في بدايات الحرب العالمية الأولى كانت الدولة العثمانية حليفةً لألمانيا في مواجهة فرنسا وبريطانيا. وفي هذه الأثناء قرّر البريطانيون اللعب بالكثير من الأوراق لإضعاف الدولة العثمانية. كان من ضمن هذه الأوراق اعتمادهم على الشريف حسين بن علي في الحجاز، بعدما وعدوه بأن يكون ملكاً على العرب إذا أشعل الثورة العربيّة الكبرى ضدّ الدولة العثمانية.
بعد أقلّ من 10 سنوات من هذه الأحداث، وبعدما علم الشريف حسين أن بريطانيا خدعته هو والعرب تماماً، أبحر في 3 أكتوبر/تشرين الثاني عام 1924 إلى جزيرة قبرص، في منفاه الاختياري، بعد أن تلقى ومعه العرب ضربة الغدر من حلفائه المزعومين، كان هذا الخطأ -بشكلٍ أو بآخر- سبباً في تقسيم المنطقة العربية كلها بعد الحرب العالمية الأولى.
ويقول المؤرخ والمؤلف الأمريكي ديفيد فرومكين، في كتابه الشهير "سلام ما بعده سلام" الذي تحدث بشكلٍ موسَّع عن نشأة الشرق الأوسط الحديث أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى:
"حدود الدول الحالية رسمت بالأساس لرعاية مصالح بريطانيّة وفرنسيَّة بغضّ النظر عن مصالح وآمال شعوب المنطقة التي كان يتم تجاهلها أو إنكارها من قبل المسؤولين الأجانب. هذا الأمر الذي لم يدركه الشريف حسين الذي صدق وعود أعظم دولة استعمارية في ذلك الزمن".
بداية القصة: الخوف من العثمانيين
بدأت القصة عندما أعلنت الدولة العثمانية دخولها الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا في 29 أكتوبر 1914، الأمر الذي أثار مخاوف كبيرة لدى بريطانيا، لا سيما المسؤولين الذين كانوا يخدمون في المنطقة العربية وأبرزهم وزير الحربية هربرت كتشنر والذي كان يشغل سابقاً منصب القنصل البريطاني المعتمد في القاهرة قبل أن يحل محله السير هنري مكماهون في القاهرة.
كانت مخاوف كتشنر تتمثل في القلق بالطبع من فوز العثمانيين، ما يعني أن تعود الوحدة الإسلامية وتزيد رقعة المسلمين السنة الذين يتبعون السلطان العثماني ويعتبرونه خليفتهم، حتى ولو لم يكن صاحب القرار الفعلي، الأمر الذي سيهدد بقاء بريطانيا في مصر والهند وآسيا كاملة.
لذلك اقترح أن يبدأوا في البحث عن بديلٍ للخليفة العثماني بشرط أن يمتلك مقوِّماتٍ مُقنِعَة لعموم المسلمين ليضمنوا عدم ثورة العرب عليهم.
كانت مكّة والمدينة لفترةٍ طويلة تاريخياً بيد الأشراف من نسل الحسن والحسين، وهكذا كان هناك شريف يدير مكّة وشريف يدير المدينة، وأحياناً كان شريف مكّة يديرهما معاً. استمرّ هذا النظام لمئات السنين، فقد كان هو المعمول به أيام دولة المماليك في مصر والشام وورثة العثمانيون أيضاً.
كان الشريف الحسين بن علي أميراً لمكّة العثمانيّة في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، وبعدما أطاحت حكومة الاتحاد والترقِّي التركيّة بالسلطان عبدالحميد بدأت في فرض بعض سياسات التتريك على العالم العربي، وكانت تنتوي كذلك الإطاحة بالشريف حسين من إمارته لمكّة.
لم يكن هناك شخصٌ مناسب لدور الخليفة أكثر من الشريف حسين بن علي. فهو أولاً من نسل النبيّ وسيجعل له ذلك سلطة روحية كبيرة على المسلمين. وثانياً هو الآن في علاقة متوترة للغاية مع الحكومة العثمانية التي يسيطر عليها ضباطٌ أتراك. وهكذا وضع اختيار الضباط البريطانيين على الشريف حسين ليضربوا به "الخليفة العثماني".
شرع وزير الحربية كتشنر في مراسلة أمير مكة وابنه فيصل في خريف عام 1914 وانتهت المراسلات بينهما إلى شروطٍ مرضية للطرفين.
كانت بريطانيا تخشى من السلطة الروحية للسلطان العثماني، فإذا أعلن السلطان "الجهاد المقدّس" ضد المحتل البريطاني سينتفض المسلمون في أغلب المستعمرات البريطانية والفرنسية، وهكذا إذا أعلن الشريف حسين أنه سيكون ملكاً للعرب بدلاً من السلطة العثمانيّة فإنّ ذلك سيحيِّد العرب وسيمنعهم من الجهاد ضد بريطانيا.
كان الغرض من التحالف مع الشريف حسين بالأساس ألا يستخدم مكانته الروحية بالطبع ضد بريطانيا، بل أن يهدد المصالح العثمانية مباشرةً بأن يسحب بساط السلطة الروحية من تحت قدم السلطان العثماني.
وفي صيف 1915 أرسل الشريف حسين بن علي رسالةً إلى كتشنر يطالب فيها بأن تصبح الأجزاء العربية في قارة آسيا كلها مملكةً مستقلةً تحت حكمه، وأوضح لهم بأنه لا يريد أن يكون خليفةً المسلمين، بل ملكاً على العرب.
لم يرُق هذا للجانب البريطاني، فقد كانوا ينظرون إلى هذه المنطقة بأنها ستكون تركةً لهم استحقوها من الدولة العثمانية بعد إنتهاء الحرب. لكن لا بد من أن تكتمل الخديعة، لذلك قرر السير مكماهون إكمال الخديعة بإعطاء الشريف حسين وعوداً وبدأت هنا المراسلات الشهيرة تاريخياً باسم مراسلات حسين-مكماهون، التي طمأنه فيها وأخبره بأن مسألة الحدود بشكلها النهائي سيتم مناقشتها بعد انتهاء الحرب.
ومراسلات الحسين-مكماهون هي 10 رسائل متبادلة في الفترة من 14 تموز/يوليو 1915 إلى 10 آذار/مارس 1916 أثناء الحرب العالمية الأولى بين الحسين بن علي شريف مكة والسير هنري مكماهون المعتمد البريطاني في مصر.
وقد وافقت فيها الحكومة البريطانية على الاعتراف باستقلال العرب في القسم الآسيوي من العالم العربي، ما يعني شبه الجزيرة العربية (نجد والحجاز على وجه الخصوص) وكذلك بلاد الشام، مع احترام "مصالح بريطانيا في جنوب العراق" وهي المنطقة الجغرافية التي تبدأ في بغداد وتنتهي بالساحل الشمالي للخليج العربي وعدا عدن المحمية بعد الحرب العالمية الأولى.
كان المقابل لكل هذه الوعود هو إشعال شريف مكة الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية.
بريطانيا تشعل الثورة العربية الكبرى
اشتعلت الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية في 10 يونيو/حزيران 1916، حينما أعلنها الشريف الحسين بن علي في مدينة مكة وأطلق رصاصته الأولى، وامتدت إلى جدة والطائف والمدينة وظنّ أنها ستمتدّ في بلاد الشام والعراق وتؤثر في الأحداث.
ومنذ إعلان الثورة التي تشرف عليها بريطانيا بشكل واضح، أمدت بريطانيا الشريف بالمال والسلاح وتحرك الأسطول البريطاني فوراً على طول ساحل الحجاز ليمنع وصول الأسطول التركي والألماني، وكان البريطانيون يتوقعون بأن هذا الدعم سيكون مرحلي؛ نظراً لأن الشريف حسين وابنه فيصل أكدا للإنجليز أن العرب جميعهم سينضمون لثورتهم، وكذلك نصف جنود الجيش العثماني (باعتبار أن نصف الجيش عربي) إن لم يكن أكثر من ذلك، ولكن هذا لم يحدث أبداً.
لم ينضمَّ إلى الشريف حسين في بداية ثورته، إلا بضعة آلاف من رجال القبائل الذين يحصلون على دعم مالي من بريطانيا، ولم يكن لديه جيش نظامي، ولم تؤيده أي من القبائل العربية الأخرى، فقط انضم له بعض الضباط الحجازيين الذين كانوا إما أسرى حرب أو منفيين سابقين أن عاشوا في مناطق خاضعة للنفوذ البريطاني، وكان الشريف في تلك الأثناء يحاول التواصل مع الجانب العثماني والألماني أيضاً للوصول إلى تسوية.
كل هذه الأمور، أحبطت أمال الإنجليز تجاه ثورة الشريف الذين رأوا أنها مضيعة للمال والسلاح في الوقت التي تحتاجه القوات البريطانية، إضافة إلى أنهم اعتقدوا بأن الشريف حسين لم يكن شخصاً يبحث عن القومية أو الاستقلال بالعرب، بل كان يبحث عن تقوية نفوذه وينصب نفسه ملكاً يورث أبناءه من بعده، فبدأوا بصرف النظر عنه وعن ثورته، وكان مارك سايكس مساعد سكرتير مجلس وزراء الحرب البريطاني كان يرى أنه من الضروري دعم الثورة العربية، إلا أنه لم يستطع إقناع بلاده في الاستمرار بالدعم.
وفي تلك الفترة ظهر ضابط المخابرات الإنجليزي توماس لورنس "لورنس العرب" الذي لعب دوراً كبيراً في استكمال الأحداث التي شكلت الوضع العربي لسنوات، حيث آمن بضرورة استكمال المنقوصة، فهي تحتاج لقائد يشعل لهيبها بدلاً من الشريف حسين، ودعم مالي وعسكري من حكومته.
وبالفعل توجه لورنس شخصياً إلى معسكر الأمير فيصل في 21 أكتوبر/تشرين الأول في وادي صفراء القريبة من جدة، استطاع لورنس إقناع العرب بأنه يسعى إلى منحهم الحرية والاستقلال عن الدولة العثمانية، واتفق مع فيصل بأن ينظموا حربهم على شكل حرب عصابات بمساندة بعض القوات الإنجليزية والفرنسية، تشل حركة العثمانيين في المنطقة، وتساعد الإنجليز في تحقيق النصر، وبالفعل نجح في تنظيم سلسلة من الضربات الموجعة للعثمانيين في المنطقة، أبرزها نسف قطار الحجاز كان آخرها في 1 أكتوبر 1918 في دمشق.
الثورة العربية الكبرى أم الخديعة البريطانية الكبرى؟
كان دور ضابط المخابرات البريطاني توماس إدوارد لورنس والمشهور باسم "لورنس العرب"، أن يطمئن الشريف حسين حول وعود بريطانيا له، وكذلك صَرف انتباههم عن الاتفاقيات الأخرى التي تبرمها بلاده في الوقت ذاته لتقسيم المنطقة العربية.
كانت أبرز هذه الاتفاقيات سايكس-بيكو بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية في مايو/أيّار عام 1916 التي كانت بالطبع خيانةً بريطانيّة للشريف حسين.
وقد حرص الدبلوماسي البريطاني سايكس في برقيةٍ أرسلها إلى وزارة الخارجية بلندن في 17 مارس/آذار 1916 على التوصية بكتمان بنود الاتفاقية عن زعماء العرب. كلّ هذا بالطبع إضافةً إلى وعد بلفور في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 الذي تكفَّل بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
على الرغم من تحذيرات الأمير فيصل المتكررة لوالده من عدم ثقته ببريطانيا، إلا أن والده كان دائماً ما يثق بوعودها التي ينقلها له لورنس العرب. وبسبب ذلك حرصت بريطانيا وفرنسا على جس نبض الشريف، فقابله الدبلوماسيان البريطاني سايكس والفرنسي بيكو في 24 مايو 1917 ليستطلعا رأيه بخصوص مدى قبوله سيطرةً فرنسيَّةً على سوريا، فكان رده أنه لا يمكنه أن يكون طرفاً في عملٍ يرمي إلى تسليم مسلمين لحكم مباشر من قبَل دولة غير مسلمة.
جاءت فرصة للعرب للتيقُّن من المكيدة الإنجليزية عقب إندلاع الثورة البلشفية الروسية في أكتوبر 1917. فقد نشر الثوّار الوثائق السرية التي عثروا عليها في مقر وزارة الخارجية الروسية بالعاصمة بتروغراد، ومن بينها اتفاقية "سايكس-بيكو"، أرسل العثمانيون بنود الاتفاقية إلى الشريف حسين، فبادر للاستفسار عن حقيقة الأمر من "حلفائه" البريطانيين فأخبروه بأن هذه الاتفاقيات قديمة ولم تكن سوى حبر على ورق. فصدّقهم!
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، كشفت بريطانيا عن وجهها الحقيقي ولم تفِ بأيٍّ من وعودها للشريف حسين بل طعنته طعنة تليق باستعمار وليس حليف بالطبع.
لم يصبح الشريف حسين ملكاً على العرب ولا على أيِّ دولةٍ عربية وبقي في الحجاز كما كان شريفاً لمكّة، بل إنّ البريطانيين كانوا من الخلف يدعمون منافسه عبدالعزيز آل سعود الذي فاز في نهاية الأمر وطرد الشريف من بلاد الحجاز كلّها.
أما ابنه الأمير فيصل بن الشريف حسين فأعلن تأسيس حكومة عربية في دمشق عام 1918 وأصبح ملكاً على سوريا، إلا أنه وبموجب اتفاقية سايكس-بيكو زحفت الجيوش الفرنسية باتجاه دمشق بعد أن نزلت بالساحل اللبناني، واحتلّت سوريا في 24 يوليو/تموز 1920، وطردت الملك فيصل من هناك، وفي 23 يونيو/حزيران 1921 وصل الأمير فيصل إلى العراق وتوج ملكاً عليها بترشيحٍ من الإنجليز.
أما الأمير عبدالله الأول نجل الشريف حسين، فقد وصل إلى مَعان عام 1920 حيث لقي ترحيباً من أهالي شرق الأردن ونشر جنده وأسَّس إمارة شرق الأردن عام 1921 التي نعرفها اليوم باسم المملكة الأردنية الهاشميّة، وأصبح الأمير علي بن الحسين ملك الحجاز وآخر ملوكها الهاشميين حتى عام 1925 بعدما هزمه عبدالعزيز آل سعود وأسس المملكة السعودية الحالية.
أما الشريف حسين فقد كان برفقة ولده علي في الحجاز حتى عام 1924، وكان يرفض جميع قرارات بريطانيا التي وصفها بالخائنة، وقد اعترض على قرار الانتداب على فلسطين توطين اليهود هناك، وامتنع عن التوقيع على معاهدة فرساي.
وهي المعاهدة التي كشفت بصورة رسمية عن وقائع الحرب العالمية الأولى. وتم التوقيع على المعاهدة بعد مفاوضات استمرت 6 أشهر بعد مؤتمر باريس للسلام عام 1919. وقّع الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى من جانب اتفاقيات منفصلة مع القوى المركزية الخاسرة في الحرب. تم توقيع الاتفاقيات في 28 يونيو 1919، وقد حضر لورنس المؤتمر كأحد أعضاء الوفد البريطاني ومترجم للأمير فيصل ابن الشريف حسين.
وهنا تخلت بريطانيا عن "حليفها" السابق بشكلٍ تام، ووجهت دعمها كله لأمير نجد، عبدالعزيز آل سعود، الذي اجتاح الحجاز عام 1924، ما اضطر الشريف إلى الهرب إلى العقبة ليجبره الإنجليز بعدها على مغادرتها ليعيش في منفاه في جزيرة قبرص عام 1925، وأقام فيها 6 سنين، ثم مرض فعاد إلى عمّان بصحبة ولديه فيصل وعبدالله، وبقي فيها حتى توفي عام 1931 ثم نقل جثمانه ودفن في القدس.