كانت الحرب العالمية الأولى مفصلية في رسم معالم "الشرق الأوسط الجديد"، كما نعرفه اليوم. فقد شهد العالم خلالها بداية سقوط الدولة العثمانية، الذي كان تأثيره مباشراً على العالم العربي، ومهّد الطريق لإقامة ما يُعرف بـ"دولة إسرائيل" فوق الأراضي الفلسطينية.
في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، تعرّض الجيش العثماني للهزيمة في غزة بعد 3 معارك مع جيش الإمبراطورية البريطانية، فاضطر إلى الانسحاب منها. وإثر هزيمته في القدس بعد شهر، ثم في معركة نابلس بعد عام، انسحب العثمانيون من المنطقة كلّها لتصبح فلسطين والأردن وسوريا ولبنان تحت سيطرة البريطانيين، ما مهّد لسقوط الدولة العثمانية فيما بعد.
ومع سقوط الدولة العثمانية عام 1922، وإعلان الانتداب البريطاني على فلسطين قبل ذلك بعامين، بعد "وعد بلفور" بإنشاء "وطنٍ قومي لليهود في فلسطين"؛ غيّرت هذه الأحداث التاريخية خريطة العالم العربي إلى الأبد.
قبل سقوط الدولة العثمانية، وبالعودة إلى الحرب العالمية الأولى، كانت لجبهة فلسطين وغزة تحديداً أهمية استراتيجية. وقد أدرك ذلك كلّ من الدولة العثمانية والبريطانية، فخاض الجيشان 3 معارك كبرى فيها، فما تفاصيلها؟
معركة غزة الأولى والثانية
خلال الحرب العالمية الأولى، وفي نهاية صيف 1916، حشدت بريطانيا قواتها البالغة 40 ألف جندي -تحت قيادة الجنرال أرشيبولد جيمز موراي- باتجاه العريش في سيناء، بهدف منع العثمانيين من التقدّم مرة ثالثة نحو قناة السويس.
كانت الجيوش العثمانية في ذلك الوقت منهكة لأنها تحارب على جبهات مختلفة، عربية وعالمية. ورغم أنها كانت في حالةٍ يُرثى لها، لا سيما عقب إعلان شريف مكة حسين الثورة على الدولة العثمانية، فقد بلغ عددها 10 آلاف جندي قاوموا بصلابة.
في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، وحين وصل الجيش البريطاني إلى العريش، وجدها خالية من الجيش العثماني، الذي كان انسحب منها إلى منطقةٍ عثر فيها على مياهٍ للشرب، وأعدّ فخاً لغريمه.
وحين زحفَ البريطانيون باتجاه مياه الشرب، اصطدموا بالعثمانيين الذين أنزلوا بهم هزيمة ثقيلة على مدى يومين كادوا يقضون خلالها على القوات البريطانية، لولا الإمدادات العسكرية التي أجبرت العثمانيين على التراجع نحو غزة. فأصبحت سيناء تحت الاحتلال البريطاني.
بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار 1917، حشد الجنرال موراي قوة عسكرية ضخمة على الحدود مع غزة بلغت 200 ألف مقاتل بمساعدة الحلفاء. حينها، قرر بدء هجومه على غزة، فيما عُرف في التاريخ الحديث بـ"معركة غزة الأولى".
كان الهجوم على مرحلتين، الأولى احتلال غزة، ومن ثم فرض حصارٍ حولها لمنع وصول الإمدادات العثمانية إليها من جهة الشرق والشمال. لكن القوات العثمانية -بمساعدة ألمانية- تصدَّت لهذا الهجوم، وأوقعت 4 آلاف قتيلٍ في صفوف الحلفاء، فانسحب البريطانيون من وادي غزة، واستعاده العثمانيون.
أدركت الدولة العثمانية جيداً أهمية جبهة فلسطين، لذلك فقد حشدت لها 4 جيوشٍ من أصل 8 موجودة، ثم استعانت بجيوشٍ إضافية على شكل تعزيزات. ما يعني أن العثمانيين استخدموا أكثر من نصف قوتهم العسكرية على جبهة غزة.
"غزة هي بوابة فلسطين"، هكذا يصفها المؤرخ الأمريكي "ديفيد فرومكين" في كتابه A Peace To End All Peace، الذي يوثق فيه مراحل سقوط الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط الحديث.
يُشير فرومكين في كتابه إلى أهمية غزة الاستراتيجية بالنسبة إلى فلسطين والجوار، وقد كانت الإمبراطوريتان العثمانية والبريطانية على درايةٍ جيدة بهذا الأمر، وأن فقدان جبهة غزة يعني أن الطريق إلى القدس -ومن ثم فلسطين- ستصبح مفتوحة.
وانطلاقاً من ذلك، لم ينسحب الجنرال موراي بعيداً من وادي غزة بانتظار تعزيزاتٍ إضافية من الحلفاء. وبعد 3 أسابيع، انطلقت المواجهة الجديدة هذه المرة من البر والبحر، فيما يُعرف بـ"معركة غزة الثانية".
في 17 أبريل/نيسان 1917، بدأت المعركة بتقدم قوات الحلفاء باتجاه وادي غزة، لكن القوة العثمانية والألمانية كانت متحصّنة جيداً في غزة، ويساعدها أهالي المدينة في الإمدادات الغذائية واللوجستية.
ورغم أن القوة البريطانية كانت أكثر بـ3 أضعاف من القوات العثمانية والألمانية، إلا أنها استطاعت أن توقع مئات الضحايا، مع كل تقدّمٍ للحلفاء. وبعد 3 أيامٍ من سقوط المزيد والمزيد من القتلى، أصدر موراي قراراً بالانسحاب من غزة إلى مناطق بعيدة عنها.
معركة غزة الثالثة.. التعاون الصهيوني البريطاني
كان رئيس الوزراء البريطاني الجديد لويد جورج من أكثر المناصرين لاتفاقية سايكس–بيكو التي وُقعت قبل عام، ومن أشد المؤمنين بضرورة إقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين. ولهذا السبب أعاد البريطانيون تقييم مسرح العلميات العسكرية.
تم عزل الجنرال موراي من منصبه، وتعيين الجنرال إدموند اللنبي بديلاً عنه. وقد كلّفه رئيس الوزراء بمهمة واضحة: غزو فلسطين واحتلالها قبل عيد الميلاد، كما جاء في كتاب المؤرخ الأمريكي فرومكين.
غيّر الجنرال اللنبي قادة المخابرات العسكرية والشؤون السياسية، وعيَّن الكولونيل ريتشارد ماينرتزهاغن الذي شرع في توسيع عمليات التجسس خلف خطوط العثمانيين والألمان، مستعيناً بخدمات شبكة "نيلي" التجسسية الصهيونية.
قدّمت شبكة "نيلي" الصهيونية معلومات عسكرية مهمة جداً إلى البريطانيين، في إطار تعاونهما السري والقديم داخل فلسطين، فكانت تزوّدهم بتحركات الجنود وخططهم، ومواقع الأسلحة الكبيرة، ومراكز آبار المياه، وأماكن التجمع.
في تلك الأثناء تلقى اللنبي نبأ سقوط ميناء العقبة بواسطة قوات الشريف حسين ولورنس العرب، ما سهّل من مهمة الجنرال البريطاني. فقد عرف أن باستطاعته الاستعانة بقوات الأمير فيصل ولورنس العرب لتهديد الجبهة الخلفية للقوات العثمانية الألمانية.
في كتابه "يقظة العرب: تاريخ الحركة القومية العربية"، يقول جورج أنطونيوس إن اللنبي أدرك بسرعة أهمية الاستيلاء على العقبة، والفائدة التي قد يجنيها من وجود جناحٍ عربي في هجومه المقبل" على غزة.
اعتمدت خطة اللنبي في احتلال غزة بصورة كاملة على عامل الخديعة، مغيّراً شكل المعارك التي أصرّ عليها الجنرال موراي. فقد توقع العثمانيون أن اللنبي سيشنّ هجومه على غزة أولاً، باعتبارها نقطة مهمة.
لكن ما حصل أن الجنرال البريطاني تصنّع مهاجمتها، بينما قامت قواته بعملية التفافٍ حولها، ثم توجه بسرعة إلى مدينة بئر السبع -التي تبعد 50 كلم عن غزة- لإسقاطها ومحاصرة غزة، عبر قطع الإمدادات عنها.
خدع ماينرتزهاغن الدولة العثمانية بشكلٍ ذكي. ففي 10 أكتوبر/تشرين الأول، ذهب على حصانه إلى المنطقة الفاصلة بين الجيشين العثمانيين المرابضَين في غزة وبئر السبع.
وهناك، أطلقت عليه دورية عثمانية النار، فتظاهر بالإصابة مخلّفاً وراءه محفظة احتوت أوراقاً وكأنها وثائق بريطانية سرّية تشير إلى أن الهجوم الرئيسي سيقع على غزة، ما جعل العثمانيين والألمان يركزون على غزة ويهملون بئر السبع.
نجحت خطة ماينرتزهاغن، وفاجأت القوات العثمانية التي تراجعت في حالة فوضى، فأصبح الطريق إلى غزة مفتوحاً. وفي 27 أكتوبر/تشرين الأول، بدأت معركة غزة الثالثة.
انطلقت المعركة بقصفٍ من المدفعية البحرية التابعة للحلفاء، تبعه هجوم بري بجيشٍِ مؤلف من 10 آلاف جندي، ففضّلت القوات الألمانية الانسحاب إلى الخلف، على أن يكون خط الدفاع هو يافا-القدس.
خلال معركة غزة الثالثة، قاتلت الوحدة العسكرية الصهيونية بقيادة الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي -وهو أمريكي من أصول روسية- إلى جانب البريطانيين ضدّ العثمانيين، فسقطت غزة بعد مقاومة شرسة استمرت شهوراً، وكانت بداية سقوط الدولة العثمانية.
سقوط الدولة العثمانية بعد تراجعها
كان سقوط العقبة سبباً مباشراً في خسارة الدولة العثمانية معركة غزة الثالثة (ثم سقوط الدولة العثمانية فيما بعد) ومهَّد الطريق نحو احتلال القدس، بعدما دخلت قوات الأمير فيصل ولورانس إلى فلسطين وأسهمت في تهديد الجبهة الخلفية للقوات العثمانية الألمانية.
بعد سقوط جبهة غزة، تسارع التراجع العثماني في بلاد الشام والعراق. فقد قادت هزيمة غزة إلى احتلال الأراضي العثمانية من قِبل الجيوش البريطانية، والفرنسية، والإيطالية، والروسية، واليونانية.
كل تلك العوامل ساهمت في سقوط الدولة العثمانية لاحقاً، بعدما أثرت على قدرتها في مواصلة الحرب، لا سيما أن الجيش العثماني على جميع الجبهات تكبد خسائر فادحة، كما أن عدداً كبيراً من جنوده وقع في الأسر.
وفي ظلّ أسر عددٍ من الجنود وقتل آخرين، تأثرت جبهة الأناضول بشكلٍ مباشر. فإلى جانب التغيير الذي عرفته الدولة العثمانية في البنية الاجتماعية والاقتصادية، تسبّبت الهزيمة في بقاء النساء والأطفال والمسنين وحدهم في الأناضول، بمواجهة اللصوص وقطاع الطرق.
ومع سقوط غزة الذي تبعه سقوط القدس في ديسمبر/كانون الأول 1917، سيطرت الإمبراطورية البريطانية لاحقاً على كامل فلسطين، التي دخلها الجنرال اللنبي مزهواً بهذا النصر الاستراتيجي الذي أدى بعد ذلك إلى احتلال بلاد الشام كلها.
وهكذا، كانت غزة جبهة استراتيجية ومفتاحاً أساسياً خلال الحرب العالمية الأولى، والتي مهّدت إلى الانتداب البريطاني على فلسطين الذي استمر لـ30 عاماً، حتى إعلان بريطانيا إنهاء انتدابها عام 1948، مسلّمةً إياها إلى الصهاينة الذين أعلنوا قيام ما يُعرف بـ"دولة إسرائيل".
وهكذا، فإن الهزيمة في الحرب العالمية الأولى مثلت الضربةَ القاضية للإمبراطورية العثمانية، لكن السلطنة لم تتفكك رسمياً حتى العام 1922، عندما وصل زعيم المقاومة القومية التركية مصطفى كمال أتاتورك إلى السلطة.