستكشاف" ببطءٍ فوق جسد الرجل المحتضر. للحظة واحدة بدا وكأنه يسمع إشارة، لكن تبين أن المصدر عبارة عن لفائف معدنية داخل فراش الرئيس، وباءت محاولته بالفشل.
عاد فريق بيل لتطوير الجهاز، لكنّ صِحَّة الرئيس لم تصمد لفترة طويلة، وتوفِّي جارفيلد بعد ثمانين يوماً من الهجوم. في اليوم التالي، أظهر تشريح الجثة أن الرصاصة قد استدارت في الواقع إلى اليسار وليس إلى اليمين كما توقع الطبيب سميث تاونسند. واستقرّت الرصاصة على يسار العمود الفقري بالقرب من البنكرياس.
من وجهة نظر جراهام بيل، وعلى الرغم من وفاة المريض، إلا أنّ التجربة كانت ناجحة. كانت فكرة بيل منطقية، لكنّ طريقته في تصميمها لم تنجح.
مرَّت ثلاثون عاماً أخرى قبل أن يستخدم أيّ شخص الموجات الصوتية بنجاح لتحديد موقع الأشياء المخفية، وخمسون عاماً أخرى قبل أن تتمكَّن الموجات الصوتية من التقاط صورة لأي شيء، بما في ذلك الرصاصة، أو الأجنة في أرحام أمهاتهم.
حصل بيل على براءة اختراع لآلته، ومنحته المحكمة العليا لمقاطعة كولومبيا الجنسية الأمريكية تكريماً لجهده.
في ذلك الوقت كانت الموجات تحوز اهتمام علماء الفيزياء في كلّ مكان، موجات الصوت، والموجات المغناطيسية والكهرباء، وكان من ضمنهم فيلهلم كونراد رونتجن.
الصدفة التي غيّرت تاريخ الطب!
رونتجن، الذي كان يظهر في الصور رجلاً نحيفاً بلحيةٍ سوداء، كان رئيسًا لقسم الفيزياء في جامعة فورتسبورغ آنذاك ويعيش حياةً هادئة في سويسرا مع زوجته وابنته بالتبني، متمتعين بإجازات طويلة في طبيعة سويسرا الخلابة، يتذكره أصدقاؤه وعائلته بأنه كان دائماً خلال تلك الرحلات يحمل كاميرا صندوقية كبيرة وقطعة قماش سوداء فوق رأسه.
لطالما أحب أن يحتفظ دائماً بأدلةٍ مرئية عن مكان وجوده وما رآه. ليس من المستغرب أنه احتفظ أيضاً بمعدات التصوير في مختبره.
ربما تتذكر ذلك الجزء الذي درسته في مادة الفيزياء عن التجربة المفضّلة بين علماء الفيزياء في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر، وهي إرسال تيارات كهربائية ومراقبتها عبر أنابيب زجاجية صغيرة خالية من الهواء، تحتوي في أحد طرفيها على صفيحة معدنية "كاثود" في أحد طرفيه وغالباً ما يكون هناك صفيحة معدنية أخرى "أنود" في الطرف الآخر أو خارج الأنبوب، عندما يتم تطبيق جهد كهربي على الصفائح عبر الأنبوب المُفرّغ، تتحرك الجسيمات من الكاثود في خط مستقيم لتجعل الجدار المقابل للقطب السالب يتوهَّج باللون الأخضر.
وفي 8 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1895، كان رونتجن يبلغ من العمر 50 عاماً، ويبحث في خصائص أشعة الكاثود. كان يستخدم عدة أنابيب بمعادن مختلفة، ويكتب ملاحظات عما يجده.
لاحظ أحد طلابه أثناء إعداده للأنبوب أن بعض أشعة الكاثود قد تسربت عبر نافذة رقائق الألومنيوم، وأنه يمكنه اكتشاف الأشعة المنفلتة على لوحة فلورية. ستجعل الأشعة الشاشة تتوهَّج عندما يتم ضبطها على مسافة ثمانية سنتيمترات خارج الأنبوب، ولكن ليس أبعد من ذلك، وضعت ملاحظات ذلك الطالب رونتجن على بداية طريق اكتشاف سيغير وجه البشرية إلى الأبد.
في ذلك المساء بالذات، قام رونتجن بمحاولة استقصاء طبيعة تلك الأشعة المنفلتة، ولفّ الأنبوب بالكرتون الأسود لمنع تشتيت الانتباه عن الإضاءة الداخلية، وأطفأ الأنوار.
بالصدفة، كانت ورقة من الورق المقوى موضوعة على كرسي على بعد بضع أقدام. بمجرد أن اعتادت عيناه على الظلام، لاحظ رونتجن توهجاً ناعماً قادماً من تلك الورقة. وقد كان رونتجن مصاباً بعمى الألوان، لذا لم يرَ أن التوهج كان أخضر اللون. وهنا توقّف للحظة.
جاء التوهج على شكل الحرف "A"، من ورقة على بعد عدة أقدام كتب عليها طالب بعد غمس إصبعه في سائل الباريوم بلاتينوسيانيد لإجراء تجربةٍ أخرى.
لقد كان نوع التوهُّج الذي توقع أن يراه إذا كان قد وضع الشاشة على بعد بضعة سنتيمترات من الأنبوب، كيف يمكن لها أن تصل إلى تلك المسافة؟ وبات حائراً من هذه الظاهرة وغير قادرٍ على تفسيرها، تخلَّى عن خطته الأصلية وبدأ في التحقيق في اللمعان الغريب.
قام بفصل التيار فاختفى التوهج. عاد الوهج مع التيار. كرر التجربة مراراً وتكراراً حتى لم يكن هناك شك. كانت الشاشة متوهجة استجابة لشيء ينبعث من الأنبوب. لا أشعة الكاثود ولا أي أشعة أخرى يمكن أن يفكر فيها لتفسِّر هذه الظاهرة. قام بفحص معداته وأعاد شحن الأنبوب. تكرر الوهج.
ظل رونتجن يستكشف هذه الظاهرة حتى وقت متأخر من مساء ذلك اليوم من نوفمبر 1895. عندما صعد أخيراً إلى الطابق العلوي لتناول العشاء وكان مشغولاً للغاية ومشتتاً لدرجة أنه عاد على الفور تقريباً إلى مختبره.
لم يكشف عن اكتشافه هذا لمساعديه ولكنه أمضى كل وقته خلال الأسابيع السبعة التالية وحده في مختبره لتجربة وتصوير النتائج.
كانت زوجته صبورة، تجلب له كل يوم وجباتٍ ساخنة وتمضي في هدوء، لكنّه لم يشاركها أيضاً أي تفاصيل، فقط تمتم بأنه كان يعمل على شيءٍ جديد لدرجة ستجعل العالم كله يعتقد أنه مجنون.
عندما أغرق الصحفيون رونتجن في الأشهر التالية بأسئلة حول اكتشافه وسألوه على وجه التحديد عما كان يفكر فيه عندما لاحظ الأشعة الغريبة، أجاب: "لم أفكر في شيء، لقد استقصيت ما لاحظته لا أكثر".
رونتجن يجرّب أشعة X-ray على نفسه أولاً
بدأ اكتشاف رونتجن بقدرة الأشعة على المرور عبر الأشياء المُعتمة وترك علامة على شاشة الفلورسنت. سرعان ما أثبت أنها يمكن أن تترك أيضاً ظلاً لبعض الأشياء التي كانت داخل الأشياء غير الشفافة ظاهرياً، مثل العملات المعدنية داخل صندوق خشبي، ثمّ شرع في فحص الأشعة بطريقةٍ منهجية باستخدام كل ما لديه في المختبر وأي شيء آخر يمكنه الحصول عليه.
بدأ بقياس سطوع شاشة الفلورسنت عندما وضع كتاباً بينها وبين أنبوب الكاثود، لم يكن هناك فرق. حاول أن يرى ما إذا كانت الأشعة ستمرُّ عبر كتابٍ نحيف، ومجلدٍ كثيف من ألف صفحة؛ أثبتت جميعها أنها شفافة للأشعة. وكذلك فعلت كتلٌ سميكة من الخشب، وصفيحة من المطاط المفلكن وقطعة من ورق القصدير. مادة وحيدة لم تمرر الأشعة: الرصاص.
ثم أخيراً وبعد أن انتهى من استكشاف العالم من حوله، توجه إلى استكشاف جسده، ووضع يده في طريق النور غير المرئي، فأصبح أول شخص في العالم يرى ظلّ عظامه الحية.
اكتشف رونتجن أن العظام أوقفت الأشعة، وكذلك الرصاص. أخرج مغناطيساً ووجد أنه لا يمكن أن يحرف هذه الأشعة، إذاً فهي ليست أشعة كهربية. كما أن المنشور لم يكسر الأشعة بالطريقة التي ينكسر بها المنشور الضوء المرئي. استنتج رونتجن أن الأشعة كانت جديدةً تماماً، لذلك أطلق عليها اسم "X"، دلالة على X المجهول، ومن هنا جاء اسمها: X-ray.
حينها قرر رونتجن أن الوقت قد حان لمشاركة اكتشافه مع العالم، كانت زوجته بيرثا أوّل من علم باكتشافه، بعد أن أحضرت له الطعام، طلب منها أن تضع يدها على لوحةٍ فوتوجرافية، ثم ركَّز الأشعة عليها لمدة خمس عشرة دقيقة.
قام بعمل عدة بصمات للأشعة السينية ليدها اليسرى، ويبدو أن خاتم زواجها يظهر حول عظمة إصبعها، يقال إن بيرثا عندما رأت الصور خرجت مهرولةً في فزعٍ من المعمل وأقسمت ألا تعود. قالت: "لقد رأيت مَوتِي هناك".
وكانت عبارتها تحمل قدراً من الحقيقة، فقد كانت تعيش في عالمٍ لم يرَ البشر فيه العظام إلا بعد وفاة الإنسان وتحلل أنسجته.
بعد فترة وجيزة أرسل رونتجن تقريراً "أولياً" ليتم نشره في وقائع الجمعية الطبية الفيزيائية في فورتسبورغ بعنوان "نوعٌ جديدٌ من الأشعة"، ولإثبات تأكيداته تضمّن التقرير العديد من الصور الإشعاعية، إحداها كانت صورة يد زوجته وبعض الضفادع.
تم نشر التقرير بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول عام 1895. كانت ورقة علمية بسيطة خالية من الرياضيات المعقدة، ربما كانت آخر ورقة تكشف عن اكتشافٍ كبير في الفيزياء بطريقة يسهل على عامة الناس قراءتها.
ما اكتشفه رونتجن كان أشعة غير مرئية للعين. ستكشف الأبحاث التي أجراها العديد من الفيزيائيين على مدار العشرين عاماً القادمة أن الأشعة السينية هي موجات كهرومغناطيسية ذات طول موجي قصير جداً – يتراوح بين 0.01 و10 نانومتر (واحد على مليون من المتر).
وقد أظهرت الأبحاث اللاحقة أنه، مثل الضوء المرئي، يُمكن فهم الأشعة السينية على أنها تيارٌ من الجسيمات تسمّى الفوتونات، لكنّ فوتونات الأشعة السينية أكثر نشاطاً بكثير من فوتونات الضوء العادي. أكثر ما يميز الأشعة السينية هو قدرتها الواضحة على اختراق الأشياء غير الشفافة والمرور خلالها وترك انطباع على لوحة فوتوغرافية.
عندما يتم التقاط صورة بالأشعة السينية لشئٍ ما، يتم توجيه ملايين وملايين من الأشعة السينية إليه، عندما تمر الأشعة السينية فإنها تترك نقطة سوداء صغيرة على لوحة حساسة للضوء، بينما تظهر الأشياء التي تصد الأشعة، كالكالسيوم في عظامنا أو الرصاصات المعدنية، كظلال باللون الأبيض.
اليوم، لو أصيب شخصٌ ما بطلقٍ ناري أثناء تواجده في محطة القطار، فسيتمكن الأطباء من العثور على مكانها في جسده بسهولة عبر الأشعة السينية (X-ray) أو الأنواع الأخرى التي بزغت عنها. ويمكنك القول بأنك اليوم تملك امتيازات تفوق رئيس الولايات المتحدة، في زمان ما.