في الوقت الذي تكتسب فيه مدينة إسطنبول أهمية اقتصادية وديموغرافية وتاريخية كبيرة، تضع المدينة في المقدمة قبل بدء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية 2023، فإن مدينة إزمير تكتسب أهمية أيضاً كونها تعتبر معقل اليسار والديمقراطيين والاجتماعيين في البلاد.
لماذا تعتبر إزمير معقل المعارضة التركية؟
إذاً، هل إزمير هي حقاً معقل الأحزاب التي تصف نفسها أنها على اليسار وتحديداً حزب الشعب الجمهوري المُعارض، أم أن وجهة النظر هذه هي مجرد وهم تاريخي؟
إزمير لم تقف دائماً إلى جانب الجمهوريين وإنما كانت تدعم الأحزاب اليمينية
إذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً، سنجد أنّ مدينة إزمير لم تكن دائماً الداعم الأكبر للأحزاب التي تعرف نفسها بأنها أحزاب يسارية مثل حزب الشعب الجمهوري (CHP)، وإنما كانت من أكبر الداعمين للأحزاب اليمينية، وتحديداً الحزب الديمقراطي (DP).
ففي عام 1950 استطاعت تركيا التي بدأت حياة سياسية متعددة الأحزاب حديثاً، إجراء أول انتخابات عامة متعددة الأحزاب في ظل ظروف حرة ونزيهة.
في أول انتخابات عامة حرة أجريت ذلك العام، كان المتنافسون على مقعد الرئاسة هما، جلال بايار ممثل الحزب الديمقراطي، وعصمت إينونو ممثل حزب الشعب الجمهوري.
لم يقف شعب إزمير إلى جانب الحزب الجمهوري كما هو الآن، وإنما وقفوا إلى جانب الحزب الديمقراطي من خلال دعمه بنسبة عالية بلغت 56.7%، أعطت أكبر دعم للحزب الديمقراطي في طريقه إلى السلطة.
واستمر هذا الاتجاه لدى سكان إزمير في انتخابات 1954 و1957، من خلال دعم الحزب الديمقراطي بأصوات عالية.
كما واصلت إزمير دعم أحزاب يمين الوسط في الفترة التي تلت انقلاب 27 مايو/أيار 1960.
وفي الانتخابات البرلمانية التركية 1961، صوتت إزمير بنسبة 60% لصالح الأحزاب اليمينية، 55% من تلك الأصوات كانت لصالح حزب العدالة، مقابل 39% فقط لصالح الحزب الجمهوري وفقاً لما ذكرته صحيفة "يني شفق" التركية.
وبالتالي نجد أنّه في السنوات العشرين الأولى من انتقال تركيا إلى حياة سياسية متعددة الأحزاب، دعم سكان إزمير أحزاب يمين الوسط دون استثناء في أي انتخابات عامة، ولم يمنحوا حزب الشعب الجمهوري أو أي حزب سياسي عرّف نفسه أنه على اليسار، فرصة للفوز في الانتخابات في إزمير.
انتخابات 1973 كانت نقطة تحول في تاريخ الحزب الجمهوري في إزمير!
مع انتخاب بولنت أجاويد كرئيس في عام 1971، بدأ حزب الشعب الجمهوري بالتعريف عن نفسه بأنه "يسار وسط"، الأمر الذي مكَّنه من الفوز بأصوات مدينة إزمير لأول مرة في تاريخه في عام 1973 عندما حصل على 44% من أصوات سكان إزمير، مقابل 39.3% لصالح حزب العدالة اليميني.
ومن هنا بدأت شعبية حزب الشعب الجمهوري بالازدياد في المدينة الساحلية، فحصلوا على نسبة 52.6% من الأصوات في انتخابات 1977، مقابل 39.7 لحزب العدالة.
وفي الانتخابات العامة عام 1983، شارك الجمهوري في الانتخابات من خلال تمثيل اليسار، وحصل على ما يقرب من 37% من الأصوات في إزمير.
عودة إزمير إلى جانب الأحزاب اليمينية مجدداً
التاريخ يقول إنّ أزمير لا تقف دائماً إلى جانب صفّ واحد، فالمدينة التي وقفت إلى جانب اليمينيين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وقفت إلى جانب اليساريين في السبعينيات، ولكنها عادت في أواخر الثمانينيات للوقوف إلى جانب اليمينيين، وهنا نتحدث عن انتخابات 1987 و1991.
في انتخابات 1987 استطاع حزب الوطن الأم اليميني حصد أصوات 35.8% من أصوات سكان إزمير، مقابل 35.6% صوتوا لصالح الحزب الشعبوي الديمقراطي الاجتماعي اليساري.
وفي انتخابات 1991، صوت الإزميريون لصالح حزب الطريق القويم اليميني بنسبة 27.6% و25.6% لحزب الوطن الأم اليميني أيضاً، مقابل 24.5 لصالح الحزب الشعبوي الديمقراطي الاجتماعي اليساري.
السيطرة المطلقة لليساريين على إزمير بدأت في 1995
ولكن في انتخابات 1995 و1999 عاد الحزب الديمقراطي الاشتراكي للفوز بأصوات مدينة إزمير، وتلاه حزب الشعب الجمهوري بالفوز في انتخابات 2002 و2007 و2011، و2015 و2018.
وبالتالي ما إذا ألقينا نظرة على البيانات التي ذكرناها أعلاه، سنجد أنّه من أصل 18 انتخابات عامة أجريت منذ عام 1950، فازت أحزاب اليمين الوسط بـ8 منها في إزمير، مقابل فوز أحزاب اليسار الوسط بـ10 انتخابات.
مصطلح "إزمير قلعة الحزب الجمهوري".. صحيح أم خاطئ؟
وبالعودة إلى هذه المعطيات، وبالنظر إلى أن أحزاب اليسار قد فازت في إزمير بالانتخابات الـ7 الأخيرة من 1995 حتى 2018، فهل يمكننا القول إنّ المدينة هي معقل أحزاب اليسار أو كما يقول البعض "قلعة الحزب الجمهوري"؟.
عندما ننظر إلى عادات الانتخابات وتفضيلات الأحزاب السياسية في إزمير، فإن الحقيقة الأولى التي يجب ملاحظتها هي أن إزمير ليس لديها توجه سياسي حاد، ودائماً ما تكون نتائج الانتخابات متقاربة.
ووفقاً لما ذكره موقع TUİÇ Akademi، فإنه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، قامت أحزاب يمين الوسط بحمل "إرادة الأمة" والحريات ضد نخب الدولة والبيروقراطية المدنية العسكرية، وبالتالي كانت المفضلة لدى شعب إزمير.
وفي السبعينيات، عندما تبنى حزب الشعب الجمهوري خطاباً أكثر تفاؤلاً وتحرراً وانفتاحاً من أحزاب اليمين في ذلك الوقت، فإنّ الشعب الإزميري مال إليهم، وبالتالي فإن ما يمكن استنتاجه أن الأحزاب التي يمكن أن تنقل خطاب "المزيد من الحرية" بلغة متفائلة فازت في الانتخابات في المدينة.
تحول إزمير إلى مدينة علمانية تخشى فقدان "أسلوب حياتها"!
مع بداية الألفية الجديدة، لم يعد سكان إزمير يصوتون على أساس "الحريات"، فأسلوب حياتهم المُنفتح والمختلف تماماً عما كانوا عليه في الخمسينيات، أصبح نقطة قوة يستغلها حزب الشعب الجمهوري لجعل مخاوفهم تزداد تجاه المحافظين.
ففي الانتخابات العامة الخمسة التي أجريت منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، صوّت سكان إزمير لصالح حزب الشعب الجمهوري الذي لم يكن لديه أي برامج للمدينة، سوى حماية نمط الحياة، والحفاظ على العلمانية.
وبالتالي، وبما أنه من غير المنطقي القول إن إزمير كانت معقلاً تاريخياً للأحزاب اليمينية، فإنه من غير الواقعي أيضاً النظر إلى السبعينيات وما بعدها والقول إن المدينة كانت معقلاً لليسار.
إزمير عبر التاريخ.. أسسها الإغريق، وابن بطوطة أعطاها اسمها الحالي
تقع مدينة إزمير في المنطقة الغربية من الأناضول، وهي ثالث أكبر مدينة في تركيا، بعد إسطنبول وأنقرة من حيث الحجم والسكان.
كانت المدينة مركزاً مهماً للتجارة منذ عهد الإمبراطورية العثمانية، وهي اليوم جزء لا يتجزأ من تجارة الاستيراد والتصدير في تركيا بفضل مينائها الواقع على بحر إيجه المتصل بدوره بالبحر الأبيض المتوسط.
إزمير هي موطن لأكثر من أربعة ملايين شخص وفقاً لإحصائيات عام 2019، بينما ينمو عدد سكانها بشكل مطرد منذ أربعينيات القرن الماضي.
تعتبر مدينة إزمير واحدة من أقدم مدن العالم المتوسطي وكانت ذات أهمية تاريخية مستمرة تقريباً خلال الخمسة آلاف عام الماضية.
ويُقال إن إزمير هو اسم أطلقه عليها الرحالة "ابن بطوطة" عندما سماها "يزمير"، بعد أن كانت تعرف سابقاً باسم "سميرنا"، فيما تحول اسم "يزمير" فيما بعد إلى "إزمير".
ووفقاً لما ذكرته الموسوعة البريطانية Encyclopedia Britannica، فإنّ الحفريات تشير إلى وجود مستوطنة معاصرة لتلك التي كانت في مدينة طروادة الأولى، والتي يعود تاريخها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.
وقد تم إثبات الاستيطان اليوناني بوضوح لأول مرة من خلال وجود الفخار الذي يرجع تاريخه إلى حوالي 1000 عام قبل الميلاد.
الإيوليون
هم جماعة من الإغريق القدماء عاشت في جزء كبير من شرقي وسط اليونان قبل منتصف القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ولكن مع نهاية هذا القرن قامت جماعة إغريقية أخرى تدعى "الدوريون" بغزو أراضي " الإيوليين"؛ مما اضطر سكانها للهجرة إلى الجزر اليونانية، وتحديداً جزيرة "لسبوس" التي أصبحت مركزاً لهم.
المدينة اختفت لمدة 300 عام!
أسرة ميرناد
كانت أسرة ميرناد هي الأسرة الحاكمة لمملكة "ليديا" وهي مملكة قديمة في غرب الأناضول نشأت خلال الألفية الأولى قبل الميلاد.
وبالتالي لم تعد مدينة إزمير موجودة لحوالي 300 عام، حتى أعاد تأسيسها الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد في موقع جديد على سفوح جبل باجوس، وسرعان ما عادت المدينة إلى سابق عهدها كواحدة من المدن الرئيسية في آسيا الصغرى.
وأصبحت المدينة فيما بعد مركزاً لأبرشية مدنية في مقاطعة آسيا الرومانية، تتنافس مع المدن الإغريقية الشهيرة الأخرى، أفسس (في تركيا حالياً) وبرغامومو (في إيطاليا حالياً)، للحصول على لقب "أول مدينة في آسيا".
فيما بعد تنقلت المدينة تحت حكم العديد من الإمبراطوريات، لتقع في القرن الحادي عشر لحكم السلاجقة، ومن ثم تحت حكم البيزنطيين، قبل أن تسيطر عليها "إمارة آيدين" التركمانية، في عام 1320، لجعلها قاعدة للإغارة على جزر أرخبيل إيجه والسفن الإفرنجية التي تمر من هناك.
وفي عام 1344، توحدت قوات الفرنجة البحرية تحت رعاية البابا "كليمنت السادس"، واستطاعت احتلال المدينة ووضعها تحت حماية "فرسان جزيرة رودس".
وبقيت المدينة تحت سيطرتهم حتى جاء الزعيم المغولي "تيمورلنك" وسيطر عليها في 1403.
وفي عام 1425، ضُمّت المدينة إلى الإمبراطورية العثمانية وقد شهدت خلال حكمها ازدهاراً كبيراً جعل منها مركزاً مهماً للتجارة.
احتلال اليونان لمدينة إزمير ومن ثم إجراء التبادل السكاني
معاهدة سيفر
معاهدة سيفر 10 أغسطس/آب 1920 هي واحدة من سلسلة معاهدات وقعتها دول المركز عقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وقد كانت مصادقة الدولة العثمانية عليها هي المسمار الأخير في نعش تفككها وانهيارها بسبب خسارة قوى المركز في الحرب العالمية الأولى.
وتضمنت تلك المعاهدة التخلي عن جميع الأراضي العثمانية التي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية، إضافة إلى استيلاء الحلفاء على أراض تركية، فقُسِّمت بلدان الشرق الأوسط؛ حيث أخضعت فلسطين للانتداب البريطاني ولبنان وسوريا للانتداب الفرنسي.
ولكن في عام 1921، قام مصطفى كمال باستعادة إزمير من اليونانيين، وتمت المصادقة في العام الذي تلاه على السيادة التركية على المدينة بعد التوقيع على اتفاقية تبادل السكان بين تركيا واليونان، بحيث نُقل جميع مسيحيي إزمير وما حولها إلى اليونان، مُقابل نقل المسلمين في الجزر اليونانية إلى تركيا، وبالتالي لم يتبقى أي يوناني في مدينة إزمير.
قد يهمك أيضاً: جمع ما بين الأحزاب الإسلامية والقومية واليسارية والكردية في تكتل حزبي واحد! تحالف "الجمهور" تأسيسه وأبرز أحزابه