تنمو أسناننا اليوم بشكلٍ غير مستقيم، بحيث يحتاج معظمنا إلى معالجتها عن طريق عملية تقويم الأسنان في بعض الحالات، أو الخلع في حالاتٍ أخرى. تختلف الطريقة، لكن النتيجة واحدة: كأن أفواهنا لا تحتوي على مساحةٍ كافية لاستيعاب كل أسناننا.
لم يكن لدى أسلافنا القدماء هذه المشاكل، بل العكس. كانت أسنانهم متراصة ومستقيمة، كأنها هوليوودية، كما أن أفواههم كانت واسعة، وفكوكهم قوية. وحتى قبل 12 ألف سنة تقريباً، كان لديهم انسجام تام بين الفك السفلي والأسنان.
يظهر ذلك جلياً من خلال الجماجم الكثيرة، التي عثر عليها علماء الآثار والأنثروبولوجيا، والتي تُظهر أن شكل فكوكنا وأفواهنا قد تغيّر على مرّ العصور. فما الذي حدث عملياً وعلمياً؟
للزراعة دورٌ أولي
قبل الزراعة، كان الفك البشري مناسباً تماماً لأسنان أسلافنا. ففي دراسةٍ نشرتها مجلة PLOS One عام 2015، أظهرت أن التغيير الكبير بدأ مع تحوّل الحضارة من الصيد وجمع الثمار إلى المزارعين.
حللت الدراسة أبعاد الفك السفلي وتاج الأسنان لـ292 هيكلاً عظمياً أثرياً، من بلاد الشام والأناضول وأوروبا، منذ ما بين 28 ألفاً و6 آلاف سنة مضت. وقد اكتشف الباحثون اختلافاً ملحوظاً في بنية فك الإنسان، تزامَنَ مع ظهور الزراعة.
ويقول المؤلف الرئيسي للدراسة، رون بينهاسي، وهو أستاذ مشارك في علم الآثار بجامعة دبلن: "يُظهر تحليلنا أن الفك السفلي للمزارعين الأوائل في بلاد الشام، لم يكن مجرد نسخةٍ أصغر من تلك التي كانت لدى أسلافهم من الصيادين وجامعي الثمار، بل إنه خضع لسلسلة معقدة من التغييرات في الشكل، بما يتناسب مع التحول إلى الزراعة".
ومن المرجح أن هذه التغييرات جاءت من النظام الغذائي. فقد كان الصيادون وجامعو الثمار يحتاجون إلى فكٍّ كبير وقوي لمضغ الخضراوات واللحوم غير المطبوخة، التي غالباً ما كانت تشكل قائمة طعامهم.
بالمقابل، كان لدى المزارعين الأوائل نظامٌ غذائي أكثر ليونة، وكانوا يستهلكون الأطعمة المطبوخة -مثل: الفول والحبوب- التي لم تتطلب قوةً عالية من الفم.
وما حصل أنه مع مرور الوقت، عندما أصبح الفك أصغر -استجابةً لهذه التغييرات الغذائية- لم تحذُ الأسنان حذو الفك، بل بقيت بالحجم نفسه تقريباً، ما يعني أننا نملك اليوم فكوكاً حديثة، مع عدد أسنانٍ قديم.
التحول إلى الزراعة لم يتسبب فقط في حدوث تغيرات في شكل وعظام الفك لدينا. فقد وجدت دراستان نُشرتا عام 2014، أن ظهور الزراعة قد عجّل على الأرجح بتغيرات أخرى مرتبطة بالهيكل العظمي لدى البشر.
فبسبب الزراعة، أصبحت عظامنا أخف وأقل كثافة، لا سيما حول المفاصل. ويبدو أن هذه التطورات سببها النظام الغذائي والتغيرات في النشاط البدني، خاصةً نمط الحياة الأكثر استقراراً الذي تسمح به الزراعة وتدجين الحيوانات.
الثورة الصناعية هي المتهمة الأولى
ليست الزراعة هي المسؤولة الأولى عن تغيّر حجم فكّنا؛ فقد أظهرت دراسة نُشرت في ديسمبر/كانون الأول 2021، أن حجم الفك انخفض استجابةً للأطعمة المصنعة والمعالجة، خلال وبعد الثورة الصناعية.
وبحسب الدراسة، فإن الطريقة التي تغيّرت بها سلوكيات المضغ لمواكبة استهلاك الأطعمة اللينة خلال هذه الفترة، لا تزال غير مفهومة جيداً. لكن توصل الباحثون إلى أن تناول الأطعمة المصنعة قد أحدث تحولاً جذرياً في حركيات قوة الإطباق.
أُجريت الدراسة على أسنان تعود إلى 104 أفراد عايشوا الثورة الصناعية (1700-1900)، و130 من أسلافهم في القرون الوسطى، وما بعدها، وكشفت نتائج التحليل عن تغيّرات في سلوك المضغ.
وفقاً للدراسة، حدثت هذه التغيّرات خلال المراحل الأولى من التحول نحو تناول مزيد من الأطعمة المصنعة، بعد الثورة الصناعية، ما يُشير إلى حدوث ثورة في طب الأسنان بالعصر الحديث.
هذه الثورة تتضمن تحولاً جذرياً في الطريقة التي يتم بها إطباق الأسنان بعضها على بعض، وتآكلها أثناء المضغ.
بشرحٍ مبسط، فإن الطعام المصنع يكون طرياً ويجعلنا في غنى عن تحريك عظام وعضلات الفك، عكس أسلافنا الذين عاشوا في حقبات تاريخية سبقت الثورة الصناعية، وكانوا يطحنون حبوب القمح ونخالة الأرز الصلبة بفكّهم.
كان هذا الطعام الصلب نوعاً من التدريب لعضلات الفك؛ ولم يجعلها قوية فقط، بل جعلها أكثر بروزاً واتساعاً لجميع الأسنان.
في حديثٍ له نقلته الجزيرة الوثائقية، يقول الكاتب والصحفي جيمس نيستور: "إننا لو نظرنا إلى أي جمجمة قديمة تجاوز عمرها الـ500 عام، سنرى بشكلٍ واضح أن 99% منها لديها أسنان متراصة بشكلٍ مثالي".
ويُشير نيستور إلى أن هذه الجماجم تظهر أن أصحابها لم يخلعوا ضروس العقل قط، كما نفعل اليوم، ولم يخضعوا لأي تقويم، "بل كانت أفواههم واسعة وكبيرة، وفكوكهم قوية. لكن مع دخولنا العصر الحديث وانتشار الأطعمة المصنعة، بدأت الفكوك تتقلص".
يؤكد نيستور أن اعوجاج أسناننا اليوم ليس بسبب الجينات، كما نعتقد، بل لأن أفواهنا أصبحت صغيرة جداً لدرجة أنها لم تعد تتسع للأسنان. ما يُعيدنا إلى النظرية نفسها التي أشارت إلى أن فكوكنا أصبحت صغيرة لكن أسناننا بقيت على حجمها وعددها.