منذ بدأ الإنسان ينتظم في جماعات كان هناك دائماً صراعات بينه وبين بني جنسه، وهذه الصراعات هي ما جعل البشر يتجهون إلى القوة والمواجهات المسلحة التي تحولت إلى حروبٍ عاتية عانت معها الإنسانية كلها في كل العصور تقريباً.
وعندما ابتكر الإنسان الأول الأسلحة لحماية نفسه؛ أو حتى لمعاونته في مهام حياته اليومية، بدا أن الأمر ليس كافياً تماماً للانتصار في الحروب، وسخَّرت عقول البشر طاقتها لابتكار أدوات وآلات أكبر حجماً وتأثيراً لتغيير دفة المعارك من الهزيمة إلى النصر.
هنا يتناول تقريرنا تطوُّر أشكال الآلة الحربية الثقيلة التي ظهرت في العصور القديمة، وكان لها تأثير كبير على نتائج الصراعات والحروب، وبرغم أنها آلات ابتُكرت بالأساس للتدمير وأغراضه؛ إلا أن هذا لم يخفِ مهارة الإنسان القديم، وقدرة عقله على الابتكار حتى في آلات الحرب والدمار.
قاذفات الأسهم.. صواريخ العصر القديم
ربما سيفاجئك أن تعلم أنّ الأسهم القديمة توازي إصابتها قوّة الإصابة التي تسببها الرصاصة الحديثة، كان هذا وفق ورقةٍ بحثية نشرت منذ أسبوع، وأشرف عليها علماء من جامعة إكستر البريطانية.
ومنذ 5 آلاف سنة، لم تعد الهروات والسيوف والخناجر وحدها كافية بالنسبة للإنسان في صراعه أو في حماية نفسه، أو حتى الصيد. ولهذا كانت فكرة القوس والنبال واحدة من أهم محطات تفوُّق عقل الإنسان وقدرته على تسخير جسده وأدواتٍ من الطبيعة لتحقيق كسب مادي، فقطع بهذا شوطاً طويلاً في عملية صيد الكائنات الأسرع، والأقوى منه وبدون أن يفارق مخبأه الآمن أو يضطر للصراع المباشر.
وفي القرن الثالث قبل الميلاد بدأت بعض الفيالق الإغريقية في اليونان القديمة في تكبير أحجام الأقواس والنبال -ما بين مترين وأربعة أمتار- ووضعها على هياكل قوية من خشب البلُّوط نظراً لصعوبة إطلاقها بواسطة جنديّ واحد.
كان يستخدمها 3 جنود على الأقل؛ اثنان منهم لشدّ الوتر وآخر لإطلاق أسهمٍ ضخمة تشبه الحراب، وكان هذا أول قاذف أسهم كبيرة في التاريخ والذي تطوُّر بعد ذلك في القرن الميلادي الأول بواسطة الرومان؛ الذين جعلوا منه سلاحاً فتاكاً في مهاجمة الحصون.
المنجنيق والمقلاع.. قوة الفيزياء الهائلة
واحد من أوّل أشكال الآلات الحربية التي استخدم فيها الإنسان مبدأ فيزيائي عن الطاقة يتلخص في أنّ اندفاع مقذوف بقوةٍ تُحبَس من خلال ثني فرعٍ من الخشب المرن أو الأحبال المشدودة، وعندما تنطلق الطاقة المخزنة من عملية الشد تتسبب في انطلاق المقذوف بقوة وتسارع محدودين.
وهذا الابتكار -بالإنجليزية Manganel- تطوّر بالأساس عن أول سلاح بشري يطلق المقذوفات ذات كتلة ثقيلة لمسافات أبعد من مكان الرامي؛ وهو القوس الذي يطلق الأسهم والذي يعود تاريخ استخدامه إلى آلاف السنين قبل الميلاد، والذي تطور لاحقاً إلى القوس والنشاب المثبت إلى عارضة محمولة يدوياً، وهو ما تطوّر مباشرة إلى قاذفة الأسهم السابق ذكرها؛ ثم المنجنيق.
بحسب أكثر من مصدر تاريخي فإنّ المنجنيق قد ظهر بشكله المعروف (عبارة عن هيكل خشبي مرفق به عجلات للتحريك، وعصا للشدّ تنتهي بجزءٍ دائريٍّ مقعّر لتحميل المقذوف) في الصين، وتحديداً ما بين القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد، وبعدها استخدمه الرومان والإغريق، وتطورت أشكاله حتى ظهر البديل الذي غير شكل وتاريخ الحروب: البارود.
المقلاع.. الحجم الأكبر
أما المقلاع فهو تنويع آخر للمنجنيق ولكنه ثابت لا يتحرك، وعُرف في العصور القديمة بأنه واحد من أكثر الأسلحة الثقيلة فتكاً، وأكثرها قدرة على دكّ الحصون وإحداث ضرر كبير في الأبنية؛ بخلاف سحقه لأي بشري يوقعه حظه العاثر أمام قذيفته.
اعتمد المقلاع في آليته على شدّ ذراعٍ خشبيٍّ طويلة وحبس "قوة الشدّ المتوترة" بمجموعات من الحبال، وبالطبع تميّز المقلاع عن المنجنيق بالحجم الكبير، والمقذوف الثقيل، وبالتالي الحبال والمشّدات القوية.
وكانت تتطلب تعبئته وإطلاقه خبيراً -عادة ما يكون عالماً أو دارساً لعلوم الطبيعة والرياضيات آنذاك- لحساب اتجاه قذف الأحجار بدقةٍ تقريبية، إذ كان طول ذراع القذف في المقلاع يصل أحياناً إلى 10 أمتار ويصل مداه إلى 300 متر.
وتطوّر المقلاع على يد بعض القبائل الجرمانية المحاربة في أوروبا في القرون الأولى بعدما استخدمه الرومان في الحروب ضد الشرق وتحديداً حصار القدس، كما طوره واستخدمه علماء المسلمين بين القرنين الخامس والسابع الميلادي.
استمر استخدامه وتطويره حتى القرن الثاني عشر وذكر أكثر من مصدر تاريخي من أهمهم كتاب "المغول والعالم الإسلامي" للمؤرخ الأمريكي بيتر جاكسون؛ اعتماد العرب على المقلاع في حروبهم، خاصة ضد المغول في مصر والشام.
المدقّات.. دبابات العصر القديم
المدق Battering ram هو ابتكار عسكري آخر من العصور القديمة، ظهر لأول مرة في الرسومات القديمة الآتية من الحضارة السريانية في بلاد ما بين النهرين منذ حوالي 9 قرون قبل الميلاد.
المدق هو عبارة عن عربة ذات عجلات وهيكل على شكل صندوق -أحياناً ذو سقف هرمي- مفتوح المقدمة والمؤخرة، ومعلّق بداخله جذع شجرة ضخم مدبب الطرف بحيث يتأرجح إلى الأمام والخلف بحرية، ويعمل من خلال شدّ الجذع وإطلاقه ليصطدم بالأسوار أو البوابات الضخمة.
استخدمت المدقات على مدى أكثر من 22 قرناً قبل وبعد الميلاد، ويجدر بالذكر أن للمدقات أثراً كبيراً على تطوير تحصينات القلاع عبر التاريخ، ومن أشهر الحروب التي استخدمت فيها المدقات كان فتح القسطنطينية وسقوط الإمبراطورية البيزنطية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.
واستخدم الجيش العثماني مدقات ضخمة، ومطورة ذات أطراف معدنية لهدم أجزاء من أسوار المدينة الحصينة، والتي انهارت بعد ما يقرب من 55 يوماً من الحصار.
الأبراج الحربية المتحركة.. من شعوب الهون إلى الحملة الصليبية الثالثة
تعود بدايات استخدام الأبراج الحربية أو ما يعرف بأبراج الحصار، إلى قبائل "الهون" The Huns وهي قبائل أوروبية استوطنت غرب أوروبا في القرن الرابع الميلادي أثناء ازدهار الإمبراطورية الرومانية.
واشتهرت قبائل الهون بمحاربيها الأشداء وبراعة قادتها العسكريين في تنفيذ الحصار على الحصون وإسقاطها، خاصة في حروبهم ضد الجرمانيين والقوط.
وخلال حروبهم التي روّعت أغلب الممالك الأوروبية، ظهرت خططهم البارعة في التغلُّب على عقبات علوّ أسوار الحصون والقلاع، فكانوا يبنون أبراجاً خشبية متحركة متينة توازي ارتفاع 3 أشخاص على الأقل -أو أعلى بحسب ارتفاع الأسوار- قبل المعارك بوقت قليل جداً حتى لا يرصدهم العدو من داخل القلاع.
وبعد اكتمال الأبراج تتحرَّك إلى النقاط الأضعف في أسوار الحصون والقلاع، ومن ثم يسهل على الجنود والمحاربين التسلق والتسلل إلى الساحات الداخلية. وبعدها انتشرت فكرة الأبراج في أوروبا كلها واستخدمت في الكثير من الحروب.
وبالطبع كان أشهر مثال استخدمت فيه أبراج حربية كانت الحملة الصليبية الثالثة على العالم الإسلامي بقيادة فرنسا وإنجلترا وعدد من ممالك أوروبا في القرن الثاني عشر، وطورت جيوش أوروبا -إنجلترا تحديداً- أفضل أبراج حربية صنعت في التاريخ آنذاك وبلغ ارتفاعها 4 طوابق؛ أي 12 متراً تقريباً.
واليوم نرى من الأسلحة الثقيلة تنوعاً وقدرات هائلة، ولكنها مثلها مثل أي ابتكار آخر. بدأت بفكرةٍ أولية ثم تطورت لاحقاً إلى أشكال أخرى؛ وهذا يخبرنا أن الإرادة البشرية حيال صناعة آلات الحرب لم تتوقف طيلة التاريخ البشري كله وحتى اليوم، وهو الأمر الذي قد يدفعنا للتساؤل؛ حول المدى الذي سوف يصل إليه الإنسان بابتكاره في هذا المجال.