من بين تشابكات وتعقيدات السلطة في أوروبا، كانت تحدث كثيراً حروبٌ دينية، ليس فقط صليبية مسيحية تجاه المسلمين في المشرق مثل الحملات الصليبية على الشام ومصر، وإنما حروبٌ دينية داخل أوروبا نفسها، بين مسيحيين ومسيحيين آخرين. وهكذا حدثت مذبحة عيد القديس بارتولوميو، التي قتل فيها قرابة 30 ألف بروتستاني، ويقال إنّ العدد وصل 80 ألف قتيل.
ما قبل المذبحة.. كاثرين دي مديتشي تسيطر على فرنسا بالحديد والنار
قبل أن نخوض في تفاصيل المجزرة، علينا أولاً أن نشرح بعض الشيء تشابكات السلطة في فرنسا في ذلك الوقت.
كاثرين دي مديتشي
هي زوجة ملك فرنسا هنري الثاني الذي حكم منذ سنة 1547 ,حتى عام 1559، هي ابنة أخ البابا كليمنت السابع، وهكذا زوّجها عمّها من ولي العهد الفرنسي في تحالفٍ سياسي مع فرنسا.
ما إن توفي زوجها هنري الثاني حتّى استأثرت بالحكم طيلة قرابة 30 عاماً، فقد حكمت من خلال ثلاثة من أبنائها. استطاعت التخلُّص من أعدائها ومنافسيها بأقسى الطرق وأصعبها، واغتالت الكثير من المعارضين لها، وأشهر ما فعلته في معارضيها مذبحة يوم القديس بارتولوميو التي قتل فيها قرابة 30 ألف بروتستانتي.
وعلى الرغم مما فعلته في حياته وهي كبيرة، فقد عاشت حياةً صعبةً في بداية حياتها بسبب تقلب ظروف عمّها السياسية (البابا كليمنت السابع)
ومن خلال أبنائها الثلاثة واحداً تلو الآخر، حكمت كاثرين دي مديتشي فرنسا بالحديد والنار حتّى وفاتها عام 1589.
كانت كاثرين ابنة أخ البابا كليمنت السابع، وقد كان لها ارتباطات بالبابوية، فقد كان زواجها من هنري الثاني بالأساس ترتيباً سياسياً بسبب تحالف البابا والملك الفرنسي فرانسوا الأول.
لم يكن طريق كاثرين دي مديتشي مفروشاً بالورود، فقد كافحت وحاربت خصومها بشراسة لتستأثر بالسلطة دوناً عنهم جميعاً. وهكذا بدأت بوادر مذبحة عيد القديس بارتولوميو.
وللقراءة أكثر حول قصّة كاثرين دي مديتشي، يمكنك قراءة هذه المادة.
الصراع مع الجنرال كاسبار دي كوليني
حكمت كاثرين فرنسا من خلال ابنها الأول لفترة سنة تقريباً، ثمّ ما لبث أن توفي الملك الصغير ذو الخمسة عشر عاماً. فتولى من بعده أخوه تشارلز التاسع، وهو طفلٌ في التاسعة من العمر ظلّ يبكي طيلة فترة مراسم تتويجه ملكاً.
مع الوقت أصبح لدى الملك مستشارٌ مقرب يدعى كاسبار دي كوليني ينتمي لطائفة الهوغونتيون، وهي طائفة بروتستانتية ينتمي إليها نبلاء وقادة عسكريون نافذون.
كان الصراع في حقيقته صراعاً سياسياً بين كاثرين التي تريد أن تُبعِد هذا المستشار عن ابنها، وبين هذا المستشار الذي يرى أنّ تدخُّل كاثرين في شؤون الحكم يعقّد الأوضاع أكثر. وقد كانت كاثرين وحلفاؤها من الكاثوليك وكوليني وحلفاوه بروتستانت، وهكذا أخذ الصراع السياسي صبغةً دينية.
كان كوليني أدميرالاً لديه سمعه عسكرية واسعة، يدعم حرباَ في هولندا ضد اسبانيا (أقوى دول أوروبا حينها)، باعتبارها وسيلة لمنع عودة اشتعال الحرب الأهلية في فرنسا بين الكاثوليك والبروتستانت. ولكنّ إذا انتصر كوليني في هذا الحرب فهذا سيجعله أيضاً الرجل الأوّل (والشخص الأقوى) في فرنسا الذي سيتحكّم تماماً في الملك الصغير، وهذا بالطبع ليس في صالح كاثرين، أمّ الملك.
أصبح الملك تشارلز التاسع في العشرينيات من عمره، وكان يميل للموافقة على هذه الحرب، في صيف عام 1972. لكنّ كاثرين خافت من النفوذ المتزايد للأدميرال كوليني على حساب ابنها، وبالطبع على حسابها كما ذكرنا.
ولهذا السبب أعطت الإشارة الخضراء لتنفيذ مؤامرة من آل غيز الرومان الكاثوليك الذين كانوا يدبرون سراً لاغتيال كوليني، باعتبار التنافس والثأر القديم بين العائلتين. مثلما يخبرنا موقع موسوعة Britannica الأمريكية.
وفي يوم 18 أغسطس/آب من عام 1572 كانت فرنسا على موعدٍ مع زفاف مارغريت أميرة فرنسا، وهي ابنة كاثرين وأخت الملك تشارلز من هنري أمير نافار، وهو بروتستانتي. وقد أصبح فيما بعد هنري الخامس ملك فرنسا، وكما هو متوقّع فقد جاءت مجموعة كبيرة من نبلاء البروتستانت إلى باريس لحضور الزفاف الكاثوليكي- البروتستانتي.
فشلت محاولة اغتيال الأدميرال كوليني بعد الزفاف بعدّة أيام، وبسبب ضغط البروتستانت وافقت الحكومة الفرنسية على التحقيق في محاولة الاغتيال، التي أصابت كوليني في ذراعه اليسرى.
خافت كاثرين من نتائج التحقيق التي قد تفيد بأنّها من أعطت الضوء الأخضر لمحاولة الاغتيال الفاشلة. فالتقت سراً مع مجموعة من النبلاء في قصر تويلري لتخطط لإبادة زعماء البروتستانت عن بكرة أبيهم، والذين كانوا ما يزالون في باريس من أجل احتفالات الزواج.
أقنعت كاثرين – بكثيرٍ من الضغوطات – ابنها المضطرب الملك تشارلز التاسع بالموافقة على هذا المخطَّط الفظيع، وفي مساء يوم 23 أغسطس/آب عام 1572 استُدعي أعضاء المجلس المحلي في باريس إلى متحف اللوفر وتلقوا الأوامر.
وقبل الفجر بوقتٍ قليل، في يوم 24 أغسطس/آب، دقّت أجراس كنيسة سان جيرمان لوكسيروا وبدأت معها المذبحة.
كان كوليني بالطبع هو أحد أول الضحايا، فقد كان راقداً في سريره متأثراً بإصابته من محاولة الاغتيال الفاشلة، ودخل الجنود عليه وقتلوه ورموه من فوق بيته، وقد قُتل بإشرافٍ مباشر من هنري من عائلة غيز، التي تقاسمه العداوة.
وحتى داخل متحف اللوفر، ذُبح الحاضرون من إمارة نافار، لكنّ أمير نافار- زوج أخت الملك – استطاع الفرار من المذبحة بمساعدة زوجته بعدما أعلن أنّه سيعتنق الكاثوليكية. ونُهبت محلات البروتستانت المقيمين في باريس وقُتل من فيها بوحشية، وأُلقيت الكثير من الجثث في نهر السين.
استمرت إراقة الدماء في باريس حتى بعد إصدار مرسوم ملكي في اليوم التالي 25 أغسطس/آب لوقف القتل. ويمكن أن تفتح لخيالك العنان لتصوُّر ما حدث في تلك الليلة. ويشاع أنّ الجيران قد قتلوا جيرانهم الذين لا يرغبون فيهم، والتجار قد قتلوا المنافسين بعد اتهامهم بأنهم بروتستانت.
انتشر الأمر إلى المقاطعات، ولم يعد بإمكان أحد السيطرة على الناس العوام والغوغاء، فبدأوا يشبعون غرائزهم في القتل والتنكيل في أغلب أنحاء فرنسا.
اختلفت تقديرات ضحايا هذه المذبحة التي حدثت في ذكرى القديس بارتولوميو، والتي استمرت حتى بداية أكتوبر/تشرين الأول، على مراحل متباعدة ومتفاوتة. لكنّ التخمينات تتراوح من ألفي شخص وفقاً للمدافعين عن الكاثوليك وحتى 70 ألفاً وفقاً لرواية البروتستانتي المعاصر للأحداث ماكسميليان دي بيثون، دوق سالي، والذي نجا من الموت بأعجوبة. ويقول الكُتاب المعاصرون إن رقم الضحايا وصل تقريباً إلى ثلاثة آلاف في باريس وحدها.
وبالطبع رحَّب فيليب الثاني ملك إسبانيا بأخبار هذه المذبحة، فقد كان كوليني يسعى لمحاربته في هولندا. ولكنّ المثير أنّ بابا روما نفسه غريغوريوس الثالث عشر، أمر بسكِّ ميدالية للاحتفال بالحدث، فقد قتل ملك فرنسا "أعداء الرب البروتستانت".
وهكذا، ليفسِّر تشارلز أمر المذبحة، فقد تحمل مسؤوليتها مدعياً أنه كانت هناك مؤامرة بروتستانتية للإطاحةِ به من على العرش.
وبدلاً من شل حركة حزب الهوغونوت البروتستانتية مثلما كانت تأمل كاثرين وحلفائها، أحيت هذه المجزرة الكراهية بين الكاثوليك وبين البروتستانت، وساعدت في إثارة العداوات بينهما لاحقاً. ومن حينها تخلى البروتستانت عن مبدأ القس الفرنسي جون كالفن الذي ينص على طاعة ولي الأمر، المتمثل في السلطة الملكية، وتبنوا وجهة أخرى تقضي بأن التمرد وقتل الفسدة مبرر في بعض الظروف.