عاشت الدولة الفاطمية 270 عاماً، تحكم أجزاءً ضخمة من العالم الإسلامي، وبينما كانت الخلافة العباسية في بغداد ضعيفة وآيلة للسقوط بعض الشيء كانت الخلافة الفاطمية فتيّة وقادرة على مجابهة الإمبراطورية البيزنطية في ثغور الشام.
تأسّست الدولة الفاطمية في المغرب أوّل الأمر، وبعد 60 عاماً من الحكم في المغرب استطاع المعزّ لدين الله، الخليفة الرابع في الدولة الفاطمية، أن يفرض سلطانه على مصر، ثمّ بنى مدينة القاهرة -المشهورة باسم القاهرة المعزيّة- ومنها انطلق للسيطرة على أجزاءٍ أكبر من العالم الإسلامي على حساب الدولة العباسية.
كان مذهب الدولة الفاطمية شيعياً إسماعيلياً، فقد كان السلاطين أو الخلفاء من نسل السيدة فاطمة، ابنة النبي محمّد صلى الله عليه وسلم.
ربما كان المعزّ لدين الله الفاطمي أهم حكام تلك الدولة، لكنّ حفيده سيكون أشهر منه، ليس لأنّه مهتم بسياساته، ولا لأنّه أعاد تأسيس الدولة أو تجديدها أو تقويتها، لا، وإنما سيظل أشهر حكامها بسبب غرابته الشديدة، وأحكامه وقراراته المثيرة، وكذلك نهايته الغامضة.
الحاكم بأمر الله.. طفلٌ بمرتبةِ خليفة!
توفي والده العزيز بالله الفاطمي عام 996، وهو على رأس جيشه متجهاً لقتال إمبراطور البيزنطيين، لأنّه هاجم حلب وحمص واستولى عليهما. كان عمر ابنه المنصور 11 عاماً فقط، وهكذا عاد القادة والوزراء إلى قصر الخلافة ونصّبوا هذا الطفل المنصور خليفةً فاطمياً، وأصبح بهذا الخليفة السادس في سلمّ الخلفاء الفاطميين، ولقّب باسم "الحاكم بأمر الله".
ويبدو أنّ الطفل الصغير تلبّسه المعنى الحرفي لاسمه، فظنّ أنّه فعلاً حاكم بأمر الله، وأنّه يستطيع أن يأمر الناس بأيّ شيء يريده مهما كان عجيباً.
على كلّ حال واجه الحاكم بأمر الله مقاومةً بسيطة في أول عهده، إذ كانت أخته الكبرى "ستُّ الملك" تسعى لتنصيب ابن عمّهما، ويقال إنّهما كانا عاشقين. كانت ستُّ الملك امرأةً عالمةً بأمور الحكم، متنفِّذةً في الدولة في عهد أبيها.
لكنّ قائداً يسمّى برجوان استطاع تنصيب أخيها، وهكذا وضعها في الإقامة الجبرية ثمّ انفرد بأمور الحكم والسلطنة وحده.
استمرّت سيطرة برجوان لسنين، استطاع فيها تحييد منافسيه أو القضاء عليهم، لكنّ الطفل كبر، ويبدو أنّ برجوان ظنّ أنّه يستطيع أن يظلّ متحكماً في قراره، لكنّ طبيعة الطفل الذي أصبح شاباً الآن استطاعت التغلُّب على برجوان والقضاء عليه.
وما إن قضى على برجوان، وأيضاً على بعض الشخصيات النافذة في الدولة، خلا له الحكم، ليحكم دون حسيبٍ أو رقيب.
الحاكم بأمر الله.. عجائب وغرائب
حكم الحاكم بأمر الله طيلة 25 عاماً، لا يختلف المؤرِّخون حول صعوبة هذه الفترة وغرابتها في التاريخ الإسلامي والمصري. فقد خرج الحاكم بأمر الله بعدّة قرارات شديدة الشذوذ. فمثلاً يقال إنّه حرّم أكلة الملوخيّة على عامّة الناس، لتكون خاصّة به هو وحده.
كما أنّه نكّل بالمسيحيين واليهود كثيراً، فمنع المسيحيين من الخروج خارج المنزل دون تعليق صليبٍ من الذهب أو الفضّة في العنق. وتغيّرت بعض الإجراءات أحياناً للأسوأ، وأحياناً للأفضل للمسيحيين، فأمرهم لاحقاً بأن يستبدلوا صليبهم الذهبي أو الفضي بصليبٍ خشبيّ.
كما أمر اليهود أن يعلِّقوا تمثال عِجل على صدورهم أيضاً، كما منع اليهود والمسيحيين من الدخول للحمامات العامة دون أن يعلقوا جرساً في أعناقهم لتمييزهم عن المسلمين، بل إنّه طالب المسيحيين أحياناً بأن يتركوا مسيحيتهم أو يرحلوا إلى بلاد البيزنطيين!
كما هدم بعض الكنائس، ثمّ عاد وسمح ببنائها لاحقاً، ومنع النساء من الخروج من البيوت سواء في الليل أو في النهار، ومنع كذلك بيع بعض الخضراوات والمأكولات، والسمك الذي لا قشر له، ومنع الرجال من ارتياد المقاهي، كما أمر بقتل كلّ الكلاب في القاهرة.
ويقال إنّه أيضاً ترك الأبّهة التي كان الخلفاء السابقون يعيشون فيها، وكان يتجوّل في الأسواق على حمارٍ بسيط بلباسٍ بسيط.
وقد ضجّ الناس من كثرة قراراته السيئة والشاذة، فبدأوا يقاومونه بطرقٍ مختلفة، فمنها مثلاً أنّهم في أحد الأيّام صنعوا تمثالاً من خشب لامرأةٍ تمسك بيدها رسالةً، فظنّ الحاكم بأمر الله أنها تحمل مظلمةً له، فذهب إليها ممسكاً بالورقة، فوجدها مملوءة بالشتائم، فأمر بقتلها، فاكتشف أنّها ليست حقيقية فاستشاط غضباً وغيظاً.
لكنّ أشهر بل وأغرب الأشياء التي اشتهر بها الحاكم بأمر الله أنّه ادعى الألوهيّة، فقد جاءه بعض غلاة الطائفة الدرزية، واعتبروا أنّ الله قد حلّ فيه. وهكذا يقال إنّه أيضاً أمر الناس بالصلاة عليه كما يصلُّون على النبي محمّد صلى الله عليه وسلم.
لكن تظلّ هذه المساحات من ادعاء الألوهيّة مختلفاً عليها تاريخياً، ولكن لنبتعد عن تلك التفاصيل ولنقصّ بقيّة القصّة، فلعلّها تعطينا تفسيراً منطقياً لكلّ هذه القصص الغريبة والمثيرة والشاذة المرتبطة بالحاكم بأمر الله. الرجل الذي ما زال له مسجد ضخم يُعرف باسمه في القاهرة المعزِّيّة.
نهاية الحاكم بأمر الله الغريبة!
بعدما حكم 25 عاماً، كانت مليئة بالغرائب، انتهت حياته أيضاً بطريقةٍ غريبة للغاية. ففي أحد أيّامه التي خرج فيها ليلاً إلى جبل المقطّم على حماره، ليشاهد النجوم ويتفكّر لم يعد إلى قصره. وحين بحث عنه الجند وجدوا عباءته فقط غارقةً في الدمّ.
لم يُعرف أين جسده، لكنّ طائفةً من الدروز يعتقدون أنّ الحاكم بأمر الله اختفى وسيعود يوماً من الأيام، لأنّه هو المهدي الذي سيعود يوماً ما ليملأ الأرض عدلاً، ويرفع الظلم عن البشرية.
أعلن ابنه عليّ الظاهر خليفة للدولة الفاطمية، وبدأ التضييق على المذهب الدرزي، وقد فرّ الكثيرون من أفراد المذهب إلى الشام، ويرجع بعض الباحثين ذلك لانغلاق الطائفة على نفسها بسبب قلقها من ملاحقة الدولة الفاطمية لها.
لكن تبقّى لنا سؤالٌ آخر: من كان وراء اختفاء/مقتل الحاكم بأمر الله؟ تشير أغلب الروايات التاريخية إلى أخته ستّ المُلك، التي وجدت أنّ سياسات أخيها الحاكم بأمر الله قد تتسبب في انهيار الدولة، لذلك اتفقت مع بعض القادة على إزاحته، وهكذا دبرت قتله، وعندما تأكدت من مقتله قتلت الذين اعتمدت عليهم في قتله، وأصبحت الوصية على عرش ابن أخيها الصغير طيلة سنتين، حتّى وفاتها عام 1023 عن 52 عاماً.
لكن يظلّ سؤال حيّر الباحثين والمؤرخين، حول تلك الغرائب التي أحاطت بفترة حكم الحاكم بأمر الله وحياته. إذ ربّما يكون بعض ما أشيع عنه مجرّد دعاية مضادّة ممّن تخلصوا منه وقتلوه وأخفوا جثّته، فكلّ شيء وارد في التاريخ.