مع بداية الوجود العثماني بالجزائر في القرن الـ16، تأسست عدة إمارات ودول صغيرة في ربوع الجزائر، فتأسست في الشمال كل من مملكة كوكو وإمارة بني عباس، بينما تأسست في الجنوب إمارة بني جلاب التي امتدت لنحو أربعة قرون وشملت سلطتها الجنوب الشرقي للجزائر، وإقامتها علاقات دبلوماسية مع الدول المجاورة، ودخولها في صراعاتٍ مع الدولة العثمانية التي أرادت توحيد الجزائر.
انشقت إمارة بني جلاب عن الدولة الحفصية في تونس
خلال القرن الـ16، كانت مناطق الجنوب الشرقي بالجزائر خاضعةً للسلطة الحفصية، فقد كانت مدينة تقرت عاصمة وادي ريغ -والتي ستنشأ على أراضيها إمارة بني جلاب- تدفع ضرائبها إلى السلطان الحفصي، ومع الضعف والانهيار اللذين دبّا في دولة الحفصيين في عشرينيات القرن الـ16، بدأت العديد من المناطق في الاستقلال عن الدولة الحفصية.
وفقاً لمذكرة جامعية بعنوان: "مجتمع وادي ريغ خلال العهد العثماني"، كانت سلالة بني جلاب الأمازيغية التي انهزمت في المغرب الأقصى وفقدت سلطانها لفائدة بني مرين خلال تلك الفترة، قد لجأت إلى منطقة تاجموت بمحافظة الأغواط الجزائرية، وغير بعيدٍ عن منطقة وادي ريغ، وصارت تنقل تجارتها إلى مدينة تقرت وورقلة.
في تلك الأثناء كان الشيخ محمد بن يحيى قد تولى منصب مشيخة المنطقة، ثم تحوّل إلى سلطانٍ لوادي ريغ، وكان هذا الرجل على علاقة قوية بتجار بني جلاب، فقام باستدعائهم إلى تقرت من أجل تنمية اقتصاد المنطقة، وخوفاً من استغلال اليهود لحاجات سكانها.
وأمام النهضة التي بدأت تشهدها المنطقة، أعلن بني جلاب تأسيس إمارتهم في وادي ريغ أواخر القرن الخامس عشر، وكان أحمد الجلاب أوّل سلطانٍ لهذه الإمارة.
يصف ليون الإفريقي الذي زار الإمارة عند تأسيسها بكونها كانت إمارة عامرةً بالصناع والنبلاء والأغنياء، وكان أهلها يحبون الغرباء، وكانت تستورد القمح من قسنطينة وتصدر إليها التمور، كما كان حولها العديد من القصور والقرى المأهولة المنتشرة على مسيرة ثلاثة أيام من مركزها تقرت، وذلك وفقاً لمقال بحثي بعنوان: "علاقة بني جلاب سلاطين تقرت بالسلطة العثمانية في الجزائر".
كما كان لإمارة بني جلاب جيش وحرس قوي مسلحٌ بأحدث أسلحة ذلك العصر، من الفرسان ورماة القذائف والبنادق.
تمردت على السلطة العثمانية أكثر من مرة
كانت إمارة بني جلاب أكثر الإمارات الجزائرية تمرداً على السلطة العثمانية، ورفضاً للتبعية إليها، لذا أفرد الحكام العثمانيون 4 حملاتٍ عسكرية ضد الإمارة، لعلّ أبرزها كانت حملة صالح رايس العسكرية ضد بني جلاب سنة 1552، والتي تمكن من خلالها صالح رايس من إخضاع إمارة بني جلاب إلى السلطة العثمانية، وذلك بعد أن قبلت الإمارة دفع الضرائب إلى السلطة العثمانية في الجزائر.
لكن انسحاب صالح رايس دون ترك حامية عسكرية بالمنطقة جعل إمارة بني مرين تتمرد مرة أخرى على السلطة العثمانية، لتأتي حملة ثانية بقيادة يوسف باشا سنة 1647م، ثم حملة ثالثة بقيادة صالح باي ما بين سنوات 1771 و1792، والتي هدفت إلى السيطرة على الإمارة من جديد، وأخيراً حملة أحمد المملوك باي قسنطينة سنة 1818 من أجل الضرائب.
أقامت علاقات تجارية مع دول الجوار
ولأن مؤسسيها الأوائل كانوا تجاراً فقد كانت علاقات إمارة بني جلاب التجارية مع دول الجوار أكثر قوة، خصوصاً أن عاصمة الإمارة تقرت كانت مركزاً لأهم طريقين تجاريين في الصحراء، وهما الطريق الذي يربط تافيلالت المغربية بغدامس الليبية، والطريق الذي يربط شمال الجزائر بالصحراء الكبرى.
وبغض النظر عن العلاقات السياسية والعسكرية بين بني جلاب والسلطة العثمانية، التي طبع عليها محاولة هيمنة العثمانيين على الإمارة الجنوبية، فقد كانت علاقتهما التجارية قوية للغاية من خلال التبادل التجاري الكبير بينهما، إضافةً إلى علاقات تجارية متميزة مع دولة بني مرين في المغرب الأقصى وتجار تونس وبلاد السودان.
قاومت الاحتلال الفرنسي، فقام بإلغائها
استمرت إمارة بني جلاب في وجود طيلة الفترة العثمانية، غير أنّ سقوط الجزائر في يد الاحتلال الفرنسي غيّر قدر هذه الإمارة إلى الأبد، فبعد أن انخرطت الإمارة في المقاومة الشعبية الجزائرية ضد الاحتلال، قام الفرنسيون بإلغاء الإمارة بعد احتلالهم تقرت وورقلة سنة 1854، ورغم ذلك واصل بني جلاب مقاومتهم للاحتلال الفرنسي، وذلك بإعلانهم تمردهم، والانضمام إلى مقاومة الشريف بوشوشة سنة 1871م، التي استمرت 10 سنوات، قبل أن تنتهي الإمارة نهائياً سنة 1881.