في الوقت الذي استطاعت فيه المقاومة الفلسطينية اقتلاع الخوف من جذوره، وتحطيم أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" على مرأى ومسمع من الرأي العام العالمي، عبر ما قامت به في عملية طوفان الأقصى في الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لا يزال شبح الانتحار والاكتئاب يلازم الجنود الإسرائيليين منذ حرب يوليو/تموز عام 2006؛ حيث بات عدوانها اليوم ضدّ غزة فصلاً متكرراً من الخوف والهزائم.
أصداء هذا الطوفان التي لا تزال تتردّد بقوّة داخل المجتمع الإسرائيلي خلّفت في نفوس جيش الاحتلال شعوراً غير متناهٍ بالتعذيب النفسي الضروري، وهو ما جعله يقدم في عدوانه على غزة على القضاء على الأخضر واليابس، متفاخراً بمجازره، ومتكتماً على شعوره بالرهبة والنقص.
ما هو التعذيب النفسي الضروري؟
يعرّف موقع THE ENCYCLOPEDIA OF WORLD PROBLEMS التعذيب النفسي الضروري بأنّه نوع من التعذيب يعتمد بشكل أساسي على التأثيرات النفسية، وبشكل ثانوي فقط على أي ضرر جسدي يتم إلحاقه. وعلى الرغم من أن التعذيب النفسي لا ينطوي على استخدام العنف الجسدي، إلا أن هناك سلسلة متصلة بين التعذيب النفسي والتعذيب الجسدي. وكثيراً ما يستخدم الاثنان جنباً إلى جنب، وغالباً ما يتداخلان في الممارسة العملية، حيث يؤدي الخوف والألم الناجم عن التعذيب الجسدي في كثير من الأحيان إلى آثار نفسية طويلة الأمد، والعديد من أشكال التعذيب النفسي التي تنطوي على شكل من أشكال الألم أو الإكراه.
الإجهاد القتالي المتكرر
آثار حرب أكتوبر لم تنتهِ
أكّدت دراسة نُشرت عام 1994 أنّ نسبة معتبرة من المحاربين الإسرائيليين القدامى الذين شاركوا في حرب عام 1973 والمعروفة بحرب أكتوبر مازالوا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، هذا بعد ما يقرب من عقدين من الحرب، فبأي حال سيكون الاستعداد النفسي للجنود الذين خاضوا قتالاً في عام 2014، ويُطلب منهم الآن بعد مرور 9 أعوام فقط خوض قتال جديد.
عقدة تموز لا تزال تطاردهم
يشبّه المحلّلون في مقاربتهم معركة "طوفان الأقصى" بحرب تموز في لبنان عام 2006، قامت إسرائيل آنذاك بشنّ هجمات جوية وبحرية على لبنان اشتباكاً مع حزب الله، عقب أسر جنديين إسرائيليين.
تمكّن حزب الله من هزيمة الاحتلال وإخراجه مهزوماً من أرضه بعد 34 يوماً من القتال، بخسارة 121 جندياً، وذلك عبر شنّه هجمات غير متوقعة بتشكيلات صاروخية عليه، فضلاً عن استفادة الحزب من المزارع الحدودية وتلغيمها بالقنابل، وهو ما أرهق الاحتلال وأبطأ حركته على الأرض، وأحبط تحقيق هدفه الذي كان قد وضعه لنفسه في بداية الحرب، والمتمثل في تدمير بنية حزب الله، واقتلاع منظومة الصواريخ من جنوب لبنان..
يلخّص الباحثون هذه التجربة السيئة للاحتلال والتي خرج منها دون انتصار حاسم بتسمية "عقدة تموز" التي تلازم العديد من أفراد جيشه إلى اليوم، حيث تكبدوا خسائر بشرية فادحة زعزعت ثقتهم بأنفسهم، ومازال لها أثر في إظهار عدم قدرتهم على الحكم واتخاذ القرار المناسب في ساحة المعركة من الأساس..
الجنسية المزدوجة.. ضمانة الهروب
إلى جانب الإسرائيليين الذين يكتسبون الجنسيات المزدوجة نظراً لأنهم هاجروا من دول أجنبية، فإن الكثير من الإسرائيليين الذين لا يحملون جنسيات مزدوجة يعملون على الحصول على جنسيات أجنبية.
هذا الطلب عاد إلى الواجهة عقب عملية طوفان الأقصى، بحسب تقارير إعلامية إسرائيلية.
وبحسب تحقيق صحفي أجرته صحيفة ليبراسيون الفرنسية في عددها الصادر في 19 يوليو/تموز 2018، تقول: "حسب مصدر إسرائيلي فإن 4185 منخرطاً في الجيش الإسرائيلي يحملون الجنسية الفرنسية، وهو ما يعادل حوالي 3% من الجيش الإسرائيلي".
وبحسب تقرير للموقع الإلكتروني لصحيفة "يديعوت أحرونوت" فإنه بين عامي 2015 و2022، نمت الجالية اليهودية البرتغالية بنسبة 1000% تقريباً، حيث أظهرت المعطيات الرسمية للجالية اليهودية في بورتو أنه تمت المصادقة على 100 ألف طلب للجنسية البرتغالية، والغالبية العظمى من الطلبات لليهود الإسرائيليين.
جاء ذلك بعد وقت قصير من إقرار الحكومة البرتغالية قانوناً يشمل حوالي مليونين من الإسرائيليين، وخاصة اليهود من المجموعات العرقية الشرقية، بمعايير قانون الجنسية البرتغالية.
هذه الرغبة الجامحة في الحصول على الجنسية المزدوجة من قبل المواطنين الإسرائيليين وأفراد الجيش على حدّ سواء يعود أبرز أسبابها إلى عدم الاطمئنان تجاه الأوضاع الأمنية؛ حيث يسهل على حاملي الجنسية المزدوجة الهجرة من البلاد.
فهي تشكلّ نوعاً من الضمان في حالة حرب طويلة أو تدهور الوضع الأمني العام والطوارئ، إذ يسعى الكثير إلى إعداد خطة للهروب من هذه الأوضاع، ويستفسرون عن الوجهات الملائمة للهجرة.
التعطّش للانتقام قد يكون المحطّة الأخيرة
التريث أمام المصير المحتوم
إذا ما عدنا قليلاً إلى الوراء للأحداث التي سبقت الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023 سنجد مجموعة من التقارير وخطابات الخبراء والصحف الإسرائيلية تحذّر جيش الاحتلال علانية من التدخلّ البري في غزة، منها على سبيل الذكر لا الحصر ما جاء في مقال تحليلي نشرته صحيفة JERUSALEM POST كتبه يونا جيريمي بوب بعنوان "لماذا تأخر الغزو البري لغزة منذ يوم الجمعة؟".
أشار فيه إلى أنّ من أهمّ عوامل التأخير الاعتراف العميق داخل جيش الدفاع الإسرائيلي وعلى المستوى السياسي، بأن جيش الدفاع الإسرائيلي لم يخض حرباً كهذه منذ عقود، وأن الاندفاع إلى التدخل دون استعداد، لمجرد إشباع التعطش للانتقام بشكل أسرع، يمكن أن يكون خطأً كبيراً.
متابعة الهزائم.. تعذيب نفسي لا بدّ منه
نشرت صحيفة هآرتس مقالاً تشرح فيه كيفية اعتبار الجيش الإسرائيلي إطلاق سراح الرهائن من قبل حماس بمثابة "تعذيب نفسي ليلي ضروري"، وذلك في إطار صفقة التبادل بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال، واستأنفت: "في كل مساء، تنقسم إسرائيل بين من يقضون المساء يبكون على الأريكة وهم يشاهدون إطلاق دفعة يومية من الأسرى من غزة، وآخرون يواسونهم".
مقاتلو إسرائيل في مواجهة مقاتلي "الجهاد"
إذا ما تساءلنا حول أسباب الخوف المتجذّر لدى الجيش الإسرائيلي من مواجهة المقاومة الفلسطينية سنجد الإجابة المثلى لدى المستشرق الإسرائيلي مردخاي كيدار، المحاضر في جامعة بار إيلان الإسرائيلية، الذي صرّح في مقابلة تلفزيونية على القناة 14 الإسرائيلية بأنّ "قوة عناصر حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تكمن في تمسكهم بعقيدتهم، وإيمانهم الراسخ بأنهم يقاتلون في سبيل الله".
وأضاف: "هم يلوحون بإشارة النصر، لأنهم بقوا على قيد الحياة ونجوا من الحرب، هذه هي صورة الانتصار، إنها طريقة تفكير مختلفة، لذلك هذه هي صورة النصر بالنسبة لهم، يجب أن نفهم أن هذه عقيدة وتفكير آخران، ومعايير أخرى مختلفة للنصر والهزيمة".
ولفت كيدار في لقائه إلى أنّ الإسرائيليين يقيمون مقارنة بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي بعدد الجنود في المعركة، في حين أنّ الحقيقة التي يراها الجميع هي أنّه حتى لو بقي مقاتل واحد مقطوع اليد والقدم، وتبقى من يده الأخرى أصبعان فقط، سيقف على مسجد مدمر ويرفع إشارة النصر وسينتصر.
مستشهداً في ذلك بأنّ "هناك آية في القرآن، تقول: (إن الله مع الصابرين)، يعني أنهم يؤمنون أن الله مع الذين لديهم القدرة على الصبر لفترة طويلة، مفهوم مصطلح الصبر عندنا في اللغة العبرية مختلف تماماً، أصلاً لا يوجد بالعبرية مصطلح الصبر".
التليغرام لرفع المعنويات الهابطة
ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في مقال لها أن حساباً على شبكة التواصل الاجتماعي تليغرام يحمل اسم "72 حورية – دون رقابة"، في إشارة إلى حديث إسلامي من السنّة النبوية يعِد كل "شهيد باثنتين وسبعين من الحور العين"، يديره ضباط في الجيش الإسرائيلي. الحساب قام بنشر مئات المقاطع لعمليات القتل المروعة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة تأتي كلها تحت شعار "حتى يرى الجميع أننا بصدد وضع حد لهم".
وقد تم إطلاق الحساب في 9 أكتوبر/تشرين الأول، أي بعد يومين من بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، تحت اسم "المنتقمون"، قبل أن يتم تغييره في اليوم التالي إلى "الجحيم"، ثم مرة أخيرة إلى "72 حورية – دون رقابة". بحسب المصدر ذاته.
يأتي هذا التفاخر تعبيراً عن رغبة الجيش الإسرائيلي في التأثير على الرأي العام، وإضفاء نوع من الشرعية على مهامه، بعد أن تمكنت مئات المشاهد المصورة للفلسطينيين خلال العدوان الإسرائيلي على غزة من كسر أسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، وكسب الرأي العام العالمي لصفّها كإعلان عن انتهاء لحقبة الخوف من إسرائيل وهو ما زاد من هول الشعور بالخسارة والاكتئاب في صفوف الجيش الإسرائيلي، حتى ارتفع عدد وصفات المهدئات الطبية والأدوية النفسية الخاصة بعلاج الاكتئاب ومضادات القلق والصدمات بنسبة 20% خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023 مقارنة بالشهر الذي يسبقه، وفق ما أفادت به مؤسسة "مكابي للخدمات الصحية" (Maccabi health maintenance organization).