يعيش قطاع غزة حصاراً خانقاً وقيوداً أمنية مشددة منذ 18 عاماً، بلغ أشد فتراته قسوة وأفظعها أثراً خلال العدوان الأخير المستمر منذ الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ويعرّف الحصار بأنه عملية تطويق منطقة معينة، تهدف على مر التاريخ إلى حمل المدن المحاصرة على الاستسلام والخضوع للمحتل.
في هذه المادة نعرض لكم مجموعة من المدن التي دارت فيها معارك ضارية انتهت بهزيمة العدوّ وخروجه خائباً من أرضها:
"جنان قلعة".. المدينة العثمانية الصامدة في وجه الإنجليز
المعركة تخالف التوقّعات
معركة جنان قلعة أو معركة "جاليبولي" كما يسمّيها العثمانيون، هي معركة دارت في 17 فبراير/شباط عام 1915 وانتهت في 9 يناير/كانون الثاني عام 1916 بشبه جزيرة غاليبولي التركية.
خلال الحرب العالمية الأولى (عام 1915)، عزمت كل من بريطانيا، وفرنسا، وأستراليا ونيوزيلندا على احتلال القسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية آنذاك.
وسعياً للظفر بنصر تاريخي شنت مجموعة دول الحلفاء حملة عسكرية أطلقوا عليها حملة جاليبولي، حشدوا فيها جميع جيوشهم وقواهم، وقد قاموا للتجهيز لمعركتهم بخيرة السفن والأساطيل استعداداً للهجوم البحري.
غير أن هذه المعركة خالفت توقعاتهم حين انتهت بالانتصار لصالح الجيش العثماني على قوات التحالف بقيادة الإمبراطورية البريطانية، بخسارة من جانب التحالف قدّرت بما يقارب 300 ألف جندي، في حين استشهد من الجانب العثماني ما يقارب 250 ألف جندي.
عندما وصل الأسطول إلى مياه مضيق الدردنيل، وهو من أهمّ المضايق في العالم المستخدمة في الملاحة الدولية، حيث يربط بحر مرمرة ببحر إيجة بالبحر المتوسط، قاموا برمي القنابل على بعض النقاط العسكرية التركية، وعندما قابلهم العثمانيون بعدم الردّ تقدّموا لشنّ الهجوم المباشر.
هنا حدث ما لم يحسب التحالف حسابه، حيث اصطدم بحقل ألغام مخفي قام بتجهيزه الجنود العثمانيون، وهو ما كلّفهم خسائر فادحة أجبرتهم على إلغاء خطتهم والتراجع.
إثر ذلك قامت بريطانيا وحلفاؤها بتعزيز الهجوم البحري على الدردنيل بهجوم بري، وصلت القوات العسكرية إلى بعض المناطق في شبه جزيرة جاليبولي، لكنها لم تصب في اختيار الأرض المناسبة، حيث أوقعت نفسها في أراضٍ تنحدر تدريجياً نحو ساحل البحر، وهو أتاح للعثمانيين الفرصة لاصطيادهم والقضاء عليهم بشكل حاسم.
الخطة العثمانية.. تنسيق محكم لسحق العدو
يبين لنا التوثيق التاريخي الذي أشرفت عليه وزارة الدفاع التركية، بعنوان "الحركات البحرية التركية في الحرب العالمية الأولى"، كيف نجح العثمانيون في تكبيد الإنجليز والفرنسيين خسائر فادحة في المعدات والأرواح على مدار شهرين ونيف من القتال..
نجاح العثمانيين في اجتثاث محاولة هذا الحصار من جذورها لم يكن صدفة، بل كان نتيجة خطة محكمة ترتكز على قيامهم بحشد السفن والطرادات العسكرية في مواجهة الأعداء من خلف خطوط الألغام البحرية؛ ومن ثمّ تلغيم المضيق، ومضاعفة عدد القوات البريّة ليفوق عددها مئة ألف.
ويذكر أيهان أكتار، عالم الاجتماع والمؤرخ من جامعة بيلجي التركية، في مقال نشرته صحيفة "بي بي سي" بعنوان "في أي ظروف دارت معركة جاليبولي عام 1915، وما هو تأثيرها؟"، أنّ القادة العثمانيين اكتسبوا الروح المعنوية بعد النجاحات التي حققوها في جنان قلعة. وبفضل هذا، تمكنت الإمبراطورية العثمانية من الصمود حتى عام 1918.
مدينة ستالينغراد.. مرّغت أنوف النازيين في التراب
المدينة محلّ أطماع الغزاة
هي واحدة من بين المدن التي قلبت مجرى الحرب العالمية الثانية لصالح قوات الحلفاء. دارت على أرضها واحدة من بين أكثر المعارك الضارية، استمرّت من أغسطس/آب 1942 حتى فبراير/شباط 1943. كان ذلك في شكل حملة عسكرية وحشية بين القوات الروسية وقوات ألمانيا النازية وقوات المحور.
شهدت المدينة قتل أكثر من مليوني جندي، وجُرح ما يقرب من مليوني شخص في المعركة، من ضمنهم الآلاف من المدنيين الروس.
في منتصف الحرب العالمية الثانية، وبعد أن استولت على الأراضي في جزء كبير من أوكرانيا وبيلاروسيا الحاليتين في ربيع عام 1942، وضعت قوات الفيرماخت الألمانية أنظارها على ستالينغراد.
كانت هذه المدينة بمثابة مركز صناعي هام في روسيا، باعتبارها تنتج من بين سلع أخرى، الأسلحة المدفعية لقوات البلاد. كما كان نهر الفولغا، الذي يمر عبر المدينة، طريقاً ملاحياً مهماً يربط الجزء الغربي من البلاد بمناطقه الشرقية البعيدة.
المعركة بدأت..
عندما أعلن هتلر أنه عند الاستيلاء على ستالينغراد، سيتم قتل جميع سكان المدينة الذكور وسيتم ترحيل نسائها، كان المسرح مهيئاً لمعركة دموية شرسة. وجّه ستالين أمراً لجميع الروس بحمل أسلحتهم دفاعاً عن المدينة.
بدأ الجيش السادس للفيرماخت الألماني هجومه في 23 أغسطس/آب 1942، حيث تمكنت القوات الروسية في البداية من إبطاء تقدم عدوّهم عبر سلسلة من الاشتباكات الوحشية شمال ستالينغراد. فقدت قوات ستالين أكثر من 200 ألف رجل، لكنها في نهاية المطاف نجحت في صد الجنود الألمان.
ومن خلال الفهم الراسخ لخطط هتلر، كان الروس قد قاموا بالفعل بشحن كثير من مخزون الحبوب والماشية خارج ستالينغراد. ومع ذلك، لم يتم إجلاء سكان المدينة الذين يزيد عددهم على 400 ألف نسمة، حيث اعتقدت القيادة الروسية أن وجودهم سيلهم القوات في حربها ضدّ العدوّ.
حصار الأرض والسماء على ستالينغراد
في غضون أيام قليلة من شن هجومها، قامت القوات الجوية الألمانية بجعل نهر الفولغا غير صالح للشحن، وأغرقت العديد من السفن التجارية الروسية في هذه العملية. منذ أواخر أغسطس/آب وحتى نهاية الهجوم في عام 1943، نفذت القوات الجوية الألمانية عشرات الضربات الجوية على المدينة.
إلى اليوم ما يزال عدد الضحايا المدنيين غير معروف. ومع ذلك، يعتقد أن عشرات الآلاف قتلوا، في حين تم أسر عشرات الآلاف الآخرين وإجبارهم على العمل في معسكرات في ألمانيا.
بحلول شهر سبتمبر/أيلول، كانت القوات الجوية الألمانية تسيطر بشكل أساسي على سماء ستالينغراد، وكان الروس يشعرون باليأس. وسرعان ما طُلب من العمال بالمدينة غير المشاركين في إنتاج الأسلحة المرتبطة بالحرب خوض القتال، تخيلوا أنّ ذلك كان بدون أسلحة نارية خاصة بهم، ليس هذا فقط، بل تمّ أيضاً تجنيد النساء لحفر الخنادق في الخطوط الأمامية.
لم تتحقق المعجزة بعد، استمر الروس في تكبد خسائر فادحة. وبحلول خريف عام 1942، كانت ستالينغراد في حالة خراب فعلي، حسبما جاء في مقال نشرته هارتز.
في هذا الخصوص كتب المارشال السوفييتي أندريه إيفانوفيتش إريمينكو مذكراته عن القصف الرهيب الذي عاشته المدينة: "ما ظهر أمامنا في 23 أغسطس/آب (1942) في ستالينغراد صدمنا، وبدا كما لو أنه كابوس مرعب. ارتفعت في كل مكانٍ لهب ناجم من انفجارات القنابل الحارقة إلى السماء في منطقة مرافق تخزين النفط. ثم تمددت ألسنة اللهب الناجمة عن احتراق النفط والبنزين إلى نهر الفولغا. كان النهر والقوارب تحترق، الأسفلت كان يغلي من الحرائق في الشوارع والساحات. كان هناك ضجيج لا يمكن التعبير عنه، دوي القنابل المتطايرة في الأجواء ممزوج بهدير الانفجارات، أصوات تهشم المباني المنهارة، طقطقة النيران المستعرة".
الكلاب تقاتل كالأسود
"الكلاب تقاتل كالأسود"، هكذا قال الجنود النازيون في كثير من الأحيان.
قام السوفييت بشنّ هجوم مضادّ ضد القوات الألمانية في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1942، بقيادة الجنرال فاسيلي تشويكوف، أطلقوا عليه "حملة أورانوس".
تكبد النازيون وحلفاؤهم المجريون والرومانيون والإيطاليون أكثر من مليون ضحية، بحسب ما ذكره لنا مقال بعنوان "كيف قلبت هزيمة ألمانيا في معركة ستالينغراد الحرب العالمية الثانية".
أمّا عدد جنود الجيش الأحمر الذين ماتوا في الدفاع عن ستالينغراد لمدة خمسة أشهر، فيقدّر بـ480.000، وهو ما جعل المواطنين السوفييت يعتبرون هذا الجيش مصدراً للفخر الوطني الهائل.
وحتى الجنود الألمان اعترفوا بقدرة السوفييت على تحمل الخسائر الفادحة والقدرة على القتال في ظروف الشتاء القاسية دفاعاً عن المدينة، كما جاء في المصدر السابق.
نظراً إلى عدم قدرته على الحصول على الإمدادات الكافية من الجو، انهار الجيش السادس الألماني تحت الهجمات المستمرة للجيش الأحمر. انخفضت درجة الحرارة إلى درجة منخفضة لدرجة أن الآلات أصبحت غير صالحة للعمل. عانى الآلاف من جنود المحور من قضمة الصقيع وسوء التغذية. وفشلت جهود الإنقاذ التي قام بها الجيش الألماني من خارج الحصار.
وإلى جانب الخسائر البشرية المذهلة في ستالينغراد، فقد الألمان 900 طائرة و500 دبابة و6000 قطعة مدفعية. ومع تفوق المصانع السوفييتية في إنتاجها على الألمان، كان من المستحيل على النازيين تعويض الخسائر.
سراييفو.. المدينة الأطول حصاراً في تاريخ أوروبا الحديث
مسابقة التحمل
حوصرت مدينة سراييفو من قبل قوات صرب البوسنة في الفترة من 5 أبريل/نيسان 1992 إلى 29 فبراير/شباط 1996، ويعدّ أطول حصار في تاريخ أوروبا الحديث خلال القرن العشرين.
قبل اندلاع القتال في البوسنة والهرسك في أبريل/نيسان 1992، قام صرب البوسنة ببناء مواقع مدفعية معززة على التلال المطلة على سراييفو، معتقدين أنهم إذا تمكنوا من سحق المقاومة هناك، فقد يسحقونها في كل مكان.
وبمجرد بدء الصراع، احتلوا مراكز وبعض ضواحي المدينة وفرضوا حصاراً كاملاً عليها، وحرموا أهلها من الغذاء والكهرباء والماء.
على الرغم من أن القوات الصربية كانت مسلحة بشكل أفضل بكثير من المقاومة التي تدافع عن المدينة، فإنها كانت تفتقر إلى العدد اللازم من تعداد الجيش لاقتحامها، لذلك استقروا على قصفها وإجبارها على الاستسلام. في حين أن المقاومة، رغم تفوّق تعدادها، كانت تفتقر إلى الأسلحة اللازمة لكسر الحصار. إنها حقاً كانت مسابقة في التحمل.
يشرح لنا موقع BRITANNICA كيف ألحقت المدفعيات الصربية أضراراً جسيمة بمدينة سراييفو، حيث كانت تسقط أكثر من 300 قذيفة في المتوسط على المدينة بشكل يومي، لم تنج منها المدارس والمستشفيات والمنازل. ولحقت الأضرار بكل مبنى في المدينة تقريباً، لدرجة أنه لم يعد هناك مكان آمن فيها.
وكما قالت الصحفية باربرا ديميك، واصفةً زمن الحرب: "كان المدنيون محاصرين داخل المدينة. وكان أشخاص مسلحون يطلقون النار عليهم. حاصر 13 ألف جندي من صرب البوسنة المدينة، واتخذ قناصتهم مواقعهم في التلال والجبال المحيطة".
وتضيف: "الجبال نفسها التي كانت تزود السكان ذات يوم بكثير من الجمال والبهجة باعتبارها موقعاً شهيراً للرحلات، أصبحت آنذاك رموزاً للموت. تعرض السكان لقصف قذائف الهاون بلا هوادة وعشوائية، وأحرقوا الأثاث للتدفئة، وبحثوا عن النباتات البرية وجذور الهندباء لدرء الجوع. كما خاطر الناس بحياتهم واصطفوا لساعات طويلة للحصول على المياه من النوافير التي كانت على مرأى ومسمع من القناصة".
استطاعت الأمم المتحدة، التي كانت تسيطر على المطار الدولي آنذاك، أن تنظّم الإغاثة الإنسانية حين تمّ الانتهاء من إنشاء نفق في منتصف عام 1993، يربط بين المدينة والمطار، مما يسمح بمرور الإمدادات إليها.
لكن سوء التغذية أصبح مشكلة خطيرة، وقد أثار القصف، خاصة الحادثتين البشعتين في سوق ماركالي، غضب الرأي العام العالمي. وفي مايو/أيار 1996، شن حلف شمال الأطلسي ضربات جوية ضد قوات صرب البوسنة، مما أجبرهم في نهاية المطاف على قبول اتفاقيات دايتون، التي رفعت الحصار.
لينينغراد.. الحصار طويل الأمد
وفق ما يرويه لنا موقع HOLOCAUST MEMORIALDAY TRUST عن الحصار طويل الأمد لمدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ) والذي استمر منذ 8 سبتمبر/أيلول 1941 إلى 27 يناير/كانون الثاني 1944 في الاتحاد السوفييتي من قبل القوات المسلحة الألمانية والفنلندية خلال الحرب العالمية الثانية. وقد استمر الحصار في الواقع 872 يوماً.
بعد غزو ألمانيا النازية للاتحاد السوفييتي في يونيو/حزيران 1941، اقتربت الجيوش الألمانية بحلول أوائل سبتمبر/أيلول من لينينغراد من الغرب والجنوب، بينما اقترب حلفاؤها الفنلنديون من الشمال عبر كاريليان.
تمت تعبئة جميع سكان لينينغراد الأصحاء لبناء تحصينات مضادة للدبابات على طول محيط المدينة، لدعم 200 ألف مدافع من الجيش الأحمر في المدينة.
ولكن بحلول أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، كانت قد حوصرت بالكامل تقريباً، مع قطع جميع خطوط السكك الحديدية الحيوية وخطوط الإمداد الأخرى إلى المناطق الداخلية السوفييتية.
أحداث الجبهة الشرقية
أدى الحصار الألماني إلى فقدان 650 ألف شخصٍ من لينينغراد حياتهم في عام 1942 وحده، بسبب الجوع والتعرض والمرض والقصف .
وصلت إمدادات متفرقة من الغذاء والوقود إلى المدينة عن طريق الشاحنات والزلاجات المحمولة على الجليد في الشتاء عبر بحيرة لادوجا. أبقت هذه الإمدادات مصانع الأسلحة في المدينة تعمل، وسكانها البالغ عددهم مليوني نسمة بالكاد على قيد الحياة في عام 1942، بينما تم إجلاء مليون آخرين من الأطفال والمرضى وكبار السن.
أدت الهجمات السوفييتية في أوائل عام 1943 إلى كسر الحصار الألماني، وسمحت بوصول مزيد من الإمدادات الغزيرة إلى لينينغراد على طول شواطئ بحيرة لادوجا. وفي يناير/كانون الثاني 1944، أدى هجوم سوفييتي ناجح إلى تراجع الألمان غرباً من ضواحي المدينة، منهياً الحصار.
منحت الحكومة السوفييتية وسام لينين إلى لينينغراد في عام 1945، ومنحتها لقب "المدينة البطل في الاتحاد السوفييتي" في عام 1965، وبذلك أشادت بنجاح المدينة في تحمل واحد من أكثر الحصارات قسوة ولا تنسى في التاريخ. كما تم تشييد نصب تذكاري لإحياء ذكرى ضحايا الحصار وبطولاته في عام 1975.