كان جورج الثالث، ملك بريطانيا، شخصية محبوبة تحظى بالتقدير على المستوى الشعبي، فقد عرف بأنه حكيم ومنصف واكتسب محبة الجمهور من خلال دعمه للعلوم والفنون، وقد كان يوصف بأنه أكثر ملوك أوروبا استنارة. لكن في يوم من الأيام، أصيب الملك الشاب بنوبة مرض كانت تبدو عادية في بداية الأمر إلا أنها تطورت لتتحول إلى جنون عنيف لم يستطع الملك الشفاء منه حتى يوم وفاته.
جورج الثالث.. بدايات الجنون
كان الملك يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً عندما ظهرت عليه علامات وأعراض غير طبيعية. فبعد مرور خمس سنوات فقط على استلامه العرش، وتحديداً عام 1765، أصيب الملك جورج الثالث بحمى وسعال شديد رافقتهما خسارة في الوزن وصعوبة في الخلود إلى النوم ليلاً. لكن أكثر ما كان يثير القلق في حالة الملك هو معاناته من ضعف إدراك واضح، لدرجة أنه قد تم تمرير قانون برلماني لتعيين وصي على العرش في حال كان الملك عاجزاً عن أداء مهامه. لحسن الحظ، تعافى الملك بسرعة، ومرت تلك الحادثة بسلام.
لكن في عام 1788 أصيب الملك مرة أخرى بنوبة مرَضية أشد من سابقتها، فلم يتوقف الأمر هذه المرة على ضعف في الإدراك، بل تجاوزه أيضاً ليشمل حالات من الهوس والتصرفات الغريبة. فقد بات الملك وقحاً بشكل فج مع حاشيته، وعانى من الهلوسة، وبات يتحدث لساعات دون توقف، وخرج سلوكه عن السيطرة لدرجة أنه حاول أكثر من مرةٍ أن يعتدي جنسياً على سيدات القصر. كذلك عانى الملك من نوبات عنيفة، وكانت تشنجاته شديدة لدرجة أن الخدم اضطروا إلى تثبيته على الأرض؛ لمنعه من إصابة نفسه.
كانت عائلة جورج وموظفوه في حيرة من أمرهم، فقد تحول الملك الودود المهذب فجأة إلى مجنون هائج.
ومع مرور قليل من الوقت، أدرك جميع من في قصر ويندسور أن مساً من الجنون قد أصاب الملك لا محالة، والدليل على ذلك تصرفاته الغريبة، فقد شوهد مرة على سبيل المثال وهو يدفن شريحة لحم في أرض حديقة القصر، معتقداً أنها ستنمو لتصبح شجرة من لحوم البقر، كما شوهد وهو يحاول مصافحة شجرة بلوط، معتقداً أنها ملك بروسيا.
رحلة علاج مليئة بالتعذيب
بعد هذه التصرفات الفاضحة، تم نقل جورج من شقته في وندسور إلى البيت الهولندي في لندن. هناك، حاول أطباؤه علاج جنونه وفشلوا بالطبع، فقد استخدموا أساليب للعلاج تصنف اليوم على أنها "أدوات تعذيب". فعلى سبيل المثال جرب الأطباء وضع مساحيق تحتوي على الزرنيخ على جلد الملك لجعله يحترق ويتقرح، كما جربوا تجويعه وإغراقه في ماء بارد متجمد؛ لعل ذلك يساعده في التخلي عن جنونه كما كانوا يظنون، كذلك تم إعطاء الملك أدوية تجعله يتقيأ.
كل هذه العلاجات كانت تهدف إلى "استخلاص" جنون الملك واستعادة عافيته. ومما يثير الدهشة أن الأطباء لم ينجحوا في مسعاهم، بل زاد جنون الملك عن سابق عهده.
مع تدهور حالة الملك، قررت زوجته الملكة شارلوت، أن تلجأ إلى طبيب معروف يدعى فرانسيس ويليس، وهو طبيب كان يعتقد أن السبب الجذري للمرض العقلي هو الإثارة المفرطة، وبالتالي فقد كان ينوي علاج الملك من خلال التحكم الصارم في سلوكه، واتبع معه أسلوب الثواب والعقاب.
ففي كل مرة يسيء فيها الملك التصرف، أو يقْدم على فعل مجنون يأمر الطبيب بتقييده من رأسه حتى أخمص قدميه عن طريق لفه بسترة، وكان يتجول في القصر دون أن يرى شيئاً أمامه بسبب تلك السترة ودون أن يكون قادراً على تحريك يديه، ويستمر في الصراخ حتى يتعب ويهدأ، وحين يحسن الملك التصرف كان يسمح له الطبيب برؤية أفراد عائلته على سبيل المثال.
الغريب أن أسلوب ويليس نجح مع الملك بالفعل، وبدأ يستعيد عافيته شيئاً فشيئاً، وبحلول عام 1789 عاد جورج إلى طبيعته تماماً.
الانتكاس
اليوم يشك العلماء في أن أساليب ويليس قد أدت بالفعل إلى شفاء الملك، خاصةً أنه انتكس ثانية عام 1801 ثم استعاد عافيته مرة أخرى ليعود ويعاني من عدة انتكاسات عام 1804 أدت إلى احتجازه مرة أخرى في البيت الهولندي.
تعافى الملك ثانية لكن أتته الضربة القاضية في عام 1810، حيث أصيب الملك بالعمى التام بسبب إعتام عدسة العين، حينها عانى جورج الثالث من انهيار عقلي كارثي أخير تركه مجنوناً بشكل دائم. وخلال السنوات العشر الأخيرة من حكمه، تحول إلى شخصية حزينة ووحيدة، وكان يتجول في أروقة قلعة وندسور كالأشباح مرتدياً ملابس متسخة ومُطلقاً لحيته الطويلة. وعندما توفيت زوجته شارلوت في عام 1818، لم يتذكر جورج هويتها ولم يحزن عليها، ومات بعدها بعامين في 29 يناير/كانون الثاني 1820 عن عمر يناهز 81 عاماً، بعد أن حكم بريطانيا مدة ستين عاماً، قضى معظمها وهو يعاني من نوبات الجنون المتتالية، وفقاً لما ورد في موقع history.
ما الذي تسبب في مرض الملك جورج الثالث؟
في ذلك الوقت، كان يعزى انهيار الصحة العقلية إلى أسباب غيبية، ولم يكن الطب قد تطور بشكل كافٍ ليستطيع التعامل مع مثل هذه الأمراض، على العكس تماماً فقد أدى العلاج الذي طُبق على الملك إلى تدهور حالته وتحطيم ما تبقى من صحته النفسية.
في الستينيات من القرن الماضي، قام الطبيبان النفسيان الأمريكيان إيدا ماكالبين وريتشارد هانتر بدراسة حالة الملك جورج الثالث وشخَّصاه بأنه كان يعاني من البورفيريا، وهو مرض وراثي يبدو أنه يتناسب مع أعراض الملك من آلام في المعدة، وأرق ليلي، وتغير لون البول، ونوبات الجنون. ومع ذلك، وفي السنوات الأخيرة، كان تشخيص البورفيريا محل خلاف بين الأطباء، ويعتقد الآن أن جورج كان يعاني من شكل حاد من الاضطراب ثنائي القطب.