يُعتبر مسجد ابن طولون أحد أبرز المساجد الأثرية في العاصمة المصرية القاهرة، ومثالاً نادراً ساهم في تطوير العديد من سمات العمارة الخاصة بالأوروبيين، إذ شكلت عناصر مثل القوس المدبب وأسوار الجدران، المكونات الأساسية لميلاد العمارة القوطية التي قادرت أوروبا فيما بعد إلى عصر النهضة.
ويعتبر مسجد ابن طولون، الذي بُني في عام 879، ثاني أقدم مسجد لا يزال قائماً حتى الآن في القاهرة، بعد مسجد عمرو بن العاص، الذي بُني في الفسطاط عام 642، وقد سُمي على اسم الأمير أحمد بن طولون، وهو أمير مصر بين عامي 868 و 883.
ويقع المسجد حالياً في ميدان أحمد بن طولون بحي السيدة زينب، التابع للمنطقة الجنوبية بالقاهرة، ويجاور سوره الغربي مسجد صرغتمش الناصري، فيما يجاور سوره الشرقي متحف جاير أندرسون.
قصة بناء مسجد ابن طولون في القاهرة
الفسطاط
الفسطاط، هي أول عاصمة لمصر تحت الحكم الإسلامي، بناها القائد المسلم عمرو بن العاص مباشرة بعد الفتح الإسلامي لمصر عام 641، وكانت تضم جامع عمرو، وهو أول مسجد بني في مصر.
بلغت المدينة ذروتها في القرن الثاني عشر، حيث بلغ عدد سكانها حوالي 200 ألف نسمة، وكانت مركز السلطة الإدارية في مصر.
وتعد الفسطاط اليوم جزءاً من القاهرة القديمة، مع وجود القليل من المباني المتبقية من أيامها كعاصمة.
وأختار أحمد بن طولون لمدينته المنطقة الممتدة ما بين جبل يشكر وسفح جبل المقطم؛ حيث حرص على أن تقوم المدينة الجديدة على مرتفع من الأرض؛ لتبرز على سائر المجموع العمراني المحيط بها.
بُنى في وسط المدينة مجمع قصور ومضمار سباق ومسجد كبير عُرف باسمه، وبحسب النقش الموجود في المسجد، فقد اكتمل بناء مسجد ابن طولون في مايو/أيار 879.
مهندس مسيحي صمّم بناء مسجد ابن طولون، أم مهندس من سامراء؟
تقي الدين المقريزي
أبو العباس تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد المقريزي، مؤرخ مسلم ولد وتوفي في القاهرة، بينما يعود أصله إلى مدينة بعلبك في لبنان.
رواية ثانية، تقول إنّ سبب بناء المسجد أن الأمير أحمد بن طولون كان يصلّى الجمعة في المسجد القديم الملاصق للشرطة، فلما ضاق عليه بنى الجامع الجديد، مما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون.
ووفقاً لمصادر محلية، فإنّ مهندس المسجد كان مسيحياً يُدعى "سعيد بن كاتب الفرغاني"، وكان قد سبق أن بنى عين ماء للأمير ابن طولون، ولكنه عندما أتمها، وجاء الأمير لرؤيتها غاصت قدم فرسه في جير لم يكن قد جفّ في موضع البناء، فظن ابن طولون أنّ المهندس المسيحي أراد به سوءاً، فأمر بسجنه.
وعندما أراد أحمد بن طولون بناء الجامع قدّر المهندسون أنه بحاجة إلى 300 عمود لإتمامه، وعُرض عليه أن يتم أخذ تلك الأعمدة من الكنائس الموجودة في الأرياف، لكنه رفض ذلك.
بلغ المهندس المسيحي الموضوع في السجن الأمر، فأرسل إلى الأمير رسالة قال له فيها: "أنا أبنيه لك كما تحب وتختار، وبدون أعمدة سوى عمودي القبلة".
فقبل الأمير ابن طولون، وأمر بإرسال الجلود له داخل السجن ليرسمه، وعندما رآه أُعجب به وأمر بإخراجه من السجن ليبدأ بناءه مقابل العفو عنه.
ويُقال إنّ المهندس المسيحي عندما أتمّ بناء المسجد، صعد إلى المنارة منادياً بالأمير ابن طولون طالباً منه ما وعده به وهو "العفو"، ليعفو عنه الأمير ويعطيه مكافأة قُدرت بنحو 10 آلاف دينار.
في حين تدعي روايات أخرى أنّ مهندساً من سامراء يُدعى "أحمد بن محمد الحاسب" هو من صمّم المسجد، والدليل على ذلك هو التشابه الكبير بين تصميم مسجد ابن طولون بمسجد سامراء الكبير "المتوكل".
ويمكن ملاحظة ذلك في السمات المشتركة العديدة للمسجدين:
أولاً: استخدام الأعمدة المصنوعة من الآجر بدلاً من الأعمدة لحمل الأقواس والسقف.
ثانياً: استخدام نفس مواد البناء مثل الطوب والجص.
ثالثاً: الشكل الحلزوني للمئذنة، وموقعها خارج محيط المسجد، إذ لا يمكن لمهندس معماري مصري مسيحي أن يستخدم هذه الميزات بشكل مستقل عن سامراء.
ويُقال إنّ "ابن طولون" عندما أمر ببناء المسجد طلب أن يكون بناءً يقاوم النار إذا أكل مصر كلها، وأن يكون سداً في وجه الطوفان إذا غمر مصر كلها، ولذلك قيل له أن يبني المسجد بالجبس والرماد والطوب الأحمر، وألا ينصب أعمدة من الرخام؛ لأنها لا تصمد أمام النار، ولذلك أخذ بتلك النصائح، وجعل مئذنة المسجد نسخة من مئذنة مسجد سامراء.
التغييرات والتعديلات التي جرت على مسجد ابن طولون
منذ بنائه وحتى يومنا هذا، تم الاحتفاظ بالمسجد في حالته الأصلية، وكانت معظم الأعمال التي تم تنفيذها تهدف بشكل أساسي إلى إصلاح الأضرار الناجمة عن الحرائق أو التعفن الطبيعي، وتشير المصادر التاريخية إلى أن المسجد شهد التغييرات التالية:
1- في عام 980 شب حريق في النافورة التي كانت في وسط المسجد، ولكن لم يتم بناء بديل لها.
2- في عام 1077، وبحسب نقش، قام المستنصر بالله بترميم إحدى البوابات.
3- أُضيفت 4 محاريب من الجبس إلى المسجد، أولها كانت عام 1094، اثنان ينتميان إلى السلالة الفاطمية، والرابع شيد في القرن الثالث عشر.
4- في عام 1296، قام السلطان المملوكي المنصور حسام الدين لاجين بترميم المسجد وبلاط أرضيته.
شكل مسجد ابن طولون
يبلغ طول الجامع مربع الشكل 162 متراً، مما يجعله من أكبر مساجد القاهرة، فيما يتكون من 3 أقسام رئيسية:
1- قاعة الصلاة: عبارة عن مستطيل من 6 أروقة متوازية مع جدار القبلة، تنقسم هذه الممرات إلى 5 أقواس مدببة، يحمل كل منها 16 دعامة من الآجر ومغطاة بالجبس، في وسط جدار القبلة يوجد المحراب الرئيسي، وهو محراب من عقد مدبب يحيط به من الجانبين عمودان متصلان، وتظهر 4 محاريب أصغر أُضيفت لاحقاً على جانبي المحراب الرئيسي، اثنان على كل جانب.
2- صحن مربع: يمتد إلى الجنوب من قاعة الصلاة، يحيط به أروقة مغطاة يتكون كل منها من ممرين من الأقواس المدببة المرتفعة على دعامات قوية، ويطل على مركزها المفتوح؛ حيث توجد نافورة وحوض للوضوء.
3- امتدادات جانبية: أما القسم الثالث فيتكون من امتدادات 11 متراً على طول الجوانب الشمالية والشرقية والغربية للمسجد، هذه الامتدادات المفتوحة التي تحيط بالمسجد من 3 جهات تعمل كحاجز بين صخب الشوارع والفضاء الديني بداخله.
يتم الدخول إلى المسجد من خلال عدد إجمالي يبلغ 42 باباً، نصفها يعود للمسجد الأصلي، بينما بنيت المئذنة بشكلها اللولبي الشهير على شكل جامع الملوية في سامراء.
في حين توجد أعمال زخرفية داخلية بشكل أساسي في إطارات وتيجان الأعمدة والأقواس والنوافذ في شكل شريط يتكون من سلسلة من الخطوط المنحنية وبراعم الزهور والأشكال الماسية.
على قوس الأروقة والنوافذ، تم العثور على مزيج دقيق من الأنماط الزهرية والهندسية التي تظهر تشابهاً كبيراً مع تلك التي تم تطويرها في سامراء، وتم إرجاع هذه الأنماط إلى التأثيرات الساسانية واليونانية.
قد يهمك أيضاً: صمد أمام الحرائق والزلازل وغزو المغول.. المسجد الأموي في حلب، بناه الأمويون ودُفن داخله جزء من جسد النبي زكريا