عند الحديث عن أبرز رموز المقاومة المغربية ضد الحماية الفرنسية، سيكون اسم المقاوم محمد الزرقطوني أول من يتبادر إلى الأذهان، خصوصاً بالنسبة لسكان مدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب، حيث كبر وترعرع، وعاش إلى آخر يوم في حياته.
وذلك لأنه كان للزرقطوني دور مهم في مقاومة الاستعمار، وتكريس فكرة المقاومة والدفاع عن حرية واستقلالية الوطن، وكان له الفضل الكبير في الحفاظ على سرية مخططات المقاومين المغاربة، بعد أن قدم روحه فداء للوطن.
محمد الزرقطوني.. نشأة مقاوم مغربي
ولد محمد الزرقطوني سنة 1925، في مدينة الدار البيضاء، وبالضبط في حي السوينية المتواجد في المدينة القديمة.
والده يحمل نفس اسمه، محمد الزرقطوني، أصوله من مدينة الصويرة، كان يعمل مقدماً للزاوية الحمدوشية، أما والدته فتنحدر من مدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب، مما جعله يترعرع في بيئة منفتحة على العلم والتعلم.
كان محمد الزرقطوني هو الابن البكر لأسرة تتكون منه ومن 3 أخوات، وقد تعلم الكتابة والقراءة في الزاوية الحمدوشية، ثم انتقل بعد ذلك لإتمام تعليمه في المدرسة العبدلاوية، التي كانت تعتبر من بين أوائل المدارس الخاصة في المغرب، والتي تم تأسيسها من طرف المناضلين المغاربة بدايات سنوات أربعينات.
عندما وصل إلى سن المراهقة، وبالضبط عندما كان عمره 16 سنة، وفي ظل الظروف الصعبة التي كان يعيشها مثل جميع المغاربة بسبب الحماية الفرنسية، التي كانت تسيطر على البلاد، وتسببت في تفشي الفقر، تخلى الزرقطوني عن الدراسة، وتوجه للعمل في مجال التجارة، لكن في نفس الوقت استمر في التمدرس بشكل ذاتي، وتعلم اللغة الفرنسية، من أجل تتبع جميع الأخبار وتحركات المستعمر في البلاد.
وبالرغم من سنه الصغيرة، إلا أن محمد الزرقطوني قد انخرط في المجال السياسي بشكل سريع، وأولى خطواته كانت الانضمام إلى حزب الاستقلال، الذي كان قد تأسس لنفس الهدف الذي كان يجول في خاطره، وهو تحرير البلاد من الوجود الفرنسي داخل أراضيها.
كان دور الزرقطوني داخل الحزب هو توزيع المنشورات على المواطنين، من أجل توعيتهم بما يدور في البلاد، خصوصاً أن هزيمة فرنسا من طرف الألمان في الحرب العالمية الثانية، زادت من رغبتهم في الحصول على الأراضي المغربية.
استقلال البلاد.. الفكرة التي سيطرت على عقل الزرقطوني
في سنة 1947، شهدت مدينة الدار البيضاء واحدة من بين أبشع العمليات المسلحة من طرف الاحتلال الفرنسي، والتي تمت قبل يومين من زيارة السلطان المغربي محمد بن يوسف لمدينة طنجة، حيث كان يحاول إيصال رسالة واضحة من خلال هذه الزيارة، وهي أن "هذه الأرض أرض واحدة، ولن يتم التفريط فيها مهما كان".
إلا أن الجنود قاموا بإفراغ الرصاص الحي على كل شخص وجدوه أمامهم في مدينة الدار البيضاء قبل تحقيق هذه الزيارة، ليسقط مئات القتلى من سكان المدينة، الأمر الذي جعل الرأي العام المغربي يتحرك بقوة ضد هذه الجريمة الشنعاء التي حصلت في قلب العاصمة الاقتصادية، وكانت نقطة البداية لتحرك محمد الزرقطوني وأصدقائه من أجل حماية البلاد والسعي من أجل استقلاله.
وعندما كان في سن 27، كان تفكير الزرقطوني منصباً نحو فكرة استقلال البلاد، وتطهيره من الخونة والمتواطئين مع المستعمر، إذ إنه كان الشخص المسؤول عن جميع العمليات الفدائية التي شهدتها مدينة الدار البيضاء، لتكون هذه المدينة أرضاً لمحاولاته العديدة في إرعاب الفرنسيين، والتأكيد على قدرة أبناء الوطن على استرجاع أراضيهم.
العمليات التي نفذها ضد الحماية الفرنسية
أسس محمد الزرقطوني خلية "اليد السوداء"، وقد كان العقل المدبر لجميع العمليات التي حصلت في مدينة الدار البيضاء مطلع الخمسينات، إلى جانب كل من المقاومين، محمد المنصور، والفقيه البصري، وسعيد بونعيلات، وحسن صفي الدين.
وكانت أولى العمليات ضد الحماية الفرنسية خلال ثورة الملك والشعب، التي اندلعت مباشرة بعد نفي سلطان البلاد الملك محمد الخامس إلى مدغشقر، يوم 20 أغسطس/آب 1953، صباح عيد الأضحى، والتي تمت عن عمد، وذلك بسبب رمزية هذا العيد الديني الكبيرة لدى المغاربة، ثم تلاها استشهاد المقاوم علال بن عبد الله، بعد ثلاثة أسابيع من نفي الملك، عند محاولته اغتيال السلطان ابن عرفة، الذي تم تعيينه من طرف الفرنسيين.
إذ قام الزرقطوني بالتخطيط وتنفيذ عملية تفجير القطار الرابط بين المغرب والجزائر، إذ قاموا بصنع قنابل بامكانياتهم الخاصة، ثم وضعوها في القطار الذي خرج من مدينة الدار البيضاء، يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1953، وقد تسبب الانفجار الذي حصل مباشرة بعد خروج القطار من مدينة الرباط في وفاة 12 شخصاً، وإصابة عشرات الفرنسيين، إضافة إلى تدمير عربات القطار.
أما أقوى العمليات التي تمت على يد محمد الزرقطوني وآخرها، فكانت في السوق المركزي لمدينة الدار البيضاء، المسمى بالفرنسي "مارشي سنطرال".
إذ اختار بدوره عيداً مهماً بالنسبة للفرنسيين، وهو عيد الميلاد عند المسيحيين، وقام بتفجير هذا السوق الذي يرتاده عدد كبير من المقيمين الفرنسيين في المغرب، مما تسبب في سقوط عدد كبير من الموتى، وحول العيد إلى جنازة كبيرة، وغضب عارم من طرف جنود الحماية الفرنسية.
ينهي حياته من أجل حرية الوطن
بعد عملية "مارشي سنطرال"، أصبح الشغل الشاغل للجنود الفرنسيين هو إلقاء القبض على منفذها، إلا أن الزرقطوني كان يعرف جيداً أن هذا ما سوف يحصل، لذلك كان يقوم بتغيير مسكنه باستمرار، كما أنه كان يعرف نفسه باسم مستعار، كي لا يتم كشف هويته.
وقبل بدء رحلة البحث عنه، كان الزرقطوني قد أكد لكل من معه في خلية "اليد السوداء" أنه في حال القبض عليه، سيتم القبض على جثة هامدة، لأنه لن يسمح بإفشاء أسرار المقاومين المغاربة، حتى وإن كلفه الأمر حياته.
هذا ما حصل بالفعل، فبعد أن تم إلقاء القبض على كل أعضاء الخلية، وقد تم ذكر اسمه في إحدى عمليات الاستنطاق والتعذيب، تمكن الجنود الفرنسيون من الوصول إليه، بمساعدة أحد الخونة، الذي وصل إليه، وهو الذي كان يختبئ في أحد المنازل في مدينة فاس.
بعد أن سمع الزرقطوني طرقاً قوياً على باب المنزل الذي كان يوجد به، وذلك يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1954، عرف أن الجنود الفرنسيين قد وصلوا إليه، وقبل اقتحامهم المكان، قام بتجرع السم، الذي كان يحمله معه أينما حل وارتحل، لكي يستعمله في حال تم اعتقاله، وإنهاء حياته قبل أي عملية استنطاق.
تمكن جنود الاحتلال من إلقاء القبض على محمد الزرقطوني، لكنهم لم يتمكنوا من الحصول على أي معلومات منه، لأنه توفي فعلاً في الطريق إلى مخفر الشرطة، في مدينة الدار البيضاء.
محمد الزرقطوني الحاضر الدائم في ذاكرة المغاربة
محمد الزرقطوني، والذي قرر إنهاء حياته من أجل الوطن، ولحماية الحركة الوطنية التي كانت تسعى إلى استقلال المغرب، أصبح واحداً من بين أهم رموز الحرية والمقاومة في المغرب.
وبالرغم من مرور سنين طويلة على هذه الأحداث، إلا أن اسمه بقي راسخاً في عقل كل مغربي عامة، وكل أبناء مدينة الدار البيضاء على وجه الخصوص.
إذ تم إطلاق اسمه على واحد من بين أكبر شوارع مدينة الدار البيضاء، كما أنه متواجد في عدد كبير من المؤسسات التعليمية والإدارية في مختلف مدن المغرب.
كما أن الكتاب الذي يحكي سيرة محمد الزرقطوني، والذي ألفه الصحفي المغربي محمد العسيبي، وحمل عنوان "حول سيرة الشهيد الزرقطوني"، عرف أكبر نسبة مبيعات سنة 2000، الشيء الذي أثبت أن ما فعله هذا المقاوم لن ينسى جيلاً بعد جيل، أبداً مهما مرت السنون.