تمتد العاصمة الأوكرانية كييف على طول نهر دنيبر الواقع شمال وسط أوكرانيا، ويعتقد أن المدينة استمدت اسمها من أحد المؤسسين الثلاثة للمدينة التي يعتقد أنها كانت مركزاً تجارياً هاماً في أوروبا منذ القرن الخامس. مرت المدينة بمراحل هامة في تاريخها، وتعرضت للغزو عدة مرات قبل أن تنال استقلالها في نهاية المطاف.. إليكم قصتها:
تاريخ مدينة كييف
يعتقد أن البشر سكنوا المنطقة التي تعرف اليوم باسم "كييف" منذ أوائل العصر الحجري، لكن يعتقد المؤرخون أن تاريخ تأسيس المدينة يعود إلى عام 482، أي أن كييف احتفلت بالعيد 1500 لتأسيس كييف عام 1982. وتقول الأساطير القديمة أن كييف تأسست على يد ثلاثة أشقاء هم كي وشيك وخوريف وأختهم لايبيد، وقد سميت المدينة تيمناً بأكبر الأشقاء الثلاثة "كي" حيث أن كلمة كييف تعني "مدينة كي".
تجمعت العديد من القبائل القديمة حول كييف، وفي نهاية القرن التاسع أصبحت المدينة المركز السياسي للسلاف الشرقيين. وفي عام 988، أصبحت المسيحية، التي ساهم في نشرها الأمير العظيم فلاديمير، الديانة الرسمية لروس كييف.
وقد ساعد هذا في إقامة علاقات سياسية وثقافية مع دول مثل الإمبراطورية البيزنطية وبلغاريا.
عندما توفي فلاديمير مونوماخ في عام 1152، بدأت روسيا الكييفية القوية في الاضمحلال. وفي عام 1362 استولى دوق ليتوانيا العظيم على المدينة إذ بقيت لأكثر من مائة عام تحت قيادة الدوقات الليتوانيين والبولنديين، ولم تتخلص كييف من سيطرتهم إلا بعد حرب التحرير بين عامي 1648-1654. لكن جيوش القوزاق لم تتمكن من التغلب على العدو دون مساعدة من روسيا. نتيجة لذلك، غرقت أوكرانيا تحت فترة طويلة من هيمنة الإمبراطورية الروسية.
كييف تحت حكم روسيا القيصرية
مع بدايات عام 1793 بدأت كييف بالازدهار من الناحية التجارية تحت حكم الإمبراطورة الروسية كاثرين الثانية.
تميز عهد كاثرين بتقسيم أوكرانيا إلى مقاطعات إدارية جديدة، والتي أصبحت كييف مركزًا لها. بعد ذلك، أصبحت كييف مركزاً يغطي ثلاث مقاطعات.
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أصبحت كييف محوراً رئيسياً للحركة القومية الأوكرانية، لكن بسبب الاضطهاد الشديد من الحكومة القيصرية أجبرت الحركة على تحويل أنشطتها إلى لفيف والتي كانت منطقة أوكرانية خاضعة للحكم النمساوي آنذاك.
مع ذلك احتضنت كييف نشاط ثورياً سرياً بلغ ذروته في سلسلة من الإضرابات والمظاهرات التي أدت إلى الثورة الروسية عام 1905، وقد كان للحركة الثورية الطلابية في جامعة كييف دور هام في اندلاع تلك الثورة
خلال القرن التاسع عشر، أدت الأهمية الاقتصادية المتزايدة لأوكرانيا، وخاصة الصادرات المتزايدة للحبوب، إلى مزيد من التنمية في كييف والتي نجم عنها ظهور المصانع الحديثة، وإلى جانب تصدير الحبوب نمت صناعة الأخشاب في كييف فضلاً عن صناعة السفن الحربية.
طورت المدينة كذلك صناعات أخرى مثل صناعة الجلود ومعالجة التبغ والتقطير والتخمير وإنتاج المنسوجات. وفي أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، تم ربط كييف عن طريق السكك الحديدية بكل من موسكو وميناء أوديسا على البحر الأسود ، مما عزز دورها كمركز للصناعة والتجارة والإدارة، وفقاً لـbritannica.
كييف.. طريق طويل نحو الاستقلال
مع اندلاع الثورة الروسية عام 1917 تأسس البرلمان الثوري في كييف بمبادرة من جمعية التقدميين الأوكرانيين والجمعيات الثقافية والمهنية والسياسية الأخرى، وتم انتخاب عضويتها من قبل المؤتمر الوطني لعموم أوكرانيا.
وفي يناير 1918، أعلن البرلمان الثوري دولة أوكرانية مستقلة وعاصمتها كييف. وفي تلك الزثناء تم قمع الانتفاضات الصغيرة التي قام بها العمال البلشفيون المؤيدون للسوفييت، لكن القوات السوفيتية جاءت لمساعدتهم وتمكنت من دخول كييف في 9 فبراير 1918، حيث نفذت قوات الاحتلال عمليات انتقامية وحشية ضد العديد من الأوكرانيين في المدينة.
ومع ذلك، ومن خلال معاهدة بريست ليتوفسك في 3 مارس 1918 اعترفت الحكومة السوفيتية باستقلال أوكرانيا.
لكن هذا لم يعني الاستقلال التام لأوكرانيا، فقد احتلت القوات الألمانية البلاد على الفور وشكلت حكومة أوكرانية عميلة في كييف، مع ذلك سرعان ما انهارت تلك الحكومة مع استسلام ألمانيا للحلفاء في نوفمبر 1918 وانسحاب القوات الألمانية لاحقًا.
مرة أخرى، تم إعلان دولة أوكرانيا المستقلة في كييف ، تحت قيادة سيمون بيتليورا، لكن البلاد لم تشهد السلام المرجو، فقد عصفت بها سلسلة من الصراعات بين القوميين الأوكرانيين والقوى المناهضة للبلشفية (البيضاء) والقوى السوفيتية (الحمراء).
وفي نوفمبر 1919، تم الاستيلاء على كييف لفترة وجيزة من قبل الجيوش البيضاء تحت قيادة الجنرال أنطون إيفانوفيتش دينيكين قبل أن يحتلها الجيش الأحمر في نهاية المطاف .
لم يبق الجيش الأحمر مطولاً في كييف فبعد اندلاع الحرب الروسية البولندية عام 1920 تمكن البولنديون من الاستيلاءعلى كييف ولكن تم طردهم في هجوم مضاد.
كييف تحت حكم السوفييت ثم النازيين
تسبب دور كييف كمركز للقوميين الأوكرانيين في نقل الحكومة السوفيتية عاصمة جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية الجديدة إلى خاركيف ، ولم تسترجع كييف مكانتها كعاصمة للبلاد حتى عام 1934.
لكن في غضون ذلك، جرت محاولات لإعادة إنعاش اقتصاد المدينة المحطم من خلال تنفيذ الخطط الخمسية السوفيتية، وابتداء من عام 1928 وحتى بدايات الحرب العالمية الثانية ، تم إنشاء صناعات جديدة في كييف منها الصناعات الكهربائية والكيميائية.
لم تدم السيطرة السوفييتية على البلاد، فقد اجتاحت ألمانيا كييف مجدداً في عام 1941 مما تسبب في معاناة شديدة ودمار للمدينة. فبعد معركة شرسة استمرت 80 يومًا، دخلت القوات الألمانية المنطقة في 19 سبتمبر 1941. وبعد ذلك بوقت قصير، قُتل ما يقرب من 34000 يهودي في غضون أيام في واد قريب يعرف باسم بابي يار حيث قُتل عشرات الآلاف من اليهود والغجر وغيرهم من الأوكرانيين هناك خلال عامين فقط.
كذلك تم ترحيل العديد من سكان كييف الآخرين للعمل القسري وإلى معسكرات الاعتقال.
وفي عام 1943، عادت القوات السوفيتية لتقتحم كييف وبعد قتال مرير ، استولت عليها في 6 نوفمبر. تعرضت المدينة نفسها لدمار كبير، فقد انهار أكثر من 40 في المائة من مبانيها وحوالي 800 من مؤسساتها الصناعية.
وبسبب دور كييف في الحرب، تم تكريم المدينة من قبل الحكومة السوفيتية لاحقًا بأمر لينين ، ولقبت بالمدينة البطلة، ومنحت ميدالية النجمة الذهبية. في الخطة الخمسية لما بعد الحرب، تم تنفيذ إعادة إعمار سريع للمنطقة.
عادت الصناعة لتزدهر من جديد في كييف خلال منتصف وأواخر القرن العشرين. لكن في 1986 وقعت حادثة محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية على بعد 65 ميلاً (104 كم) شمال كييف. وعلى الرغم من أن مسؤولي الحزب الشيوعي كانوا على دراية بالتهديد الذي تشكله المواد المشعة المحمولة بواسطة الرياح، إلا أنهم لم ينقلوا هذه المخاوف للسكان، وبسبب عدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة تعرض سكان كييف لمستويات عالية من الإشعاع، لتحل بالمدينة كارثة جديدة بعد انتهاء الحرب طويلة الأمد.
كييف في أوكرانيا المستقلة
خلال فترة الحكم السوفييتي، كانت كييف تعتبر كياناً سياسياً يتمتع بقدر من الحكم الذاتي، لكن إنشاء دولة أوكرانيا المستقلة أعاد كييف إلى المسرح السياسي العالمي بقوة.
صوت الأوكرانيون بأغلبية ساحقة لصالح الاستقلال في 1 ديسمبر 1991، لكن البلاد كافحت للهروب من مدار موسكو. أصبحت كييف مركزًا للمعركة الأيديولوجية بين الغرب الأوكراني الموالي لأوروبا وشرقها المولع بالروس. نزل عشرات الآلاف إلى شوارع العاصمة للاحتجاج على عمليات تزوير واسعة النطاق وحشو بطاقات الاقتراع في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2004 ، والتي شارك فيها المرشح المدعوم من روسيا.
وعندما هزم فيكتور يانوكوفيتش المرشح المؤيد للغرب فيكتور يوشينكو . حشد يوشينكو، الذي نجا بصعوبة من محاولة تسميم خلال الحملة، أنصاره في حركة أصبحت تعرف باسم الثورة البرتقالية . ونتيجة لذلك ألغت المحكمة العليا الأوكرانية نتيجة الانتخابات، وانتصر يوشينكو في إعادة الانتخابات اللاحقة.
هزت موجة أخرى من الاحتجاجات كييف في 2013-2014 ، عندما تراجع يانوكوفيتش ، الذي خلف يوشينكو كرئيس ، عن اتفاقية الشراكة المخطط لها مع الاتحاد الأوروبي.
أقام المتظاهرون المؤيدون للاتحاد الأوروبي معسكرًا في ميدان نيزاليجنوستي ("ميدان الاستقلال") وكانت النتيجة مقتل العشرات في فبراير 2014 بعد أن فتحت الشرطة وقوات الأمن النار على حشود من المتظاهرين.
فر يانوكوفيتش ، الذي تخلى عنه حلفاؤه السياسيون وتحت تهديد المساءلة ، إلى روسيا ، وأطلق المتظاهرون ، الذين أطلق عليهم اسم حركة الميدان الأوروبي ، حكومة موالية للغرب.
مع الإطاحة بيانوكوفيتش سرعان ما تحرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لزعزعة استقرار الحكومة الأوكرانية المؤقتة . كان غزو وضم جمهورية القرم الأوكرانية المتمتعة بالحكم الذاتي بمثابة بداية لحملة حرب روسية ممتدة ضد أوكرانيا.
دعمت روسيا انتفاضة انفصالية في شرق أوكرانيا، وتعرضت كييف لحرب إلكترونية متكررة. ففي عامي 2015 و 2016، عطل قراصنة، يُعتقد أنهم يعملون لدى المخابرات الروسية، الشبكة الكهربائية في كييف، مما أدى إلى إغراق أجزاء من المدينة في الظلام لساعات.
أما الحرب الروسية المباشرة على العاصمة الأوكرانية فقد تم إعلانها في فبراير 2022. وكان أحدث هجوم على العاصمة الأوكرانية كييف، ذلك الذي قامت به القوات الروسية في ذكرى تأسيس المدينة.