تعتبر صناعة الملابس واحدة من أكبر الصناعات وأكثرها ربحية حول العالم، لكن الحقيقة أن تلك الصناعة تُخفي وراء أضوائها اللامعة، وواجهات متاجرها البراقة، وتصاميم ملابسها الجذابة قصصاً لمعاناة عشرات الملايين من البشر.
هل تعلم مثلاً أن صناعة النسيج والملابس مسؤولة عما يُقدّر بـ10% من جميع انبعاثات الكربون حول العالم، وهذه ليست حتى الأخبار السيئة، فصناعة النسيج تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية في تلوث المياه أيضاً.
تأثير صناعة الملابس على البيئة يفوق كل ما قد نعتقده، وإنه لَأمرٌ مذهل أن تكون الانبعاثات الكربونية المسؤولة عنها صناعة النسيج هي أكثر من الرحلات الجوية الدولية والشحن البحري مجتمعين.
وليس هذا فحسب، بل إن ما يُعرف بـ"الموضة السريعة" مرتبط بعمالة الأطفال في مراحل الإنتاج كافة بصناعة النسيج، لا سيما في البلدان الفقيرة. بدءاً من زراعة القطن، مروراً بجمع المحصول، حتى الغزل والصباغة، وصولاً إلى الخياطة.
تقدّر منظمة العمل الدولية (ILO) أن ما يقارب الـ170 مليون طفل، أي ما يعادل 11% من أطفال العالم يُقحَمون يومياً في العمل لساعاتٍ طويلة بأجورٍ زهيدة، وفي أعمال مرتبطة بصناعة الملابس.
كارثة "رانا بلازا".. تيتانيك صناعة الملابس
تمثل كارثة "رانا بلازا" الانتهاك الأكثر وضوحاً لحقوق العمال في عالم صناعة الملابس، ففي 14 أبريل/نيسان 2013، انهار مبنى مصنع "رانا بلازا" للملابس، المؤلف من 8 طوابق، فوق رؤوس العمال في بنغلاديش.
حدث ذلك في مقاطعة دكا، عاصمة دولة بنغلاديش، وأسفر عن مصرع أكثر من 1100 عامل وعاملة، كما ألحق إصابات بعددٍ أكبر. وقد أصبحت صور العمال القتلى، بين أنقاض المصنع المنهار، شهادةً واضحةً على جشع المؤسسات لتحقيق الأرباح على حساب العمال.
ووفقاً لـ"منظمة العفو الدولية" فقد سلّطت هذه الكارثة الضوءَ على الظروف غير الآدمية التي يعمل فيها عمال الملابس، خاصةً في تلك البقعة من العالم.
ومصنع "رانا بلازا" تحديداً كان سبق أن شهد مخاوف عدة تتعلق بالسلامة العامة، حين انتشرت صور تشققات الجدار في اليوم السابق للكارثة، بعدما رفض العمال دخول المبنى لبعض الوقت، قبل أن يتم إجبارهم على الاستمرار في العمل.
أهمية هذه الكارثة تكمن في أن هذا المصنع يورّد الملابس للعديد من العلامات التجارية العالمية، مثل: "بريمارك"، و"بينيتون" و"مانغو". ونتيجةً لهول الكارثة وقّعت أكثر من 200 علامة تجارية للأزياء على اتفاق يهدف إلى تحسين معايير السلامة في المعامل.
فتمّ التعهد للمرّة الأولى في تاريخ صناعة الملابس على السماح بإجراء عمليات تفتيش مستقلة داخل المصانع، وعلى تغطية تكاليف الإصلاحات اللازمة، على أن تُموَّل بنود هذا الاتفاق بمبالغ سنوية تصل إلى 500 ألف دولار لكلّ علامة تجارية.
لكن رغم ذلك لم تتغير الأوضاع كثيراً في مصانع الملابس، رغم مرور أكثر من عشر سنوات على تلك الكارثة، وظلّ العمال عُرضة لمخاطر كبرى فيما يتعلق بإجراءات السلامة العامة.
تحالف "الملابس النظيفة" (Clean Clothes Campaign)، لاتحادات العمّال والمنظمات غير الحكومية، يوثق وقائع تشير إلى وقوع عشرات الإصابات الخطيرة والوفيات أحياناً، بسبب حوادث الصعق الكهربائي والحرائق وانهيارات المباني في عدة دول مثل باكستان وبيرو.
ومن جهتها، تُعتبر بنغلاديش ثاني أكبر مصدّر للملابس في العالم -بعد الصين- وفيها أهم مراكز لصناعة الملابس.
وبين عامَي 2021 و2022، كان قطاع صناعة الملابس يحصد ما تفوق قيمته 42 مليار دولار أمريكي، أي ما يمثل 82% من إجمالي عائدات التصدير في البلاد. وهناك حوالي 4 ملايين عامل في قطاع صناعة الملابس، يمثلون جزءاً كبيراً من إجمالي القوى العاملة في البلاد.
في العام 2018، قُدّر أن 60% من عمال الملابس كانوا نساء، ووفقاً لـ"منظمة العمل الدولية" فإن العاملة النموذجية في قطاع الملابس الجاهزة هي أنثى بعمر 23 عاماً، ومهاجرة داخلية من منطقة ريفية، "تعيش مع أسرتها في سكن غير لائق بالقرب من مكان العمل".
أجور "بالملاليم" لصناعة تجني المليارات
إلى جانب ضعف إجراءات السلامة في عالم صناعة الملابس، فإن الانتقادات الموجهة إلى قطاع النسيج تتركز أيضاً على مسألة استغلال العمال.
وفقاً لإحصاءات "منظمة العمل الدولية" فإن حوالي 60 مليون شخص حول العالم يعملون في قطاع صناعة الملابس، حوالي 25 مليوناً منهم يعملون بشكلٍ قسري، وبأجورٍ منخفضة جداً.
وقد أشارت تقارير إلى أن الصين، وهي أكبر منتج للقطن في العالم، قد أجبرت عشرات الآلاف من مسلمي الإيغور على العمل بالسخرة في منطقة شينجيانغ، لإنتاج القطن الذي تستخدمه العديد من ماركات الملابس العالمية، مثل: "إتش آند إم"، "ونايكي".
ما جعل هذه الشركات عرضة لدعاوى قضائية تتهمها بالتستر على ممارسات السخرة، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
ولا يتوقف الاستغلال والعمل بـ"السخرة" في الصين عند مسلمي الإيغور، بل إن العمال في مصانع الألبسة الصينية غالباً ما يعملون بين 60 و80 ساعة في الأسبوع، وقد يتقاضون أجراً أقلّ من الحدّ الأدنى للأجور.
في جانب آخر، في أوزبكستان مثلاً، التي تشتهر هي الأخرى بإنتاج القطن، تُجبر الحكومة الأوزبكية ملايين المواطنين على العمل في حقول القطن، وغالباً ما يتم ذلك في ظلّ ظروف خطيرة وسيئة للغاية.
في عام 2011 اكتشف مفتشو العمل في البرازيل أن عمال أحد المصانع، الذي يورد المنتجات لماركة الأزياء الإسبانية الشهيرة "زارا"، كانوا يعملون في ظروفٍ شبيهة بالعبودية، يتقاضون أجوراً متدنية للغاية لا تكفي للمواصلات، مع ساعات عمل طويلة، وظروف عمل سيئة.
الاتهام نفسه واجهته ماركة الأزياء الإسبانية الأخرى الشهيرة "إتش آند إم"، التي تكررت إضرابات العمال في مصانعها بكمبوديا، ومعظمهم من النساء، احتجاجاً على تدني الأجور وسوء ظروف العمل.
كما واجهت شركة "نايكي" انتقادات واسعة لاستغلالها العمال، في سلسلة التوريد الخاصة بها، ولا سيما في دول مثل فيتنام وإندونيسيا.
انتهاك حقوق العمال في قطاع صناعة الملابس يبدو أكثر وضوحاً، حين يتعلق الأمر ببعض الفئات "الضعيفة"، مثل اللاجئين الذين يُعتبرون أكثر عرضةً للاستغلال بسبب وضعهم غير المستقر، الذي يدفعهم إلى القبول بظروف عمل غير إنسانية.
فقد وجد تحقيقٌ أجرته "وزارة العمل الأمريكية" أن العديد من صناعة الملابس في لوس أنجلوس كانت متورطة في "سرقة الأجور"، لم يكن العمال، وأغلبهم من المهاجرين، يتقاضون الحد الأدنى للأجور، أو لقاء العمل لساعات إضافية.
الأمر ذاته ذكره تقريرٌ صادر عن الحكومة البريطانية، الذي أفاد بأن المهاجرين الذين يعملون في صناعة الملابس بمدينة ليستر يتقاضون أجوراً أقلّ من الحدّ الأدنى، ويعملون في ظروفٍ غير صحية.
أما الهند، وهي كذلك مورد رئيسي في صناعة النسيج والملابس، فقد تركت هي الأخرى بصمتها في انتهاك حقوق العمال. فقد أشارت تقارير مختلفة إلى تجنيد الأطفال- الذين تقلّ أعمارهم عن 10 أعوام- للعمل في حقول القطن، حيث يبقون لساعاتٍ طويلة في ظروفٍ خطرة، إضافةً إلى أنه لا تتاح لهم أي فرصة لتلقي التعليم.
"الموضة السريعة".. ارْبح أكثر ودمِّر أكثر
يستخدم مصطلح "الموضة السريعة" (Fast fashion) لوصف نموذج اشتهر مؤخراً في صناعة الملابس، ويعتمد على إنتاج كميات كبيرة من الملابس منخفضة التكلفة، وبوتيرة سريعة.
أصبحت الموضة السريعة منتشرة بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، وبفضل هذا التوجه تمكنت شركات صناعة الملابس من إنتاج 100 مليار قطعة كل عام. وصارت الماركات العالمية تتنافس باستمرار لتقديم أزياء جديدة على مدار السنة، وجني أرباح أكثر.
ما جعل عملاق الأزياء الإسباني "زارا" يحتل موقع الريادة، مع طرح الشركة لـ65 ألف نوع من الأزياء الجديدة كل عام. وبفضل تلك الاستراتيجية، تمكن مؤسّس الشركة الإسبانية أمانسيو أورتيغا من أن يصبح أحد أثرى أثرياء العالم.
ولكن رغم أن الهدف المعلن لاستراتيجية "الموضة السريعة" هو تزويد أكبر عدد ممكن من الناس بمجموعات أزياء رخيصة خلال فترات أقصر، إلا أن لها جانباً مظلماً مرتبطاً بعمالة الأطفال في مراحل الإنتاج كافة، لا سيما في البلدان الفقيرة.
170 million are engaged in child labor. Many of them work in the garment industry supplying demands for places like the US and Europe. Imagine a world where these children spent their days in classrooms rather than fast fashion factories. #QualityEducation #SDG4 (Photo: UNICEF) pic.twitter.com/EyMH43JLwS
— Fashion For Conservation (@FFConservation) March 29, 2019
أحد الانتقادات الرئيسية هو تأثيرها على العمال، فرغبة الشركات الكبرى في إنتاج كميات أكبر من الملابس في وقتٍ قصير تؤدي إلى زيادة الضغط على سلاسل الإمداد، وفي مقدّمتها العمالة الرخيصة التي تستعين بها في البلدان النامية.
ومجدداً يطفو الحديث عن ظروف العمل السيئة، وتدني الأجور، وتعرض العمال للإساءة اللفظية والجسدية، إضافةً إلى انعدام الرعاية الصحية الأساسية، أو معدات السلامة.
"الموضة السريعة" لها كذلك تأثير ضار على البيئة، وإلى جانب أنها تنتج في عالم صناعة الملابس ما يقارب 10% من جميع انبعاثات الكربون البشرية، فهي ثاني أكبر مستهلك لإمدادات المياه في العالم، وتلوث المحيطات بالجسيمات البلاستيكية الدقيقة.
ووفقاً لتقرير نشره موقع "دويتشه فيله"، فإن صناعة النسيج هي ثاني قطاع يملك أسوأ سجل بيئي. فمادة الفيسكوز، التي تُصنع من ألياف الخشب، هي النسيج المفضل لمنتجي الأزياء السريعة، لكن عملية إنتاجها تتطلب مواد كيميائية عدة، ما يلحق أضراراً جسيمة بصحة العمال والسكان الذين يعيشون بالقرب من المصانع.
كما أن الوتيرة السريعة للأزياء والموضة تعني أن تلك الملابس غالباً ما سيتمّ ارتداؤها بضع مرات فقط، قبل التخلص منها، ما يؤدي إلى قدر كبير من الهدر، وهو ينمي ثقافة استهلاكية سيئة في المجتمع.
بدورها، تحتاج زراعة القطن أيضاً إلى استخدام كميات ضخمة من الأسمدة والمبيدات لتقوية المحصول، وتذهب 25% على الأقل من المبيدات الزراعية، وأكثر من 10% من جميع الأسمدة الكيميائية المستعملة في العالم إلى مزارع القطن.
كما تحتاج هذه الزراعة كذلك إلى قدر كبير من المياه، ويلزم 13 ألف لتر من الماء على الأقل لزراعة ومعالجة وصباغة كيلوغرام واحد من القطن، ويمكن أن تتسبب صناعة الغزل والنسيج في تسرب 20% من المخلفات الملوثة إلى موارد المياه السطحية والجوفية.
وينعكس هذا الضرر البيئي أيضاً على صحة الإنسان، ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، أكثر من 40 ألف شخص يموتون سنوياً. وتضاعف حجم التأثير السلبي لصناعة الملابس، خاصةً بعد ظهور البدائل الصناعية للقطن (مثل البوليستر) وانخفاض أسعارها بشكل كبير.
بعد كل تلك المعلومات المخيفة يحق لنا أن نسأل عما إذا كان بإمكاننا أن نرتدي ملابس سعيدة، لم يجمع قطنها ويغزله أطفالٌ تُنتهك حقوقهم ويُحرمون من أساسيات الحياة، أو إذا كان يمكن أن نشتري قطعة ملابس، تقاضى العمال في مصانعها أجراً عادلاً.