عُرفت تاريخياً بـ "مذبحة القلعة" أو "مذبحة المماليك" التي فعلها محمد علي، وربما يعرف أغلبنا -بالخطأ- عنها أنّها كانت عشاءً لبضعة أمراء من المماليك، وانتهى العشاء فعاجلهم الجنود بالرصاص من خلفهم، ربما أيضاً لا يعرف أغلبنا أنّ ضحايا هذه المذبحة تجاوزوا 1000 أميرٍ وقائد.
فما هي أسباب هذه المذبحة؟
أصبح محمد علي والياً عثمانياً على مصر، بعدما خلع المشايخ والأعيان المصريون الوالي السابق وأصرُّوا على تولية محمد علي، كان محمد علي سياسياً محنّكاً، لديه أحلامه وآماله في "ولاية مصر" التي أخذها بالتقرُّب للقادة الشعبيين خصوصاً نقيب الأشراف الشيخ عمر مكرم.
كان نظام الحكم العثماني في مصر مركباً بعض الشيء، فهم يعيِّنون والياً عثمانياً يتغيّر كل سنة، كي يضمنوا ألا يتغيّر عليهم ويستقل بمصر.
عادةً لا يتدخَّل هذا الوالي في تفاصيل الحكم الصغيرة التي تركوها للحكام السابقين "المماليك"، ويهتم في الأساس بجمع الضرائب والجزية السنوية التي تذهب للسلطان العثماني في الأستانة "إسطنبول حالياً".
لكنّ محمد علي كان مختلفاً
كان محمد علي طموحاً، وأراد أن يجعل من ولاية مصر مستقراً له ولأسرته من بعده، لهذا لم يكمل على نفس مسار الولاة من قبله، فأراد أولاً أن ينهي نفوذ المماليك في مصر تماماً.
حكم المماليك مصر مدّة 600 عام، قبل دخول العثمانيين إليها كان لكلِّ أمير أيوبيّ عدد من المماليك، بمرور الوقت تربّع هؤلاء المماليك على عرش مصر. وأصبح لكلّ أميرٍ عدد من المماليك والجنود، يشتريهم عبيداً ثم يربيهم ويدربهم ليدينوا له بالولاء والطاعة.
بهذا الشكل كان المماليك مختلفين بينهم وبين بعض، ولم يكن لهم زعيمٌ واحد يقودهم، كانت هذه أولى الثغرات التي أراد محمد علي أن ينفذ إليهم منها.
واستمر الصراع بينهما مدة 5 سنوات
استمر الصراع بين محمد علي المتمركز في القاهرة ووجه بحري، وبين المماليك المستقرّين في جنوبي مصر، في الوجه القبلي، استمر الصراع 5 سنوات، تراوحت فيها بينهما المعارك ليفوز المماليك أحياناً ويفوز محمد علي أحياناً، ويتصالحان أحياناً.
لكنّ محمد علي أراد وضع حدٍّ لهذا الصراع الممتدّ، خصوصاً أنّه رتّب أموره مع السلطان العثماني، وأصبح يديه في هذه المنطقة، لهذا حين طلب السلطان العثماني محمود الثاني من محمد علي المسير إلى أرض الحجاز والقضاء على الحركة الوهابية، تفتّق ذهن محمد علي عن فكرة مروّعة: يجب أن ينهي وجود المماليك تماماً.
إذا كان الوضع هكذا فكيف استطاع محمد علي خداعهم؟
بدأ محمد علي في تطبيق سياسته "فرّق تسُد"، فراسل بعض أمراء المماليك واستمالهم بالمال والأراضي والجواري، واستقدمهم للقاهرة، استطاب هؤلاء الأمراء حياة الترف، وملُّوا من حياة الكرّ والفرّ والصراع، فطاب لهم الحال في القاهرة.
عندما جهّز محمد علي جيشه وعلى رأسه ابنه الأمير "أحمد طوسون" لغزو أراضي الحجاز والقضاء على الحركة الوهابية، تفكّر في وضعه: إذا ذهب جيشه فسيجعله هذا مطمعاً للأمراء المماليك بجنودهم وقوتهم، وهنا أشار عليه الكتخدا بك محمد لاظ أوغلي، بفكرة مذبحة القلعة.
وبدأ الترتيب لمذبحة القلعة
بعث محمد علي رسائله لأمراء المماليك في القاهرة وباقي الأمصار أن "يشرّفوه" بحضورهم لمناسبة خروج جيشه لمحاربة الحركة الوهابية بقيادة ابنه الأمير "أحمد طوسون"، وأخبرهم في رسائله أنّه لشرف عظيم لابنه أن يخرج على رأس جيشٍ حضر خروجه من مصر كبار أمراء المماليك.
لم يظن أمراء المماليك أنّ محمد علي يخبِّئ لهم غدراً، إلا قليلاً من كبارهم في الصعيد قرروا ألا يأتوا للقاهرة، لكنّ أغلبهم ذهب.
استقبلهم محمد علي في القلعة، كانوا يلبسون ثياباً فخمة، مرتدين سيوفهم وبقية الزينة التي يلبسونها في مثل هذا اليوم، لكنهم لم يكونوا في كامل سلاحهم. شرب محمد علي معهم القهوة، وتجاذبوا معاً أطراف الحديث، ثمّ بدأ الجيش في الخروج فخرج الأمراء خلف الجيش.
كان سكان القاهرة ينتظرون خروج الجيش، يزيِّنون الشوارع، يلهو الأطفال وينتظر الكبار خروج الجيش المظفّر في حملته، خرج أحمد طوسون بفرقته العسكرية، هنا وفجأة أغلق بابُ العزب، وهو الباب الذي خرج منه الجيش.
كان الممر يتّسع فقط لمرور 3 فرسان لا أكثر، لم يعرف المماليك أنّ الباب أغلق، واستمرُّوا في تقدّمهم، وفي لحظةٍ مفاجئة استدار الجنود الذين يتقدمون المماليك "فرقة الجند الأرناؤوط" وفتحوا عليهم الرّصاص.
كان مشهداً مهولاً ومرعباً
بدأت الرصاصات تحصد أرواح الأمراء، المرتدين ملابسهم الغالية الأثمان، المسلّحين بأجمل السيوف وأروعها، بدأ الصراخ، وبدأ الجميع يتداعى، والخيول تموت من أثار الرصاص أو الدهس.
تكدّست جثث الأمراء المماليك وقادتهم العسكريين وضباطهم في هذا الممرّ، ووفقاً لما يحكيه المؤرخ المصري عبدالرحمن الرافعي، في كتابه "عصر محمد علي" فقد تكدّست الجثث حتى أصبح ارتفاعها بالأمتار!
حاول بعض الأمراء الهرب بالتسلٌّق على السور، وقد نجح أحدهم بالفعل "شاهين بك الألفي" في التسلُّق هو وبعض مماليكه حتى وصل باب القصر إلى أن لحقته رصاصة أردته قتيلاً. كذلك وصل الأمير "سليمان بك" إلى باب الحريم مضرّجاً بدمائه واستغاث إلا أنّ الجند عاجلوه بقطع رأسه.
تبقَّى عددٌ قليل لم يُقتل في المذبحة، فقادهم الجندُ إلى لاظ أوغلي بك، فأعدموا بقطع الرؤوس فوراً.
كيف كان ردّ محمد علي حينها؟
وفقاً لما يرويه الرافعي في كتابه، فإنّ محمد علي كان متجهماً قلقاً في ذلك اليوم، وما إن انطلقت الرصاصة الأولى إيذاناً ببدء المذبحة حتّى تلبّسه الصمت، وحين زفّوا الخبر إليه بأن المذبحة قد تمّت طلب أن يشرب ماء وظل صامتاً متجهماً، منتظراً لما ستأتي به الأيام.
بالطبع لم ينتهِ الأمر، فسكّان القاهرة الذين انتظروا خروج الجيش محتفلين، سمعوا خبراً مفاده بأنّ شاهين بك قد قُتل، وبدأت الأخبار تتسرّب لحواري القاهرة وشوارعها، فأغلق الناس الحوانيت والدكاكين، خوفاً من النهب الذي سيحدث. وقد كان.
بدأ الجند الأرناؤوط، الذين نفذوا المذبحة في نهب كل بيوت الأمراء المماليك، وجنودهم وضباطهم، واغتصبوا نساءهم، وما إن علم محمد علي حتّى نزل هو وابنه طوسون إلى الشوارع ليوقفوا عمليات النهب.
يقول الجبرتي: "ولولا نزول الباشا وابنه في صبح ذلك اليوم لنهب العسكر بقية المدينة وحصل منهم غاية الضرر". نزل محمد علي فنهى العسكر عن النهب، ومن استمر منهم في النهب قطعت رأسه.
لكنّ الكثير من الرحالة الأجانب، والمؤرخين لم يفوّتوا تلك المذبحة دون أن يصفوا محمد علي بالعنف والوحشية، حتّى إنّ بعض الحكايات -لم نستطع أن نتثبت منها- روت أنّ زوجة محمد علي حين علمت بالمذبحة اعتزلته طوال عمرها وحرّمت نفسها عليه.
لكن هناك مملوكاً واحداً استطاع الهرب.. فكيف حدث ذلك!
في خضمّ هذه المعركة استطاع مملوكٌ واحد أن ينجو من هذه المذبحة، هو "أمين بك"، بعدما سمع الرصاص في المقدمة وكان هو في الخلف، استطاع الهرب بحصانه، حتّى وصل ساحة القلعة، ولم يكن له مهرب سوى الموت.
فقرر القفز بحصانه من فوق سور القلعة، رغم ارتفاعها العالي (60 متراً)، وحينما قارب الوصول للأرض قفز من فوق حصانه، فمات الحصان من لحظته، واستطاع هو أن يكمل هربه حتّى وصل سوريا، وأكمل حياته هناك.
ما هي نتائج هذه المذبحة؟
بهذه المذبحة، استطاع محمد علي أن يؤكّد سطوته ويدعّمها، فقد تخلص من السلطة الشعبية المتمثلة في الشيخ عمر مكرم، بنفيه، واستطاع تثبيت أقدامه كوال عثماني لدى السلطان، ولم يتبقَّ أمامه سوى المماليك الذين قضى عليهم في تلك المذبحة.
في ذلك اليوم دخل 470 من المماليك، ولم يخرج سوى أمين بك الذي هرب، وخلال اليوم اللاحق اكتمل قتل ما يقارب 500 مملوك، بعض الروايات تخمّن أن إجمالي القتلى وصل 1500 من المماليك.
استمرّ محمد علي في الحكم بعد هذه المذبحة حوالي 30 عاماً اخرى، واستطاع أن يؤرِّق السلطان العثماني، وخرج عليه وحاول أن يستقل بمصر لولا التحالف العثماني الفرنسي البريطاني الذي أوقفه عند حده، عام 1840م.