لا يمكن لأي مواطن لبناني، من جيل الحرب وما قبلها، أن ينسى "مجزرة قانا" التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في تسعينيات القرن الماضي. فهي حاضرة بقوة في الذاكرة الجماعية اللبنانية، من جنوب البلاد وحتى أقصى شماله.
ورغم أنها ليست الأكبر في سجل جرائم الاحتلال، ولكنها محفورة في الوجدان اللبناني كإحدى أفظع المجازر التي ارتكبها؛ فقد كانت المرة الأولى التي نشاهد فيها صور جثثٍ متفحمة، وأشلاءٍ متناثرة، يرافقها صراخ الأمهات وذهول الآباء.
تفاصيل مجزرة قانا
في أبريل/نيسان 1996، بدأت إسرائيل عملية عسكرية ضدّ جنوب لبنان أطلقت عليها اسم "عناقيد الغضب"، بهدف القضاء على حزب الله. مع الإشارة إلى أنها خرقت اتفاق 1993، الذي منع أي تدخل عسكري -من أي طرف- لو لم يحدث اعتداء على مدنيين.
وبغاراتٍ جوية، تضمنت قاذفات الكاتيوشا، استهدف الاحتلال مواقع للحزب والجيش السوري، إضافةً إلى محطة الطاقة الكهربائية في منطقة الجمهور، كما حاصرت موانئ صيدا وصور وبيروت.
ومع استمرار القصف على قرى الجنوب والبقاع الغربي وضواحي بيروت، ردّ حزب الله بقصف مواقع إسرائيلية، وقد طالت صواريخها مستوطنات الاحتلال الشمالية. فجُنّ جنون إسرائيل وبدأت تقصف عشوائياً، مستهدفةً المدنيين والبنى التحتية.
آلاف العائلات الجنوبية من عشرات القرى تركت منازلها، ونزحت شمالاً أو نحو بيروت. فيما لجأ أهالي بلدات قانا، وحاريص، والقليلة، وصديقين، إلى مركزٍ تابع للأمم المتحدة في قانا، ظناً منهم أن القوات الإسرائيلية لن تقصف مركز قوات طوارئ دولية.
لكن إسرائيل خرقت كل القوانين الدولية؛ وفي اليوم الثامن من عملية عناقيد الغضب، قصفت المركز وارتكبت مجزرة قانا يوم 18 أبريل/نيسان 1996.
عند الساعة الثانية من بعد ظهر ذلك اليوم، أطلقت المدفعية الإسرائيلية -المتمركزة على الحدود اللبنانية- صواريخ بعيدة المدى وأكثر من 15 قذيفة على مركز قيادة "فيجي" التابع لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في بلدة قانا.
أدى ذلك إلى مقتل أكثر من 100 مدني، بينهم أطفال ونساء ومسنون، فيما أُصيب آخرون بجروحٍ كبيرة. وقد وصلت أعداد كبيرة إلى مستشفيات الجوار بأجسادٍ مشوّهة ومحروقة، بسبب الشظايا التي أصابتها.
مجزرة حرب لا تدين إسرائيل
بكاء المراسلة ديانا مقلد، تنهيدة زميلتها زاهرة حرب، وصمت زافين قيومجيان؛ هي أبرز المشاهد العالقة في ذهن أي مواطن لبناني عايش مجزرة قانا.
وقد لعبت المشاهد المروعة، التي نُقلت مباشرةً على تلفزيون لبنان، دوراً كبيراً في تشكيل الوعي حول مجازر الاحتلال الإسرائيلي؛ فقد كانت مجزرة قانا أبلغ مأساة اختبرها لبنان بعد الحرب اللبنانية، وخطّت مرحلة سياسية جديدة أثمرت ما عُرف بـ"تفاهم نيسان".
البث المباشر للمشاهد القاسية من داخل مركز قيادة "فيجي"، التابع للأمم المتحدة، كان له تأثير كبير على الرأي العام الدولي -وليس المجتمع الدولي- وكرّست معادلة تحييد المدنيين عن النزاعات العسكرية.
لكن رغم هول المجزرة، استمر العدوان الإسرائيلي على لبنان 9 أيام أخرى، ولم يتوقف إلا يوم 27 أبريل/نيسان 1996 بعد الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، برعاية دبلوماسية أمريكية.
لكن حجم الدمار الذي أصاب البنية التحتية اللبنانية كان كبيراً، فقد دُمّرت جسور ومحطات طاقة رئيسية، ووفقاً لتقرير منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتش" (HRW)، فإن إسرائيل انتهكت القوانين الدولية في مجزرة قانا وارتكبت جريمة حرب.
رغم ذلك، جاءت ردود الأفعال الدولية متوقعة. سارعت إسرائيل أولاً إلى تحميل حزب الله مسؤولية سقوط ضحايا من المدنيين، وقالت إن مجزرة قانا جاءت رداً على صواريخ كاتيوشا أطلقها الحزب من موقعٍ قريب من مركز "فيجي".
من جهته، دعا الرئيس الأمريكي حينها بيل كلينتون "جميع الأطراف" إلى وقف إطلاق النار، فيما وجّه الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك "نداءً" إلى إسرائيل بضرورة الاستجابة لوقف إطلاق النار.
وفي 25 أبريل/نيسان 1996، أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن حكومة الاحتلال ارتكبت جريمة حرب، منتهكةً القوانين الدولية المتعلقة بحماية المدنيين خلال الحرب، قبل أن يعترف شيمون بيريز بمسؤولية جيشه عن المجزرة، متحملاً مسؤوليتها.
إثر ذلك اجتمع أعضاء مجلس الأمن للتصويت على قرار يدين إسرائيل، لكن الولايات المتحدة -كعادتها- أجهضت القرار باستخدام حق النقض "الفيتو"، الذي لا يمكنه أن يمحو آثار جريمة مجزرة قانا المحفورة في وجدان عائلات الضحايا الـ106 الذين سقطوا.