استجاب الفاتيكان يوم الخميس 30 مارس/آذار 2023، لمطالب السكان الأصليين في الأمريكتين، ورفض رسمياً "عقيدة الاستكشاف"، وهي المراسيم البابوية التي انتشرت في القرن الخامس عشر والتي شرعت الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين واستعبادهم في الحقبة الاستعمارية.
ويشير هذا الموقف إلى الحملات الرهيبة التي قامت بها الكنيسة الكاثوليكية لفرض التحول إلى المسيحية بعد وصول الأوروبيين إلى أمريكا، وتحديداً بعد حملة كريستوفر كولومبوس عام 1492.
ووفقاً لما نقلته وكالة أسوشييتد برس الأمريكية، فقد نشرت الفاتيكان وثيقة قالت فيها: "هي وثائق سياسية تم استغلالها لأعمال غير أخلاقية، ولا تعكس بشكل كاف، المساواة في الكرامة والحقوق للسكان الأصليين، ولن يتم اعتبارها أبداً تعبيرات عن العقيدة الكاثوليكية".
وبالتالي يمثل البيان الصادر عن مكاتب التطوير والتعليم في الفاتيكان، اعترافاً تاريخياً بتواطؤ الفاتيكان في انتهاكات الحقبة الاستعمارية التي ارتكبتها القوى الأوروبية، وذلك بعد عام واحد بالضبط من لقاء بابا الفاتيكان مع قادة السكان الأصليين من كندا الذين أثاروا هذه القضية.
فما أبرز تلك التجاوزات، وما المناطق التي حدثت فيها في الأمريكتين؟
عقيدة الاستكشاف وعلاقتها بالكنيسة الكاثوليكية
بذلت الكنيسة الكاثوليكية خلال "عقيدة الاكتشاف" جهداً كبيراً لنشر المسيحية في العالم الجديد، وتحويل الأمريكيين الأصليين وغيرهم من السكان الأصليين للمسيحية.
كان الجهد التبشيري جزءاً رئيسياً وتبريراً جزئياً للجهود الاستعمارية للقوى الأوروبية مثل إسبانيا وفرنسا والبرتغال.
وعملت الإرساليات المسيحية للشعوب الأصلية جنباً إلى جنب مع الجهود الاستعمارية للأمم الكاثوليكية.
وبعد اكتشاف العالم الجديد، بدأ عدد قليل من رجال الدين في انتقاد إسبانيا ومعاملة الكنيسة للشعوب الأصلية.
في ديسمبر/كانون الأول 1511، قام الراهب الإسباني أنطونيو دي مونتيسينوس بتوبيخ الحكام الإسبان لهيسبانيولا على "قسوتهم واستبدادهم" في تعاملهم مع المواطنين الأمريكيين الأصليين.
هذا التوبيخ دفع ملك إسبانيا فرديناند إلى سن قوانين لتحسين معاملة الهنود، ومع ذلك لم يأخذها أحد بعين الاعتبار، وألقى بعض المؤرخين باللوم على الكنيسة لعدم قيامها بما يكفي لتحرير الهنود؛ باعتبارها الصوت الوحيد الذي يُرفع نيابة عن الشعوب الأصلية.
حملة كريستوفر كولومبوس على الأمريكتين والتجاوزات التي ارتكبها
دعونا نبدأ من تاريخ 12 أكتوبر/تشرين الأول 1492، عندما وصل المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبوس على متن سفينته "سانتا ماريا" إلى ما يعرف الآن بجزر الباهاما.
هبط كولومبوس وسفنه على جزيرة أطلق عليها سكان لوسيان الأصليون "جواناهاني"، ليعيد كولومبوس تسميتها بـ"سان سلفادور".
في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أراد الأوروبيون إيجاد طرق بحرية إلى الشرق الأقصى، لذلك أرسلوا كولومبوس من أجل إيجاد طريق جديد إلى الهند والصين واليابان.
في حين تقول صحيفة Live Mint الهندية إن كولومبوس كان سارقاً جشعاً وقاتلاً جماعياً، وكان الهدف الأساسي من رحلته هو العثور على الذهب، حتى إن التاج الإسباني وافق على أنه يمكنه الاحتفاظ بنسبة 10% من الذهب الذي ينقله إلى إسبانيا، وكان على استعداد لتعذيب وقتل أي عدد من "الناس" لتحقيق هدفه.
عرف كولومبوس أن العالم كان دائرياً وأدرك أنه من خلال الإبحار غرباً، بدلاً من الشرق، حول ساحل إفريقيا- كما كان يفعل المستكشفون الآخرون في ذلك الوقت- سيصل إلى وجهته.
بعد الإبحار عبر المحيط الأطلسي لمدة 10 أسابيع، شاهد بحار يدعى رودريغو بيرناجو اليابسة (على الرغم من أن كولومبوس نفسه أخذ الفضل في ذلك).
هبط كولومبوس على جزيرة صغيرة في جزر الباهاما أطلق عليها اسم سان سلفادور، وطالب بالجزيرة لملك وملكة إسبانيا، على الرغم من أنها كانت مأهولة بالسكان.
أطلق كولومبوس على جميع الأشخاص الذين التقاهم في الجزر اسم "هنود"، لأنه كان متأكداً من وصوله إلى جزر الهند، ليفتح هذا اللقاء الأولي "العالم الجديد" أمام الاستعمار الأوروبي، الذي سيكون له تأثير مدمر على السكان الأصليين، وفقاً لما ذكره موقع Royal Museums Greenwich البريطاني.
إبادة جميع سكان جزر الباهاما
لم يعرف شعب لوسيان وهم سكان الباهاما الأصليون، أنّ وصول كولومبوس إليهم يعني أنه خلال 25 عاماً ستكون جزيرتهم فارغة بسبب الإبادة الجماعية، لذلك عندما وصل المستكشف الإيطالي استقبلوه بحرارة، وقدموا له الطعام والماء.
ووفقاً لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، فقد كتب كريستوفر كولومبوس في مذكراته عن سكان الباهاما: "سألونا عما إذا كنا قد أتينا من السماء، لقد تبادلوا عن طيب خاطرٍ كل ما يملكونه، لا يعرفون معنى الأسلحة، ومع 50 رجلاً يمكن إخضاع جميع سكان الجزيرة وإجبارهم على ما هو مطلوب منهم".
مكث كولومبوس وطاقمه فترة كافية لخطف عدد قليل من السكان، قبل الإبحار بعيداً لاستكشاف جزر أخرى مليئة بالسكان الأصليين.
وبعد 25 عاماً فقط من هبوطه الأصلي، تم القضاء على جميع سكان لوسيان تماماً، بسبب المرض والتداعيات القاسية والواسعة النطاق للعبودية التي اتبعها كولومبوس مع السكان، وفقاً لما ذكره موقع World Expeditions.
إبادة نسبة كبيرة من سكان التاينو بسبب الأمراض والاستعباد
في "هيسبانيولا" أو ما يعرف الآن باسم هايتي وجمهورية الدومينيكان، التقى كولومبوس أبناء عم شعب "لوسيان" وهم شعب "التاينو".
ويختلف المؤرخون حول عدد أفراد التاينو الذين عاشوا في هيسبانيولا في ذلك الوقت، مع تقديرات تتراوح بين 60 ألفاً و8 ملايين، ادعت إحدى الروايات المعاصرة لتلك الفترة للراهب الإسباني بارتولومي دي لاس كاساس، أنه كان هناك 3 ملايين.
هناك بنى كولومبوس حصناً، وأمر بأخذ كل هندي يزيد عمره على 14 عاماً، للعمل في البحث عن الذهب للإسبان، وفي حال لم يستطع هذا الشخص العثور على الذهب كان يقتل على الفور، فيما سُمح لمن يعيشون في مناطق ليس بها كثير من الذهب بإعطاء القطن بدلاً من ذلك، كما بدأ كولومبوس بخطف بعض السكان الأصليين ونقلهم إلى إسبانيا للعمل كعبيد.
ووفقاً لما قاله المؤرخ الأمريكي هوارد زين في كتابه "تاريخ الشعب في الولايات المتحدة"، فإن كثيراً من السكان الأصليين كانوا يموتون بمجرد وصولهم إلى إسبانيا، لأنهم لم يكونوا معتادين على برودة الطقس.
ووفقاً لما ذكرته شبكة CNN الأمريكية، فإن سكان تانيو لم يكونوا أيضاً محصنين ضد أمراض مثل الجدري والحصبة والإنفلونزا، والتي جلبها كولومبوس ورجاله إلى جزيرتهم هيسبانيولا.
ووفقاً للشبكة ذاتها، فإنه في عام 1492، كان هناك ما يقدر بنحو 250 ألفاً من السكان الأصليين في هيسبانيولا، ولكن بحلول عام 1517، بقي 14 ألفاً فقط، وفقاً لمؤسسة أوكلاهوما للأبحاث الطبية.
ويعتقد بعض المؤرخين أن تأثير المستوطنين الأوروبيين في العالم الجديد ربما قتل ما يصل إلى 90% من السكان الأصليين، وكان أكثر فتكاً من الموت الأسود الذي حدث بأوروبا في العصور الوسطى.
بدورهم حاول السكان الأصليون في هايتي والدومينيكان بناء مقاومة مسلحة ضد الإسبان، لكن تم سحقها بسهولة، إذ كان لدى الأوروبيين دروع وبنادق وخيول، بينما كان لدى السكان الأصليين سيوف مصنوعة من قصب السكر فقط.
وهنا لم يبقَ أمام السكان الأصليين التاينو سوى الانتحار بدلاً من أن ينساقوا كعبيد أو أن يعذبوا حتى الموت، وبالتالي بدأ الانتحار الجماعي حتى إنهم قاموا بقتل أطفالهم؛ حتى لا يأخذهم الإسبان.
وفي غضون عامين، مات نصف الهنود في هايتي من خلال القتل أو التشويه أو الانتحار، وفي غضون قرن ونصف القرن، لم يبقَ أي أحد منهم أو من أحفادهم في الجزيرة.
وعند عودة كولومبوس إلى مدريد، رسم صورة مبالغاً فيها للغاية لما رآه، وطلب من أفراد العائلة المالكة تمويل رحلة استكشافية أخرى.
نجحت خدعته، وانطلق مرة أخرى- هذه المرة مع 17 سفينة وأكثر من 1200 رجل، وكانت مهمته الآن ذات شقين- ليس فقط سرقة الذهب، ولكن أيضاً بالعودة بأكبر عدد ممكن من العبيد.
بيع الفتيات الصغيرات للعبودية الجنسية
ووفقاً لما ذكره موقع Vox الأمريكي، فقد قام المستوطنون تحت حكم كولومبوس ببيع فتيات يبلغن من العمر 9 و10 سنوات للعبودية الجنسية.
وقد اعترف كريستوفر كولومبس بذلك بنفسه من خلال رسالة أرسلها إلى صديقة الملكة الإسبانية، وقال فيها: "هناك كثير من التجار الذين يبحثون عن الفتيات؛ أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 9 و10 سنوات مطلوبون الآن، ولكل الأعمار يجب دفع ثمن جيد ط".
سرقة أطفال السكان الأصليين بكندا حتى في زمن ما بعد كريستوفر كولومبوس
لم تكن التجاوزات فيما يسمى "عقيدة الاستكشاف" مقتصرة على زمن كريستوفر كولومبوس وحسب، بل امتدت حتى وقت طويل بعد وفاته.
فمن ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى التسعينيات، أخذت الحكومة الكندية قسراً ما لا يقل عن 150 ألف طفل من السكان الأصليين من منازلهم وأرسلتهم إلى مدارس داخلية مصممة لفصلهم عن ثقافتهم واستيعابهم في الطرق الغربية، في نظام أطلقت عليه اللجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة في عام 2008 اسم "الإبادة الجماعية الثقافية".
وفي هذه المدارس، التي كانت تديرها الكنيسة الكاثوليكية في الغالب، كان العنف الجنسي والجسدي والعاطفي أمراً شائعاً، مما تسبب في فقدان آلاف الأطفال.
وفي عام 2021 قالت منظمة First Nations in Canada في مقاطعة ساسكاتشوان غرب كندا، إنها عثرت على رفات ما يصل إلى 751 طفلاً، معظمهم من المحتمل أن يكونوا من أطفال مدرسة ماريفال الهندية السكنية، على بعد نحو 87 ميلاً من العاصمة الإقليمية ريجينا.
ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز تقدر لجنة المصالحة الكندية أن نحو 4100 طفل قد اختفوا من المدارس في جميع أنحاء البلاد، لكن القاضي السابق من السكان الأصليين الذي ترأس اللجنة "موراي سينكلير"، قال إن العدد يتجاوز 10 آلاف طفل بكثير".
وخلال زيارة البابا فرنسيس لكندا في يوليو/تموز 2022، طلبت منه جمعيات للسكان الأصليين إلغاء "المراسيم" البابوية، وهي وثائق رسمية موقعة من قبل البابا صدرت باسم "عقيدة الاستكشاف"، وسمحت للقوى الأوروبية باستعمار الأراضي والشعوب غير المسيحية.