إذا ألقيت نظرةً على خريطة العالم، ستلاحظ أن بريطانيا مجرد جزيرة صغيرة مقارنة بجاراتها الأقرب فرنسا وألمانيا، حتَّى إن مساحتها أصغر من مساحة إسبانيا بشكلٍ ملحوظ، فكيف استطاعت هذه الجزيرة المعزولة احتلال ربع الكوكب وبسط سيطرتها على 23% من سكان العالم، والحصول على لقب "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"؟ وبعد وصولها إلى قمة مجدها لماذا انهارت وفقدت مستعمراتها حول العالم واحدةً تلو الأخرى؟
الاستعمار.. كلمة السر
برزت بريطانيا قوةً عالميةً هائلة حكمت 25% من اليابسة في كوكب الأرض في أوج ذروتها في القرن الثامن عشر، لكنها لم تكن كذلك دائماً، فقبل القرن السادس عشر فقط لم تكن بريطانيا تعتبر دولةً واسعة المساحة والنفوذ.
كلمة السر في هذا التغير الكبير هي: "الاستعمار".
ابتداءً من القرن السادس عشر راحت بريطانيا تبسط نفوذها على دولٍ أخرى في مختلف أنحاء العالم، ناهبةً ثروات تلك البلاد ومستعينةً بالطاقات البشرية الموجودة فيها، للحصول على المزيد من القوة والنفوذ في العالم.
لكن لماذا استطاعت بريطانيا فعل ذلك دوناً عن أيِّ دولةٍ أوروبيةٍ أخرى قوية في ذلك الوقت؟
يعود ذلك بشكلٍ أساسيٍّ إلى الأسطول البحري الهائل الذي امتلكته بريطانيا، فقد استطاع الإنجليز السيطرة تماماً على "بحار العالم"، وبالتالي السيطرة على المنافذ التجارية حول العالم وبالتالي تضاعفت ثروات ونفوذ بريطانيا. وقد كانت الثورة الصناعية أيضاً عاملاً مهماً في رفع مستوى الأسطول البحري من جهة وتعزيز الحركة التجارية من جهة أخرى.
الثورة الصناعية التي غيرت وجه بريطانيا والعالم
إذاً تكاتفت العديد من العوامل لتُحَدِّد ملامح جديدة للدولة الصغيرة التي استطاعت أن تتحول في وقتٍ قياسيّ إلى قوةٍ عالميةٍ لا تُقهر، والبداية كانت مع الثورة الصناعية، فقد كانت بريطانيا أول دولة صناعية في العالم، وتمثَّلت الطفرة التصنيعية الأولية في البلاد في إنتاج المنتجات القطنية والتجارة بها، فبحلول عام 1830، شكَّل القطن الخام خُمس واردات بريطانيا الصافية، وشكَّلت السِّلَع القطنية نصف قيمة صادراتها.
بعد ذلك، أصبحت بريطانيا رائدةً أيضاً في تصنيع وتجارة الحديد والصلب، وقد حفَّزَت هذه الصناعة هوس السكك الحديدية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر.
سرعان ما انتشر هوس السكك الحديدية إلى العديد من الدول، لكن وحتى خارج الحدود البريطانية تمكنت بريطانيا من احتكار عمليات بناء السكك الحديدية حول العالم بما أنها الأولى عالمياً في تصنيع الحديد والصلب، وبما أنها كانت أيضاً صاحبة خبرة متقدمة في هذا المجال.
وبحلول عام 1860، كانت بريطانيا تنتج نصف الحديد والصلب في العالم وتولِّد 40% من تجارة المنتجات الصناعية العالمية.
ومن الجدير بالذكر أن التطور الصناعي في بريطانيا بدأ في عهد هنري السابع (1485-1509) ووصل ذروته في عهد إليزابيث الأولى (1558- 1603)، وخلال القرون الفاصلة بين العهدين سنّت بريطانيا العديد من التشريعات التي تضمن تفوُّق الصناعات المحلية، مثل "مبدأ الحماية" الذي يقتضي بتوفير الظروف والأدوات اللازمة لضمان تفوق هذه الصناعات، وتخصيص جزء من موارد الحكومة للإنفاق على الصناعة المحلية، والدعاية اللازمة لتسويقها، فضلاً عن استقدام أحدث الآلات، والأيدي العاملة المدربة، من الدول المتفوِّقة في هذا المجال، وهو أمرٌ كان يعرف باسم "التجسس الصناعي" لأنه يتم بالطرق الرسمية أحياناً، وبالسرقة أحياناً كثيرة أخرى.