اشتهر محاربو أسبرطة منذ فترة طويلة بصلابتهم وبراعتهم العسكرية ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى معركة "ثرموبيلاي" الشهيرة التي وقعت عام 480 قبل الميلاد، التي صمدت فيها وحدة صغيرة من الجنود الأسبرطيين يقاتلون حتى الموت ضد جيش فارسي أضخم بكثير، وهو ما تناوله فيلم 3oo عام 2007.
وحتى يومنا هذا، لا تزال كلمة "أسبرطي" تستحضر في أذهاننا صورة المقاتل القوي الماهر غير المبالي بالألم والخوف، والذي ربما لا يُقهر.
توضح كيمبرلي دي رايتر، وهي أستاذة مشاركة في التاريخ القديم والعصور الوسطى بجامعة "ستيتسون" الأمريكية، أنَّ "دول المدن الإغريقية الأخرى كانت تمتلك أيضاً جيوشاً رائعة، لكن الغالبية العظمى أقرَّت أنَّ مقاتلي أسبرطة هم الأفضل". وفقاً لما ذكره موقع History الأمريكي.
أسبرطة.. المدينة الصغيرة التي حكمت العالم القديم!
لنعد معاً إلى الوراء قليلاً، بل إلى الوراء كثيراً عندما تأسست إسبرطة عام 900 ق.م باعتبارها مدينة من ضمن المدن/الدول المرتكزة في اليونان الحالية. وقد بلغت أسبرطة ذروة قوتها في الفترة بين عامي 550 و350 ق.م. إذ إنها سيطرت في فتراتٍ عديدة على بقية أو أغلب المدن اليونانية.
تعرّضت أسبرطة كغيرها من هذه المدن إلى العديد من الغزوات والحروب، ما جعلها مدينةً عسكريّة في المقام الأول، وهو الأمر الذي احتفظ لها بصيتها الذي استمرّ حتى وقتنا هذا. يقال إنّ المدينة تأسست من قبل أحد أبناء الإله زيوس، ومن المشهور عنها أنّ رجالها لم يحظوا يأيّ تعليم أو ثقافة، وإنما فقط خضعوا لتدريباتٍ عسكرية جعلت منهم جنوداً.
كانت مدينة/دولة أثينا أكثر الدول منافسةً لأسبرطة، وقد قامت بينهما حرب استمرّت ربع قرن. لكنّ أسبرطة وأثينا توحّدتا عندما واجهتا معاً الغزو الفارسي لليونان، واستطاعتا أن تنتصرا في النهاية.
من الجدير بالذكر أنّ كلّ ما نعرفه من تاريخ أسبرطة، فإننا نعرفه من التاريخ الذي كتبه منافسوها مثل أثينا، فلم يحفظ لنا الزمن أيّة سجلات تاريخية موثقة من أسبرطة.
ترموبيل.. المعركة التي حفظت لأسبرطة صورتها العسكرية
ربما شاهدت فيلم 300 وعرفت قصّة المعركة، وهي أنّ 300 محارب فقط من أشدّ محاربي أسبرطة استطاعوا أن يعيقوا تقدّم الجيش الفارسي الضخم، الذي يعتقد البعض أنّه كان مليون جندي، والبعض يعتقد أنّه كان ربع مليون جندي فقط.
في كلّ الحالات، لم تكن المعركة متكافئة بالطبع. ورغم أنّ الفيلم قد زاد بعض التفاصيل وأخفى بعضها أو جمّل بعضها من أجل السياق الدرامي، إلا أنّ المعركة أرّخها المؤرخ الشهير هيرودوت، والمعروف بأبي التاريخ.
كان الصراع الفارسي اليوناني قد بدأ منذ عدّة سنوات، واستمرّ منذ 499 وحتّى 449 ق.م. أي 50 عاماً من الصراع والغزو. كانت الإمبراطورية الفارسية الأخمينية في أوجها، بينما كان اليونانيون مدناً ودويلات منفصلة عن بعضها البعض.
صحيح أنّ المعركة التي تناولها الفيلم كانت معركةً ملحمية بكلّ المقاييس، فقد استطاع محاربو أسبرطة عرقلة تقدم الجيش الفارسي، لكنّ الفيلم لا يحكي لنا بقيّة القصّة!
فقد قتل الأسبرطيون وتقدّم الجيش الفارسي، وتوجه الفرس واليونانيون في معركة اسمها آرتيميس، وانتهت أيضاً بخسارة الجيش اليوناني خسارةً ضخمة، ما سمح للفرس بالسيطرة على عدة مدن يونانية أخرى.
اتحدت المدن اليونانية في النهاية، وحاربوا الجيش الفارسي وهزموه في معركةٍ بحرية من أهم المعارك البحرية في التاريخ، تسمى معركة سلامينا. حسم الصراع، والآن نعود للنظام العسكري الذي كان يخضع له أطفال أسبرطة ليصبحوا محاربين بالفطرة.
لتكون من أسبرطة فالتدريب يبدأ في سن مبكرة
الآن لنجيب عن السؤال: كيف أصبح الأسبرطيون مذهلين لهذه الدرجة؟
يتمثَّل أحد العوامل في نظام التربية والتدريب والتأهيل البدني لأطفال أسبرطة المعروف باسم "agoge"، والذي استخدم أساليب قاسية وعنيفة وأحياناً وحشية لإعداد الأطفال الذكور ليكونوا مواطنين وجنوداً أسبرطيين.
كتب المؤرخ الكندي مارك غولدن: "كان نظام agoge يهدف إلى غرس الفضائل العسكرية المُتمثّلة في القوة والتحمّل والتكاتف، لكنَّه حقَّق ذلك بتكلفةٍ باهظة من خلال تحويل طفولة الأولاد الأسبرطيين إلى ما يمكن اعتباره حالياً تجربة مؤلمة وقاسية".
ووفقاً للمؤرخ اليوناني القديم بلوتارخ الذي أرَّخ عدة قرون تلت أزهى عصور أسبرطة في القرن الرابع قبل الميلاد، بدأ الأسبرطيون تدريب الأطفال بعد وقتٍ قصير من الولادة.
يفحص مجلس شيوخ أسبرطة الأطفال الذكور ويُسمح فقط للأطفال الأصحاء الأقوياء البنية بالبقاء على قيد الحياة، في حين يُترك أولئك الذين اُعتبروا غير أصحاء أو مشوهين عند سفح الجبل ليموتوا!
يُسلّم الآباء الأسبرطيون أبناءهم في عمر 7 سنوات إلى الدولة، التي تولَّت تنظيمهم في مجموعات تعيش وتدرس وتتدرب معاً.
كتب بلوتارخ قائلاً: الفتى الذي يتفوَّق في تقييم الأمور وإصدار الأحكام ويُظهر شجاعة أكبر في القتال يُعيّن قائداً للمجموعة ويمتثل بقية أفراد المجموعة لأوامره ويخضعون لعقوباته. كان هذا النظام بمثابة تدريب على ممارسة مبدأ السمع والطاعة للقيادة.
ولكن بينما صوَّر بلوتارخ الفتيان الأسبرطيين على أنَّهم لم يتلقوا سوى القليل من التعليم والثقافة، يقول ستيفن هودكينسون، الأستاذ الفخري في التاريخ القديم بجامعة "نوتينغهام" البريطانية، إنَّ هناك تلميحاتٍ في مصادر أخرى تفيد بأنَّهم تلقوا "التعليم الابتدائي الأساسي الإغريقي في القراءة والكتابة والأرقام والأغاني. بل والرقص".
وفقاً لبلوتارخ كان الأولاد كانوا يُجبرون على السير حفاة القدمين لجعلهم أكثر صلابة ونادراً ما يستحمون أو يستخدمون المراهم حتى تصبح بشرتهم جافة وقاسية.
أما بالنسبة للملابس فقد كان يُعطى لهم عباءة واحدة فقط سنوياً لارتدائها طوال العام لتعزيز قدرتهم على تحمّل الحرارة والبرودة، وكانوا يصنعون أسرَّتهم الخاصة بهم من جذوع نباتات كان يتعيَّن عليهم اقتلاعها من الأرض بأيديهم العارية من على ضفاف النهر.
ووفقاً لبلوتارخ أيضاً، فقد كان مطلوباً من هؤلاء الصغار طوال فترة نموهم ممارسة المزيد من التدريبات لبناء أجسادهم.
أمّا دونالد جي كايل مؤلف كتاب "Sport and Spectacle in the Ancient World"، فيقول إنَّ شباب أسبرطة كان يتعيَّن عليهم الخضوع لعمليات تفتيش منتظمة وهم عراة تماماً، ويُفرض على أولئك المفتقرين إلى القدر الكافي من اللياقة البدنية عقوبة الجلد بالسوط.
ولكي يكون النظام محكماً، فإنّ نظام agoge الذي يجعل الأسبرطيين يسلمون أطفالهم في سن السابعة، كان هو أحد الأسباب التي تمنح الطفل امتياز أن يكون "مواطناً" أسبرطياً. فمن غير اجتياز هذا التدريب البدني الإجباري لن يكون الطفل مواطناً في أسبرطة.
محاربو أسبرطة.. عليهم تحمّل المنافسات الوحشية
بالإضافة إلى مسابقات الجري والمصارعة في أسبرطة، فقد تضمّنت رياضات الأسبرطيين مسابقة وحشية أخرى، يحاول فيها فريقان طرد بعضهما الآخر خارج الجزيرة من خلال الدفع والركل والعض وخداع الخصوم.
أُجبر الأولاد على اتّباع نظام غذائي هزيل أيضاً. وفي هذا الصدد، يشير زينوفون، الفيلسوف والمؤرخ اليوناني القديم الذي عاش في الفترة من أواخر القرن الرابع منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، إلى أنَّ الهدف من ذلك كان الحفاظ على قوام الأطفال نحيفاً وممشوقاً، الأمر الذي سيساعد في تنشئة جيل من الجنود طوال القامة، على حسب اعتقاد ليكرجوس، مؤسس هذا النظام العسكري في أسبرطة.
لكنّ تجويع الأولاد كان يهدف أيضاً إلى تحفيزهم على سرقة الطعام من الحدائق والأماكن الأخرى لكي يتقنوا مهارات التحايل للحصول على الإمدادات الغذائية، وتتعزّز قدراتهم في منازلة الرجال. يُعاقب الأولاد بالجلد في حال ضُبطوا وهم يسرقون للتأكّد من أنَّهم أتقنوا المكر والخداع.
كانت مثل هذه العقوبة القاسية جزءاً بارزاً من نظام التدريب الإسبرطي، حتّى إنَّ الأسبرطيين حوّلوها إلى طقس سنوي، حيث يحاول الأولاد سرقة الجبن من مذبح المعبد، وهو ما كان يتطلّب منهم الإفلات من الحُرّاس المسلحين بالسياط.
وأيضاً فقد مثَّلت عقوبة الجلد بالسوط اختباراً للشجاعة وقوة التحمل، إذ كان الفتيان يتطلّعون إلى إظهار مدى ثباتهم وقوة تحملهم علناً.
يمكننا ببساطة أن نستعير وصف بول كارتليدج، الأستاذ الفخري في الثقافة اليونانية القديمة بجامعة "كامبريدج" عندما وصف النظام الأسبرطي Agoge بأنَّه: محاكمة بالتعذيب.
ولكن هل كان مقاتلو أسبرطة هم الأفضل على الإطلاق؟
على وجه الدقة، لم يتضمن نظام Agoge تدريباتٍ عسكرية جدّية حتى يصبح الأولاد الصغار جنوداً بالغين.
كان التركيز الحقيقي ينصبُّ على إعداد الذكور الأسبرطيين ليكونوا أعضاءً ممتثلين لقواعد المجتمع وعلى استعداد للتضحية بكل ما لديهم من أجل إسبرطة. على عكس الدول/المدن اليونانية القديمة الأخرى كانت أسبرطة استثنائية في استقرارها الاجتماعي والسياسي. ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى نظام التربية الذي يغرس في الأولاد سلوكيات تُشجّع على الانسجام والتعاون المجتمعي.
لكنّ تركيز نظام التعليم في أسبرطة على اللياقة البدنية ساعد الجنود الأسبرطيين في ساحة المعركة. فقد جعلهم أقوى وأشد صلابة وأفضل في عمليات الدفع والاقتحام وأكثر قدرة على تحمّل وزن الدرع الثقيل في شمس الصيف.
ومع ذلك، لم يكمن السر الحقيقي لبراعة أبناء أسبرطة في اللياقة البدنية أو عدم الاكتراث بالألم والمعاناة فقط، بل إنّ السرّ يكمن في: تفوّق التنظيم.
تلقَّى الجنود الأسبرطيون تدريبات بلا هوادة حتى أصبحوا قادرين على تنفيذ التكتيكات بإتقان. ولذلك فربما كان التدريب على المناورات التكتيكية هو ما حقَّق للجنود الأسبرطيين التفوق في ساحة المعركة، وليس القوة الجسدية واللياقة.
فقد كان الجيش الأسبرطي يستطيع تنفيذ مناورات يعجز عن تنفيذها الآخرون بفضل براعة تدريباتهم. وفقاً لما ذكره الفيلسوف زينوفون.
واصل الجنود الأسبرطيون البالغون التدريبات العسكرية المنتظمة طيلة حياتهم. ولم يُسمح لأي رجل أسبرطي أن يعيش كما يحلو له. كان هناك التزام دائم بنظام مُحدّد منصوص عليه. فلم يُسمح للأسبرطيين بالتقاعد من الخدمة في الجيش إلا عند بلوغ سن الستين –في حال عاشوا كل هذه المدة ولم يقتلوا في المعارك.
على عكس الأسطورة.. أسبرطة لم تكن منيعة لا تقهر
أدّى الاستقرار الذي عزَّزه نظام Agoge إلى قدرٍ معيَّن من انعدام المرونة. على الرغم من كفاءة المقاتلين الأسبرطيين. فقد كانوا يعتمدون بشدة على مجموعةٍ محدودة من المناورات، التي في حال فشلت جميعها، يعجزون عن وضع خطةٍ بديلة.
وبعيداً عن ساحة المعركة، تسبَّب القبول الصارم للوضع الراهن الذي فرضه النظام التعليمي الأسبرطي في جعل الأسبرطيين يواجهون صعوبة عند التعامل مع المشكلات الاجتماعية الموجودة داخل مجتمعهم، مثل عدم المساواة في حق حيازة الأراضي وانخفاض عدد السكان.
فقد نتج عن هذا النظام نوع من الانغلاق المفهومي، حيث لم يستطع الأسبرطيون تخيُّل أي نوع آخر من الحياة غير الحياة التي حفظوها وعاشوها. وقد جعل هذا تقبّل الابتكار في تكتيكات الحرب أو السياسات أمراً بالغ الصعوبة على الأسبرطيين.
من هذا المنطلق أصبح النظام الذي ساعد الأسبرطيين ليكونوا مقاتلين أشداء للغاية، قد ساهم أيضاً في السقوط النهائي لأسبرطة.
في عام 371 ق.م هزمت طيبة وهي دولة/مدينة منافسة أسبرطة في معركة "ليوكترا" باستخدام المناورات المبتكرة لسلاح الفرسان التي افتقر مقاتلو أسبرطة إلى المرونة اللازمة لمواجهتها. أنهت تلك المعركة الهيمنة العسكرية لأسبرطة على الرغم من محافظتها على سمعتها المهيبة في المجال القتالي على مر التاريخ.