منذ بداية ما يُعرف بحروب الاسترداد الإسبانية، بعد سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس، طبعت الحروب المشهد العام في العلاقة بين المغرب وجارته الشمالية إسبانيا، فاحتل الإسبان وحلفاؤهم البرتغاليون الساحل المغربي، وبعض المدن المغربية الحيوية مثل سبتة ومليلية وطنجة وتطوان، وأمام هذا الواقع دفع السلطان المغربي، محمد بن عبد الله، في أواخر عام 1779، بالسفير والدبلوماسي المغربي ابن عثمان المكناسي من أجل توقيع اتفاقية سلام مع إسبانيا، والمعروفة في المصادر الأجنبية باسم Treaty of Aranjuez، والتي من خلالها نجح ابن عثمان المكناسي في إعادة تشكيل العلاقات بين البلدين على أسسٍ جديدةٍ قوامها السلم والتبادل التجاري والتعاون الدبلوماسي، كان ذلك في مثل هذا اليوم (30 مايو/أيار 1780).
اتفاقية آرانخويث أرست السلام بين المغرب وإسبانيا وحررت الأسرى الجزائريين
طوال القرون التي تلت سقوط الأندلس كانت دول المغرب العربي، وبدرجةٍ أكبر المغرب الأقصى، من أكثر المناطق التي تضررت من هجمات الإسبان والبرتغاليين فيما عُرف تاريخياً بحروب الاسترداد الصليبية التي قادتها إسبانيا، فلم يتوقف المغاربة لحظة عن حمل السلاح والدفاع عن أراضيهم من الحملات الإسبانية.
ففي سنة 1415 ميلادية، أي قبل سقوط غرناطة، سقطت مدينة سبتة المغربية في يد الاحتلال البرتغالي، الذي تنازل عن المدينة للإسبان سنة 1668 بمقتضى معاهدة لشبونة مقابل اعتراف إسبانيا باستقلال البرتغال، فيما احتلت مدينة مليلية من قبل الإسبان سنة 1497 ميلادية، في حين تحوّلت مدينة طنجة إلى مدينة دولية في القرن الـ17.
ورغم محاولات المغرب تغيير هذا الوضع بالسلاح، من خلال خوضه عدة معارك مع كلٍّ من إسبانيا والبرتغال وفرنسا، فإنّ محاولاته باءت في الفشل.
وأمام هذا الوضع، انتهجت الدولة العلوية الحاكمة للمغرب حينها نهج الدبلوماسية من أجل الحفاظ على ما تبقى من أراضيها وحكمها، فقام السلطان المغربي، محمد بن عبد الله، بإرسال سفارة إلى ملك إسبانيا، كارلوس الثالث، في أكتوبر/تشرين الأوّل من سنة 1779، وكان على رأسها السفير والرحالة ابن عثمان المكناسي الذي نجح في توقيع اتفاقية بين المغرب وإسبانيا في 30 مايو/أيار 1780م، سميت بمعاهدة آرانخويث، نسبةً للمدينة الإسبانية التي شهدت توقيع المعاهدة.
وخلال هذه الاتفاقية أراد السلطان المغربي استغلال حالة الحرب التي كانت قائمة بين بريطانيا وإسبانيا من أجل فرض قواعده للخروج باتفاقية سلامٍ مع إسبانيا.
فقد كان الإسبان يخشون أن يقبل المغرب التحالف مع البريطانيين، ويعلن الحرب على إسبانيا كما فعل عام 1774.
ونصّت هذه المعاهدة على السلم بين البلدين وإنهاء المشاكل القائمة بينهما، إضافة إلى التعاون في المجال الدبلوماسي، والتبادل التجاري بين الضفتين.
وكان السفير المغربي قد تمكن خلال هذه الزيارة من إطلاق أكثر من 100 أسير مسلم من السجون الإسبانية، غالبيتهم من الأسرى الجزائريين.
هل منحت معاهدة آرانخويث مدينتي مليلية وطنجة للإسبان؟
رغم أنّ السفير المغربي ابن عثمان المكناسي نجح في إرساء السلم بين المغرب وإسبانيا وأوقف الهجمات الإسبانية على المدن المغربية والقوافل التجارية وبسط المغرب سيادته على بعض الأراضي التي تنازلت عنها إسبانيا من خلال اتفاقية آرانخويث، فإنّ بعض المؤرخين يعيبون على المعاهدة أنها سلمت بعض الأراضي والمدن المغربية للإسبان.
فخلال هذه المعاهدة، اعترف السلطان المغربي بالحكم الإسباني على مدينة مليلية، والمستمر حتى اللحظة، كما أنّ المعاهدة شملت في إحدى بنودها انّ تتحوّل مدينة طنجة من مدينة دولية إلى مدينة إسبانية، بحيث طلب السلطان المغربي بعد توقيع المعاهدة من سفراء وقناصلة الدول الأوروبية الرحيل عن المدينة وبقاء الإسبان وحدهم فيها.
علاوةً على ذلك، أعطت الاتفاقية للإسبان حق الاحتكار التجاري بمدينة طنجة، فكانت جميع المنتوجات المغربية تتجه إلى إسبانيا عبر طنجة، خاصة القمح. وكان من مزاياها أيضاً حرية التجارة بالنسبة للإسبان والاستيطان في طنجة، وكانت هذه هي البداية والفترة الحقيقية للهجرة الإسبانية إلى هذه المدينة.
ابن عثمان المكناسي مهندس اتفاقية آرانخويث
يعدّ المؤرخ والرحالة المغربي أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي مهندس اتفاقية آرانخويث بين الدولة العلوية وإسبانيا، التي وقّعت في الـ30 من مايو/أيار 1780 بمدينة آرانخويث الإسبانية.
وعلى رغم من كونه رحالة ومؤرخ، يهتم بالتدوين فلا يعرف عن حياة ابن عثمان المكناسي المبكرة شيئاً، سوى أنّه وُلد ونشأ بمدينة مكناس التي أشتهر باسمها، كما أنّ عائلة ابن عثمان كانت من العائلات العريقة بمكناس، وهو الأمر الذي ساعد ابن عثمان المكناسي في أن يعيش حياةً ميسرة.
في صغره، خالط ابن عثمان المكناسي الأمراء من أبناء السلطان محمد بن عبد الله، الأمر الذي جعله يدخل في خدمة بلاط السلطان بتكليفه بمهمة سرد وقراءة الكتب بين يديه في البداية، ثم تمّت رقاه إلى رتبة كاتب في ريعان شبابه.
سرعان مع ترقى ابن عثماني إلى رتبة سفيرٍ للدولة العلوية، وذلك في إسطنبول، ثمّ مدريد سنة 1779، وهي الفترة التي نجح فيها ابن عثمان في هندسة اتفاقية آرانخويث للسلام بين المغرب وإسبانيا.
وبعد نجاحه في ذلك، كان ابن مكناس أمام ترقية أخرى، وهي تعيينه وزيراً في بلاط السلطان محمد بن عبد الله، ثمّ سفيراً لمالطة ومملكة نابولي سنة 1781.
توفي ابن مكناس سنة 1799، وذلك بسبب الطاعون الذي أصاب المغرب في ذلك الوقت، وترك 3 مؤلفات هي خلاصة رحلاته الثلاث، وهي:
الرحلة الأولى عنوانها "الإكسير في فكاك الأسير"، ألفها عن سفرته الأولى إلى إسبانيا في الفترة ما بين 1779 و1780م.
الرحلة الثانية عنوانها "البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر"، والتي دوّن فيها يومياته ومشاهداته خلال السفرة التي أوفده فيها السلطان العلوي محمد الثالث إلى كل من مالطا ومملكة نابولي سنة 1195هـ/نوفمبر 1781.
أمّا الرحلة الأخيرة، فكان عنوانها "إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والتبرك بقبر الحبيب"، والتي ألفها عن سفرته الثالثة في عهد السلطان العلوي محمد الثالث، والتي قادته إلى كل من إسطنبول والشام والحجاز وفلسطين وتونس والجزائر، حيث استغرقت هذه الرحلة نحو 3 سنين.