حكم الصحراء المصرية منذ آلاف السنين، واعتُبر من أهم رموزها، ولا يزال العلماء يحاولون معرفة أسراره، فهو واحد من أكبر التماثيل في العالم التي تعود إلى حضارات قديمة، أبو الهول بمصر أو أسد صحراء مصر المجاور للأهرامات.
عبر السنين لقي التمثال شعبية تزايدت ثم انخفضت بسبب رمال الصحراء التي غطته خلال سنوات الإهمال، لكن عند بداية التنقيب عنه أثار الفضول حول سره تساؤلات جميع العلماء، خاصة عند التحديق في وجهه الضخم وجسد الأسد.
من خلال التنقيب والعودة إلى الأساطير القديمة، التي تحكي عن فترة بناء هذا التمثال، يوجد العديد من الحكايات التي تروي قصته وتاريخه، وهذا ما يقوله العلم بشأنها.
تاريخ بناء أبو الهول عملاق الصحراء الشهير
حسب موقع "national geographic" يعتقد العلماء أن تمثال أبو الهول شُيد خلال فترة المملكة المصرية القديمة، ما بين 2575- 2150 قبل الميلاد، من قِبل الأسرة الرابعة، تحت حكم الفرعون "خفرع".
يعتبر أبو الهول من بين أقدم أعمال النحت في العالم، وواحداً من أكبرها، إذ يصل طوله لقرابة 20 متراً من القاعدة إلى أعلى رأسه، فيما يصل طوله من الكفوف الأمامية إلى الذيل قرابة 74 متراً، ما جعله يحمل لقب عملاق الصحراء، عند البحث في صخور الحجر الجيري بالجيزة وجدت العديد من تماثيل أبو الهول المنحوتة بها.
يتمتع رأس أبو الهول بمظهر ملكي، والذي يحمل بعض الرموز التقليدية للنظام الملكي في مصر القديمة، مثل ارتداء النمس، وهو غطاء رأس من القماش كان يرتديه الفراعنة، كما يمكن رؤية بقايا الكوبرا الملكية المنحوتة أعلى رأسه، لكن أكثر الأشياء التي أثر عليها الزمن في التمثال هي أنفه ولحيته، إلا أن معالمه لا تزال واضحة، والتي تحيي وجهاً ذكورياً من الزمن القديم.
أما بخصوص وصف التمثال فتمتد كفوف ضخمة أمامه، بالإضافة إلى جسد أسد بذيل ملتفّ حوله يحمل رأس إنسان، كان أبو الهول مغطى بالكامل بالأحجار الجيرية، التي تدهورت الطبقة السطحية منها مع مرور الوقت، رغم القيام بالعديد من مشاريع الترميم على مر العصور.
خلال فترات التنقيب وجد العلماء أصابع زرقاء وصفراء وأخرى حمراء على أجزاء من التمثال، الشيء الذي يزيد من فرضية أنه كان مزيناً بألوان زاهية، ما يعيد إلى الواجهة كتاب المؤلف الروماني خلال القرن الأول الميلادي "بليني الأكبر"، الذي وصفه بـ"وجه الوحش الملون بالأحمر".
هذه الفرضيات فتحت ألغازاً عديدة وتساؤلات عند العلماء الذين بدأوا بالبحث عن دلائل في الحضارات القديمة.
أساطير تمثال قوي في اليونان القديمة
في الأساطير اليونانية كان هناك أبو الهول برأس امرأة وجسد أسد يحمل أجنحة طائر، شخصية هذه الأسطورة كانت خطيرة، وباستطاعتها قتل أي شخص لا يجيد الإجابة عن أسئلتها، عكس ما عُرف به التمثال المصري، الذي شُيد لحراسة الملوك والبلاد.
لم يتم بعد معرفة أصل اسم أبو الهول، فبعض العلماء يربطونه بالمصطلح المصري القديم "shesep-ankh"، والتي تعني الصورة الحية، والتي استخدمت للإشارة إلى صورة الإله أو فرعون في الحضارة القديمة.
على عكس الوحش اليوناني فإن أبو الهول لديه رأس رجل ويفتقر إلى الأجنحة، كما تظهر صُورٌ أخرى لهذا التمثال في عصور مختلفة من مصر القديمة، وبينما يظل جسد الأسد ثابتاً تتغير الرؤوس. بالإضافة إلى رؤوس الإنسان هناك أيضاً رؤوس حيوانية، منها الكباش وابن آوى والصقور والتماسيح.
غالباً ما تم العثور على هذه التماثيل في الأماكن المقدسة في مصر القديمة، يعود أغلبها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، مثل تمثال أبو الهول برأس صقر في معبد رمسيس الثاني في أبو سمبل، بالإضافة إلى شارع أبو الهول في الأقصر، الذي بُني في القرن الرابع قبل الميلاد، والذي تصطف فيه تماثيل به على طول 2.5 كلم، والذي يربط معبدي الكرنك والأقصر.
قبل 4500 سنة كان لهذا التمثال مكانة خاصة، إذ كان يُعبد ويُنظر إليه على أنه جزء من المناظر الطبيعية المقدسة لمقبرة الجيزة، لكن مع مرور الوقت بدأت مكانته تقل، إذ اجتاحت الرمال المنطقة، ما تسبب بتغطيتها، حتى أصبح يظهر منه رأسه فقط، قبل أن يبدأ التنقيب عنه الذي كشف عن عملاق استطاع تحمل تغيرات الزمان لقرون.
مَن بنى أبو الهول؟ وما أهم ألغازه
لعل من بين أكثر الألغاز التي تساءل عنها الكثيرون: متى شُيد أبو الهول في الجيزة بمصر، أكد معظم العلماء أنه شيد منذ حوالي 4500 سنة، خلال فترة بناء الأهرامات العظيمة، مؤكدين ترابطه بالمدافن الضخمة الموجودة حوله.
يبدو أن الوصي العملاق يجلس بين أهم هرمين، اللذين نصب كل منهما خلال فترات حكم مختلفة من الأسرة الرابعة، إذ قام خوفو الذي حكم حوالي سنة 2500 قبل الميلاد ببناء الهرم الأكبر، فيما قام ابنه خفرع ببناء مقبرته الأصغر قليلاً، إلا أنها أيضاً من بين أهم الآثار في الجيزة.
رغم أن الفراعنة عظّموا الأهرامات فإن السجلات التي توضحها قليلة، الشيء الذي دفع علماء الآثار للجوء إلى أعمال المباحث، عند محاولتهم حل لغز مَن بنى تمثال أبو الهول؟ حتى الآن لم يتم العثور على دليل أو نقوش ترجعه إلى خوفو وخفرع.
من أكثر الفرضيات شيوعاً بين علماء الحضارة المصرية في الوقت الحالي مثل "مارك لينر" و"زاهي حواس" أن خفرع مَن أنشأ أبو الهول، وجعله جزءاً من مشاريع البناء الضخمة، بما في ذلك مكان استراحته ومجمع المعبد المحيط به، درس هؤلاء العلماء بقايا المقبرة والمباني المختلفة التي أمر بها كل ملك في تلك الحقبة.
إن موقع التمثال داخل مخطط خفرع لهرمه ومعابده الجنائزية هو أفضل ملاءمة، ما يوحي بالتخطيط الدقيق والمنطق. ويعتقدون أن تمثال أبو الهول نفسه قد تم نحته من قطعة ضخمة من الحجر الجيري، والتي من المحتمل أن تكون مكشوفة، بينما كان العمال يحفرون قطعاً كبيرة من الصخور لبناء المعابد المجاورة.
فيما يعيد بعض العلماء تاريخ بنائه إلى تاريخ أقدم بكثير، وذلك استناداً إلى نص يعود إلى 670 قبل الميلاد، يصف الأحداث التي وقعت قبل آلاف السنين، والذي يظهر أن تمثال أبو الهول تم ترميمه خلال فترة حكم خوفو، الشيء الذي يظهر وجوده قبل كل من خوفو وخفرع، إلا أن اللوحة مليئة بالمفارقات التاريخية، الشيء الذي جعل العلماء يشككون في صحتها.
حارس الأهرامات والأسرة الثامنة عشرة
تم التخلي عن التمثال بعد انهيار المملكة القديمة، ليسقط في حالة خراب، فيما تراكمت الرمال فوقه لعدة قرون، فيما وجد النور من جديد خلال فترة المملكة الحديثة، ما بين 1539- 1075 قبل الميلاد.
إذ استغل أحد الملوك التمثال لربط اسمه مع الملوك القدماء، إذ يقف تمثال الحلم لتحتمس الرابع بين كفوف أبو الهول، تم اكتشاف اللوحة في عام 1817، وهي إضافة متأخرة إلى مجمع أبو الهول، تم تركيبها في وقت ما خلال الأسرة الثامنة عشرة.
هذه اللوحة هي عبارة عن قطعة ضخمة من الغرانيت الصلب، تزن حوالي 15 طناً، ويبلغ ارتفاعها حوالي 4 أمتار، تضم نقوشاً تروي فترة الشباب من حياة الفرعون تحتمس الرابع، وهو الملك الثامن في الأسرة الثامنة عشرة التي حكمت مصر القديمة.
حسب اللوحة فإن الملك تحتمس سيصبح ملكاً في الحياة الثانية في حال أزيلت الرمال من حوله، إلا أن نهاية القصة غير موجودة بسبب تآكل النقوش في هذه اللوحة، الناتجة عن عوامل الزمان التي مرت عليها، المؤكد أن تحتمس استغل أبو الهول لإضافة شرعيته كملك، بعد والده أمنحوتب الثاني، خاصة أنه لم يكن أول من يخلف والده.
حسب بعض الألقاب الحديثة في محيط أبو الهول، أضيف إلى ذقن أسد الصحراء المصري خلال فترة حكم الملك تحتمس الرابع لحية مضفرة، التي سقطت عبر الزمان، فيما تم اكتشاف شظاياها سنة 1817، الشيء الذي جعل العلماء يعتقدون أن تحتمس كانت لديه أيضاً لحية مضفرة.
أبو الهول في العصر الحديث
مع مرور السنين واجه أبو الهول مرة أخرى الإهمال واجتياح الرمال، إذ بدأ يظهر رأسه فقط، لكن رغم ذلك لم يفقد مكانته بالكامل، خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر تم تسجيل السكان المحليين وهم يقدمون القرابين لأبو الهول، ليفيض النيل ولزيادة المحاصيل.
أما في القرن الحادي عشر فقد أفاد الجغرافي الشمال إفريقي الإدريسي، أن أولئك الذين يرغبون في الحصول على مناصب في الخلافة الفاطمية التي كان مقرها مصر، قدموا أنفسهم لأبو الهول.
سنة 1556 أثار النصب سحراً كبيراً على الزوار الأوروبيين القادمين إلى مصر، من بيهم المستكشف الفرنسي "أندريه تيفت"، الذي وصفه في كتابه "Cosmography of the Levant" بأنه رأس تمثال عملاق.
أما خلال تسعينيات القرن التاسع عشر، وخاصةً خلال محاربة قوات نابليون البريطانيين في مصر، أصبح الفرنسيون مفتونين بالتاريخ المصري القديم، فبعد عودة أتباع نابليون إلى فرنسا شرعوا في إنشاء تاريخ شامل متعدد الأجزاء لمصر القديمة، مع التصورات التفصيلية لكل ما واجهوه.
نشأت قصة خيالية من زمن نابليون في مصر بخصوص أنف أبو الهول، أو عدم وجوده، تدعي أن القوات الفرنسية أطلقت النار على الأنف، وهو ما ترك أبو الهول مشوهاً. رغم قوة القصة فإنها ليست صحيحة.
زار المستكشف الدنماركي فريدريك لويس نوردين فرنسا في عام 1737، قبل رحلة نابليون بوقت طويل، وقام بتوثيق رحلته على نطاق واسع، إذ يحتوي كتابه الصادر سنة 1755، تحت اسم "رحلة إلى مصر والنوبة"، رسماً تخطيطياً لأبو الهول العظيم، والذي يظهر أن أنف أبو الهول لم يكن موجوداً قبل أواخر القرن التاسع عشر.
فيما أفاد مصدر إسلامي أن أنف أبو الهول أزيل في أواخر القرن الرابع عشر، إذ كتب المؤرخ المصري في القرون الوسطى "المقريزي"، أن مسلماً صوفياً يدعى "محمد صائم الظهر" لم يرق له عبادة السكان المحليين لأبو الهول، ما دفعه إلى حفر الأنف، وعلى عكس لحية أبو الهول لم يتم العثور على شظايا من أنف التمثال المكسور إلى اليوم.
التنقيب الأخير على أبو الهول
لاقت محاولات استخراج تمثال أبو الهول نجاحاً ضئيلاً سنة 1817، فيما تمكن عالم المصريات الإيطالي جيوفاني باتيستا كافيليا من إخلاء الواجهة الأمامية، وفي نهاية القرن التاسع عشر كان من الممكن رؤية صدر أبو الهول العريض وكفوفه الضخمة. تلا ذلك مزيد من التقدم في العقود اللاحقة.
أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، جُرفت كل الرمال وظهر تمثال أبو الهول بالكامل، ومنذ ذلك الحين ذهب علماء الآثار إلى ما وراء السطح، للعثور على أسرار أعمق، وذلك بقيادة عالم المصريات مارك لينر.
كما أجرى مركز الأبحاث الأمريكي في مصر مشروع رسم خرائط مكثفا لمجمع أبو الهول بأكمله، وقد كشفت عن رؤى جديدة حول بناء النصب التذكاري، والتي تساعد في الحفاظ عليه.