خلال تكريمه للناشطة النسوية الفرنسية الراحلة جيزيل حليمي، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة المصادف 8 مارس/آذار، استذكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعمال الإذلال والتعذيب والاغتصاب التي ارتكبها الجيش الفرنسي ضد المناضلة في جبهة التحرير الوطني الجزائرية جميلة بوباشا خلال الثورة التحريرية.
جميلة بوباشا.. التحقت بالثورة في سنٍ مبكرة
وُلدت جميلة بوباشا التي تبلغ من العمر حالياً 85 عاماً في 9 فبراير/شباط 1938 في حي بولوغين بالعاصمة الجزائر، وقد نشأت وسط أسرة ثورية، إذ انتسبت إلى صفوف جبهة التحرير الجزائرية في وقتٍ مبكر، وتدربت في مستشفى بني مسوس لتكون ممرضة، لكنها لم تحصل على شهادة التدريب بسبب هويتها الجزائرية.
تقول بوباشا في حوار نادر أجرته عام 1972 مع قناة المعهد الوطني للسمعي البصري بفرنسا: "التحقت بالثورة عام 1955 وكان عمري حينها 17 عاماً، وقد قررت الانخراط في صفوف جبهة التحرير".
تعرضت للاغتصاب والتعذيب الوحشي
وفقاً لموقع jeuneafrique الفرنسي، في 9 فبراير/ شباط 1960، المصادف ليوم عيد ميلادها الـ22، اعتقلت السلطات الفرنسية جميلة بوباشا بصحبة والدها وشقيقها وشقيقتها نفيسة وزوج والدتها، واتُّهمت بزرع عدة قنابل في حي الكاليتوس الذي كان يقطنه الكثير من المستوطنين الفرنسيين، وذلك بعد أن تم نزع فتيلها من قبل خبراء إزالة الألغام في الجيش الفرنسي في 27 سبتمبر/أيلول 1959.
أبقى الجيش الفرنسي خبر اعتقال جميلة بوباشا سرياً لمدة شهرين، إذ تعرضت جميلة خلال تلك الفترة لشتى أنواع التعذيب والاغتصاب من قبل كتيبة المظلليين في الجيش الفرنسي.
وفقاً للرواية التي قدمتها سيمون دي بوفوار في صحيفة lemonde الفرنسية، في يونيو/حزيران 1960، فإنّ جميلة بوباشا تعرّضت لتعذيبٍ مروعٍ، "وضع الفرنسيين على جسد جميلة بوباشا أقطاباً كهربائية متصلة بأطراف الثديين، والساقين، والمناطق الحساسة، والوجه، والفخذ إضافةً إلى اللكمات، وحروق السجائر، ثم تمّ تعليقها وسط حوض الاستحمام"، كلّ ذلك حدث في مكانٍ سريٍّ ولم يعلم به أحد.
إلى أن تمكّن شقيقها من تحذير المحامية جيزيل حليمي التي قررت تولي قضيتها في مارس/آذار 1960. وكان أول لقاء بين المحامية والناشطة الشابة في سجن بربروس في 17 مايو/أيار 1960.
تصف جميلة بوباشا لمحاميتها جيزيل حليمي كيف اغتصبها الجنود الفرنسيون بكل وحشية وذلك بإدخال مقبض فرشاة أسنان في عضوها التناسلي، ثم عنق زجاجة خمر ما جعلها تفقد الوعي ليومين على الأقل.
تعاطف عالمي مع قضية جميلة بوباشا
بعد أن ترافعت المحامية والناشطة الفرنسية من أصل تونسي جيزيل حليمي عن قضية جميلة، بدأ التعاطف مع المناضلة الجزائرية يأخذ بُعداً عالمياً، إذ عبّر الكثير من المثقفين والشخصيات العالمية عن تعاطفهم، وفي مقدمتهم الكاتب الفرنسي جون بول سارتر، والكاتب لويس أراغون والرسام العالمي بابلو بيكاسو، إضافة للكاتب المارتينيكي إيمي سيزير وعالم الأنثروبولوجيا جيرمين تيليون.
كما تطوع العديد من المحامين للدفاع عنها برفقة المحامية جيزيل حليمي، كما دافع عنها الرئيس الأمريكي جون كينيدي والزعيم الصيني ماوتسي تونغ.
وتحوّلت قصة جميلة بوباشا إلى افتتاحية للصحف العالمية، إذ كتبت عنها الناشطة والصحفية النسوية مقالاً على صحيفة لوموند الفرنسية، وقالت دو بوفوار، في مقالها المعنون بـ"من أجل جميلة بوباشا"، الذي جاء على شكل نداء للرأي العام العالمي: "في ليلة 10 إلى 11 فبراير/شباط، اقتحم حوالي 50 حارساً ومفتشاً للشرطة المنزل الذي تعيش فيه جميلة مع والديها، ضربوها هي ووالدها وصهرها، لقد داس الجنود، بمن فيهم نقيب المظليين، على جميلة وحطموا ضلعها، قاموا بتوصيل أقطاب كهربائية، كما قاموا بربط ساقيها وفخذيها ووجهها بالكهرباء، لقد علقوا جميلة بعصا في حوض الاستحمام وعذبوها بأبشع الطرق".
رسمها بيكاسو في لوحة تقدّر بـ 400 مليون دولار
كان الرسّام العالمي بابلو بيكاسو مهتماً منذ وقتٍ مبكرٍ بالثورة الجزائرية، وحاول إدانة معاناة النساء الجزائريات في ظل الاستعمار من خلال سلسلة من الأعمال الفنية بلغ عددها خمس عشرة لوحة.
كانت آخرها لوحة فنية جميلة ظهرت على الصفحة الأولى من صحيفة Lettres françaises في 8 فبراير/شباط 1962، وفي افتتاح الصحيفة نداء سيمون دي بوفوار وجيزيل حليمي الذي نشرته مؤسسة غاليمار.
في يوليو/تموز 2008، عُرضت صورة بوباشا الذي جسدها بيكاسو في متحف ماما الوطني العام للفن الحديث والمعاصر بالجزائر العاصمة بمناسبة معرض كبير بعنوان "الرسامون الدوليون والثورة الجزائرية"، ثم تم نقلها من مرسيليا إلى الجزائر العاصمة تحت حراسة مشددة، إذ تقدر قيمة لوحة جميلة بوباشا لبابلو بيكاسو اليوم بنحو 400 مليون دولار.
لم يُفرج عنها سوى بعد اتفاقيات إيفيان!
بعد تزايد الضغوط الدولية وخوفاً من أن تُقتل في زنزانتها، ضغطت لجنة لدعم جميلة بوباشا كانت ترأسها سيمون دي بوفوار، ونجحت في تحويل مقر اعتقالها من الجزائر إلى سجن فرينيس في 21 يوليو/تموز 1960، ثم سجن باو.
ظهرت جميلة فجأة في كاين في يونيو/حزيران 1961 كجزء من التحقيق في شكواها -التي رفعتها جيزيل حليمي- ضد جلاديها. خلال جلسة الاستماع هذه، تعّرفت جميلة على مغتصبيها ومعذيبها.
مع ذلك، لم تنل جميلة بوباشا حريتها سوى سنة 1962، عندما حصلت على العفو تطبيقاً لاتفاقيات إيفيان وأفرج عنها في 21 أبريل/نيسان 1962.
توارت إلى الظل بعد الاستقلال ورفضت تعيين تبون لها في مجلس الأمة
وبعد أن أصبحت رمزاً للنضال من أجل الاستقلال، اختفت جميلة بوباشا تدريجياً من المشهد العام، حتى 15 فبراير/شباط 2022، عندما قام الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بتعيينها عضواً في مجلس الأمة الجزائري، لكن جميلة رفضت التعيين مفضلة البقاء في الظل.
ولم تتردد جميلة بوباشا في نشر بيان قدمت فيه شكرها للرئيس الجزائري على ثقته، وقالت: "خدمت وطني مع رفاقي ورفيقاتي المجاهدين والمجاهدات، وعدت إلى صفوف الشعب، وقررت أن أبقى كذلك".