كانت حرب الثلاثين عاماً، التي جرت بين عامَي 1618 و1648، إحدى أكثر الحروب تدميراً في التاريخ الأوروبي. وقد بدأت دينية قبل أن تتحوّل إلى سياسية بين بعض القوى العظمى، وتنتهي بنظامٍ دولي جديد وبتأثيرٍ كبير على مختلف مجالات الحياة، بما فيها المجال الفني.
لمعرفة خلفية الصراع الديني في أوروبا، علينا العودة إلى بداية القرن الـ16، عندما ظهرت حركة الإصلاح البروتستانتي التي قادها الراهب وأستاذ اللاهوت الألماني مارتن لوثر، الذي اعترض على صكوك الغفران التي تُصدرها الكنيسة الكاثوليكية.
حركة الإصلاح البروتستانتي مهّدت للصراع الكبير
في العام 1517 نشر لوثر رسالته الشهيرة، المؤلفة من 95 قضيةً يتعلق أغلبها بلاهوت التحرير وسلطة البابا في الحلّ من "العقاب الزمني للخطيئة"، ما أثار سخط البابا ليون العاشر والإمبراطور شارل الخامس اللذين طالباه بالتراجع عن مجموعة مبادئ تطرق إليها في الرسالة.
تمسّك لوثر بالرسالة وكل ما تضمنته؛ ما أدى إلى طرده من الكنيسة، واعتبار كتاباته هرطقة وخارجة عن القوانين المرعيّة في الإمبراطورية الرومانية المقدّسة. وقد تمّ ذلك في مايو/أيار 1521 عبر مرسوم صدر عن "اجتماع فورمس"، الذي منع مواطني الإمبراطورية الرومانية الدفاع عن أفكار لوثر أو نشرها.
ولكن على الرغم من وضعه تحت الإقامة الجبرية لبضعة أشهر داخل قلعة "فارتبرغ" في منطقة إيزنباخ الألمانية، ومنع المواطنين من تبني أفكاره، فإن مارتن لوثر وجد نفسه مع مرور الوقت وقد أسّس كنيسة جديدة لها أنصارها في ولايات ألمانية عدة.
سُمّيت بـ"الكنيسة اللوثرية"، وقد توسّعت فيما بعد لتشمل مختلف أنحاء ألمانيا والعالم. ويمكن القول إن حركة لوثر مهدت لظهور عدة انشقاقات داخل الكنيسة الكاثوليكية، أدت لظهور كنائس مسيحية إصلاحية جديدة، تندرج كلها ضمن ما يُعرف بـ"المذهب البروتستانتي"، و"البروتستانت" باللغة اللاتينية تعني "المحتجين".
توفي لوثر يوم 18 فبراير/شباط 1546، وقد سعى خلال حياته لنبذ العنف وإخماد الثورات الاجتماعية التي كانت تقوم من حينٍ إلى آخر داخل الولايات الألمانية التابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية.
ازدادت تلك الثورات بعد وفاته، كما ازدادت تمردات أمراء الولايات الألمانية التي تبنت الفكر اللوثري، ما أدى إلى "صلح أوغسبورغ"؛ وهي معاهدة وُقّعت في سبتمبر/أيلول 1555 بين فرديناند الأول، نيابةً عن أخيه الإمبراطور شارل الخامس، وقوات "اتحاد شمال كالدي" للأمراء اللوثريين.
وبحسب موسوعة World History، فقد أنهى "صلح أوغسبورغ" تلك الإضرابات وسمح أحد بنوده للأمراء الألمان باختيار ما إذا كان إقليمه سيتبع الكاثوليكية أو اللوثرية. وكانت اللوثرية هي الطائفة البروتستانتية الوحيدة المعترف بها في ذلك الوقت.
ورث فرديناند الأول رسمياً عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة في العام 1558، بعد وفاة أخيه شارل الخامس، ثم توفي هو أيضاً سنة 1564. فخلفه ماكسيمليان الثاني، ثم رودولف الثاني، وماتياس في 1612.
كان ماثياس من دون وريثٍ شرعي، وقد شهدت السنوات الأخيرة من حياته صراعاً كبيراً بين آل هابسبورغ، الطبقة الحاكمة للإمبراطورية الرومانية المقدسة وللإمبراطورية الإسبانية، حول الوريث المناسب له.
وبهدف التمهيد لتلك الوراثة، تم الاتفاق على تعيين فرديناند الثاني ملكاً لمملكة بوهيميا (تشيكيا حالياً)، التي كانت تابعة للإمبراطورية الرومانية، كما تم تعيينه أيضاً الوريث الأول للإمبراطور ماثياس.
ثورة بوهيميا كانت الشرارة الأولى لحرب الـ30 عاماً
اتبع سكان بوهيميا البروتستانتية، فيما كان فرديناند الثاني كاثوليكياً مُتشدداً، فعارضوا تعيينه ملكاً عليهم، وكانوا يفضلون البروتستانتي فريديريك الخامس، ناخب "بالاتينات" ولاية الراين الألمانية.
تحدى فرديناند الثاني رغبة سكان بوهيميا، بأن أرسل اثنين من مستشاريه الكاثوليك إلى قصر براغ في عاصمة بوهيميا بهدف تسيير المملكة في غيابه.
غضب مواطنو بوهيميا البروتستانت من تلك الحركة، فتوجهت مجموعة من نبلاء المملكة -بقيادة الكونت ثورن- إلى القصر في مايو/أيار 1618، للتفاوض مع ممثلي الملك. وانتهى الجدال بأن رموا بالمستشارين الاثنين والسكرتير الملكي من النافدة، التي ترتفع 17 متراً عن الأرض، فانطلقت يومها ثورة بوهيميا ومعها حرب الـ30 عاماً الدينية بين كاثوليك وبروتستانت أوروبا.
تسلم الكونت ثورن حكم بوهيميا وشجع الأمراء البروتستانت للنمسا وسيليزيا (محافظة بجنوب بولندا حالياً) على القيام بالخطوة نفسها، فيما تكفل فريديريك الخامس بتوظيف المرتزق الجنرال الكونت إرنست فون مانسفيلد لقيادة الجيش الذي يساند الكونت ثورن.
تعرض مانسفيلد لهزائم في معارك عدة، لكن ذلك لم يمنع نبلاء بوهيميا من تنصيب فريدريك الخامس ملكاً في نوفمبر/تشرين الثاني 1619، بمدينة براغ.
لم يبقَ فريديريك الخامس على العرش سوى سنة وأربعة أيام فقط، بعدما انهزمت قواته -يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1620- في معركة "الجبل الأبيض" بالقرب من براغ أمام جيش الإمبراطور فرديناند الثاني، الذي كان قد تسلم رسمياً عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة يوم 28 آب/أغسطس 1619.
اضطرت مختلف مقاطعات بوهيميا للاعتراف بفرديناند الثاني ملكاً على البلاد، واتخذ الإمبراطور قراراً بتجريد فريدريك الخامس من ألقابه وممتلكاته. فعاش بقية حياته هارباً ومنفياً بمناطق أوروبية مختلفة، حتى وفاته عام 1632 بمدنية ماينز الألمانية.
وقصد تأكيد قمعه لثورة بوهيميا بشكلٍ نهائيٍ، أعدم فرديناند الثاني 27 من قادة المتمردين الرئيسيين ببراغ في يونيو/حزيران 1621.
الدنمارك والسويد زادتا من حدة الحرب
تحولت ثورة بوهيميا إلى صراعٍ أوروبي ذي طابع ديني بعدما دخلت الدنمارك البروتستانتية حرب الثلاثين عاماً سنة 1625.
وإضافةً إلى الأسباب الدينية والتجارية، فقد دخل ملك الدنمارك كريستيان الرابع الحرب؛ لأن ملك السويد غوستاف الثاني أدولف كان على وشك الدخول في حرب الثلاثين عاماً كبطلٍ بروتستانتي، وهو الشرف الذي كان كريستيان الخامس يريده لنفسه.
ولكن كريستيان الرابع لم يتمكن من ترجيح موازين القوى لصالحه عندما واجه القوات الإمبراطورية الرومانية المقدسة، بقيادة المرتزق الكاثوليكي التشيكي ألبرت فون والينشتاين. فوافق على إنهاء القتال وانسحاب قواته وجيش المرتزقة الأسكتلنديين من بوهيميا، بعدما وقّع على معاهدة السلام "ليباك" مع فرديناند الثاني في يونيو/حزيران 1629.
انسحاب ملك الدنمارك من الحرب لم يعنِ نهايتها، بل إنه فسح المجال أمام ملك السويد لدخولها، بعدما وجد الأخير أن الوقت بات مناسباً لبداية هجماته لتفادي أطماع الإمبراطور على بحر البلطيق.
فأرسل قواته العسكرية إلى بوميرانيا (محافظة بولندية على الساحل الجنوبي لبحر البلطيق) التي سحقت جيش الرابطة الكاثوليكية، خلال معركة "برايتنفلد" بالقرب من مدينة لايبزيغ الألمانية، يوم 17 سبتمبر/أيلول 1631.
في ذلك الوقت، كانت فرنسا تحت حكم الملك شارل الـ13 ورئيس الوزراء الكاردينال ريشيليو. ووفقاً لموقع Herodote الفرنسي، فإنّها دخلت حرب الثلاثين عاماً بسرية داعمةً ملك السويد بالمؤن والذخيرة. ما سمح له بالاستيلاء على مقاطعتي بافاريا وراينلند، واتخاذ مدينة فرانكفورت مقراً لقيادته العسكرية العليا.
قاد الملك غوستاف الثاني جيشاً كبيراً من 175 ألف جندي (30 ألفاً من السويد وفنلندا) وهزم جيش القائد الكاثوليكي الثاني ألبرت فون والينشتاين، في معركةٍ وقعت بنوفمبر/تشرين الثاني 1632 داخل مدينة لوتسن.
لقي غوستاف الثاني حتفه في نهاية المعركة، فيما خرج ألبرت فون والينشتيان منها سالماً رغم خسارته فيها، لكنه اغتيل يوم 24 فبراير/شباط 1634 من قِبل أتباع فرديناند الثاني بعدما بدأ يتطلع ليكوّن نفوذاً أكبر من نفوذ الإمبراطور.
ورغم وفاة غوستاف الثاني فإن السويديين واصلوا قتال القوات الإمبراطورية المقدسة بشراسة، تحت قيادة الحاكم الجديد للبلاد، المستشار أكسل أوكسنستيرنا، الذي كان وصياً على الملكة كريستين التي خلفت والدها على العرش وهي في السادسة من عمرها.
وقصد تعزيز حظوظه بتحقيق النصر النهائي في الحرب، طلب الإمبراطور فرديناند الثاني الدعم المالي والعسكري من إسبانيا، فكان له ذلك وانضمّ إليه جيش الأراضي المنخفضة الإسبانية بقيادة حاكمها الكاردينال فيرديناند (شقيق ملك إسبانيا).
فانتصر الحليفان على القوات السويدية في المعركة الحاسمة، التي جرت ببلدة "نوردلينغن" الألمانية في سبتمبر/أيلول 1634 .
دخول فرنسا حرب الثلاثين عاماً حوّلها إلى سياسية
بعد انخراط عدوها الأول، مملكة إسبانيا، حرب الـ30 عاماً بشكلٍ مباشرٍ في صف الإمبراطورية الرومانية المقدسة، طلب الكاردينال ريشيليو من الملك لويس الثالث عشر إعلان الحرب على إسبانيا والوقوف في صف البروتستانت، لتفادي محاصرة مملكتهم من طرف البلدان التابعة لعائلة آل هابسبورغ. وهنا يمكن القول إن حرب الثلاثين عاماً تحوّلت إلى سياسية، بعدما كانت دينية، لما دخلتها فرنسا رسمياً.
كان ريشيليو رجل دينٍ كاثوليكي، لكنه قرر مساندة البروتستانت ضدّ الكاثوليك لأسبابٍ سياسية. فأعلنت فرنسا الحرب على إسبانيا في مايو/أيار 1635 مستعينةً بـ120 ألف جندي من قواتها الملكية، وعدة آلاف من المرتزقة يقودهم الجنرال الألماني برنارد دو ساكس ويمار.
وبعد تحقيق فرنسا مجموعة انتصارات في جبهة الأراضي المنخفضة الإسبانية (بلجيكا وأجزاء من هولندا حالياً)، قرر فرديناند الثاني توقيع اتفاقية سلام مع معظم أمراء الولايات البروتستانتية الجرمانية.
حدث ذلك في 30 مايو/أيار 1635، وقد سُمّيت الاتفاقية بـ"صلح براغ"، الذي تضمّن نفس بنود اتفاقية "صلح أوغسبورغ" تقريباً، لعلّ أبرزها منح الحرية لكل ولاية في اختيار مذهبها الديني.
وقد لجأ الإمبراطور إلى هذا الصلح مع أمراء ألمانيا، بهدف التفرغ لجبهة الأراضي المنخفضة، ولاسترجاع المناطق التي استولت عليها السويد في شمال الإمبراطورية.
تلك المرحلة كانت الأخيرة من حرب الثلاثين عاماً، وكانت الأكثر دموية. فقد دارت معظم معاركها على أراضي الإمبراطورية الرومانية المقدسة الجرمانية، وشاركت فيها العديد من الدول الأوروبية، أبرزها: فرنسا، وإسبانيا، وهولندا، وإنجلترا، إضافةً إلى البرتغال، والسويد، والدنمارك، وبولندا، وليتوانيا.
إضافةً إلى عدد الجنود الكبير الذي لقيَ حتفه نتيجة المعارك الشرسة التي شهدتها حرب الثلاثين عاماً، فقد توفي مئات الآلاف من الجنود -والمدنيين أيضاً- بسبب الأمراض المختلفة التي ضربت القارة الأوروبية وسوء التغذية نتيجة المجاعة.
ولم يكن كل ذلك ليحدث لولا قيام المتخاصمين بأعمالٍ انتقامية لا توصف، مثل إحراق الأراضي الزراعية وإرسال آلاف الرجال إلى جبهات القتال، ما أدى إلى نقص اليد العاملة في الفلاحة.
"صلح وستفاليا" الذي أنهى الحرب وأنشأ دولاً جديدة
توفي الإمبراطور فرديناند الثاني سنة 1637، فخلفه على العرش ابنه فرديناند الثالث الذي لم ينجح هو الآخر في حسم حرب الثلاثين عاماً لمصلحته، لا عسكرياً ولا سياسياً، لا سيما في ظلّ التحالف الفرنسي السويدي الذي حقق انتصارات في معارك مختلفة.
لم تكن هذه المعارك حاسمة، ما جعل الطرفين يقتنعان أخيراً بضرورة اللجوء إلى السلام، فكان ذلك من خلال التوقيع على "صلح وستفاليا" الذي أنهى حرب الثلاثين عاماً نهائياً.
و"صلح وستفاليا" هو سلسلة من المفاوضات بين ممثلي مختلف الأطراف المتصارعة، انتهى بالتوقيع على اتفاقية السلام في أكتوبر/تشرين الأول 1648 بمدينة "مونستر" الألمانية، بين فرديناند الثالث وملوك فرنسا والسويد ومختلف الحلفاء.
وقد اعتبر المؤرخون "صلح وستفاليا" بمثابة أول اتفاقيّة دبلوماسية في العصر الحديث، خصوصاً أنه أرسى نظاماً جديداً في أوروبا الوسطى والغربية مبنياً على مبدأ سيادة الدول.
من أبرز نتائج تلك الاتفاقية، احترام سيادة الدول، والاعتراف بـ"الكالفينية" مذهباً بروتستانتياً مسيحياً، إضافةً إلى استقلال الأراضي المنخفضة (هولندا) وسويسرا والبرتغال، وصعود فرنسا كقوة عظمى، مع تراجع هيبة الإمبراطورية الإسبانية، وإضعاف الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتقسيم ألمانيا إلى أكثر من 350 إمارة مستقلة.
وفي ظلّ غياب أي إحصائيات رسمية دقيقة، فقد قدرت عدة مراجع تاريخية أن يكون عدد ضحايا حرب الثلاثين عاماً بين 8 و12 مليون قتيل، أغلبهم من الألمان ونصفهم من المدنيين.
وهذا ليس كلّ شيء، فتلك الحرب، إضافةً إلى إنشائها نظاماً عالمياً جديداً، فقد أثرت أيضاً على المجال الثقافي في كل أنحاء أوروبا.
كيف أثرت حرب الثلاثين عاماً على الفن التشكيلي؟
حرب الـ30 عاماً، وما تلاها من حراكٍ سياسي، فرضت أنماطاً فكرية وثقافية مختلفة، وكان لها دورٌ في الدفع نحو أُطرٍ جديدة للفنون التشكيلية -والرسم بشكل خاص- بوصفها الأداة الإعلامية المستخدمة في تلك الفترة.
ومن أشهر أولئك الفنانين، الرسام الفلمنكي (هولندي بلجيكي) ديفيد تينرز الذي قدّم عدداً كبيراً من اللوحات التي وثقت ما تخلل حرب الـ30 عاماً من دموية وقتل وعنف ودمار بين أتباع المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي.
على غرار تلك اللوحة التي رسمها عام 1648، وتُظهر جنوداً يهاجمون قرية، وكيف يمسك جندي يحمل السلاح بتلابيب رجل دين خلال معركة حامية تبدو في خلفية اللوحة.
وفي لوحة الرسام السويدي كارل واللبوم، التي رسمها سنة 1855، نرى وفاة الملك غوستاف الثاني أدولف ملك السويد في معركة لوتزن، وكأنها عرضٌ مسرحي حيّ للحظة قتل الملك وسط حشد من الخيول والجنود المتصارعين في القتال.
ووفقاً لموقع "الجزيرة.نت"، قدّم الرسام الباروكي جاك كالوت -الذي عاش ما بين عامَي 1592 و1635- في رسمته التوضيحية "ويلات الحرب" عرضاً مسرحياً لإحدى ساحات إعدام عامة، والتي كانت شائعة في حرب الثلاثين عاماً.
كما عرض جزءاً من الجحيم الذي عاشه المدنيون، حين تم شنق الكثير من السكان الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الحرب الدائرة، كما تعرضت عشرات الآلاف من النساء للاغتصاب.