بعد مرور 50 عاماً كاملة، يظل السبب الحقيقي لوفاة الشاعر التشيلي العالمي بابلو نيرودا في أعقاب انقلاب بلاده عام 1973، موضع شكوك المحققين.
إذ لم يكن الشاعر، الحائز على جائزة نوبل، واحداً من أشهر شعراء العالم فحسب، بل كان أيضاً أحد أكثر النشطاء السياسيين نفوذاً في تشيلي. ولكونه شيوعياً بشكل علني، فقد دعم سلفادور أليندي، رئيس تشيلي اليساري منذ عام 1970 إلى 1973، وعمل في إدارته.
ومع ذلك، تم إعلان أن وفاة نيرودا، في عيادة خاصة بعد أسابيع فقط من الانقلاب، كان نتيجة مرض السرطان، لكن التوقيت والظروف لطالما أثارت الشكوك حول ما إذا كان موته يتعلق بشيء أكثر خطورة.
وهو بالفعل ما توصلت إليه تحقيقات جديدة منتصف شهر فبراير/شباط عام 2023، حيث تم التشكيك لأول مرة بشكل شبه جازم أن وفاة الشاعر المخضرم قد تحمل شبهة الاغتيال.
تحقيقات جديدة كشفت شبهة القتل العمد!
استعرضت صحيفة نيويورك تايمز ملخص النتائج التي جمعها خبراء الطب الشرعي الدوليون الذين فحصوا رفات الشاعر التشيلي المستخرج من قبره، وحددوا البكتيريا التي يمكن أن تكون قاتلة وتم استخدامها في اغتياله المتعمد.
وفي ملخص من صفحة واحدة للتقرير الطبي، أكد العلماء أن البكتيريا كانت في جسد بابلو نيرودا عند وفاته، لكنهم قالوا إنهم لا يستطيعون التمييز ما إذا كانت سلالة سامة من البكتيريا أم لا، بحسب موقع NBC News الأمريكي للأخبار.
بمعنى أنهم لم يتيقنوا ما إذا كان الشاعر التشيلي أصيب بها بسبب حقنة سامة، أو لأنه تناول مثلاً طعاماً ملوثاً بالبكتيريا القاتلة بدلاً من ذلك.
مرة أخرى ، تترك النتائج غير الحاسمة السؤال عما إذا كان نيرودا قد قُتل أم مات بسبب ظروف طبيعية كما أشيع سابقاً.
من هو بابلو نيرودا؟
كان نيرودا نائباً تشيلياً ودبلوماسياً وشاعراً حائزاً على جائزة نوبل في الأدب، وترجمت أعماله إلى 35 لغة، وكان يُعتبر أحد أعظم شعراء أمريكا اللاتينية. كما أصبح المتحدث الرئيسي للحركة اليسارية في تشيلي حتى صعود الرئيس الاشتراكي، السيد ألليندي، عام 1970.
وبحسب صحيفة New York Times الأمريكية، ولد نيرودا في 12 يوليو/تموز عام 1904، ونشأ في مدينة بارال، وهي مجتمع زراعي صغير في جنوب تشيلي. توفيت والدته التي عملت معلمة مدرسة بعد وقت قصير من ولادته؛ وكان والده موظفاً في السكك الحديدية.
وعلى الرغم من أن والده لم يدعم تطلعاته الأدبية، بدأ نيرودا كتابة الشعر منذ سن الثالثة عشرة فقط.
خلال حياته، شغل الشاعر التشيلي عدة مناصب دبلوماسية في دول من بينها الأرجنتين والمكسيك وإسبانيا وفرنسا. حتى نهاية حياته، كان منخرطاً في النشاط السياسي كما هو الحال في الشعر.
توفي نيرودا في عيادة في سانتياغو، عاصمة تشيلي، عن عمر يناهز 69 عاماً. وجاءت وفاته بعد أقل من أسبوعين من وفاة صديقه وحليفه السياسي، السيد أليندي، الذي توفي منتحراً لتجنب الاستسلام للجيش بعدما أطاح بحكومته في سبتمبر/أيلول 1973.
أبرز أعماله الأدبية ونشاطاته السياسية
كان نيرودا كاتباً غزير الإنتاج، أصدر أكثر من 50 منشوراً في الشعر والنثر، وتراوحت الأعمال بين القصائد الرومانسية إلى فضائح السياسيين التشيليين وتأملات حول معاناة إسبانيا التي عانت من الحرب الأهلية.
وبحسب موقع France 24 الفرنسي للأخبار، فقد برز نشاطه القوي من أجل العدالة الاجتماعية عبر مجموعة قصائده الواسعة التي تُرجمت ونشرت في جميع أنحاء العالم، ما جعله رمزاً فكرياً للقرن العشرين في أمريكا اللاتينية.
وبعد ما يقرب من قرن من الزمان، لا تزال أعماله الشعرية ضمن الأكثر مبيعاً باللغة الإسبانية.
أثرت نشاطاته كدبلوماسي أيضاً على عمله، واتضحت علاقته بالشيوعية في كتابه "كانتو جنرال" أو "جنرال سونغ"، الذي يروي فيه تاريخ الأمريكتين من منظور إسباني.
ويُعتقد أن ميله إلى الشيوعية كان أحد أسباب تأخير حصوله على جائزة نوبل التي مُنحت له عام 1971 لمختلف أعماله. فوفقاً للموقع الرسمي للجائزة العالمية على الإنترنت، فقد أنتج نيرودا "شعراً يُحيي الناس ويلهمهم بمصير القارة وأحلامها".
الكثير من اللغط والغموض حول موته
بعد انقلاب تشيلي الذي يُعد أحد أعنف الانقلابات في تاريخ أمريكا اللاتينية، داهمت القوات الأمنية ممتلكات نيرودا ومسكنه الرئيسي.
وقد عرضت الحكومة المكسيكية نقله هو وزوجته، ماتيلدا أوروتيا، إلى خارج البلاد، لكن فجأة تم إدخاله لعيادة طبية لعلاج سرطان البروستاتا.
في مساء يوم 23 سبتمبر/أيلول عام 1973، ذكرت العيادة أن نيرودا توفي بسبب قصور في القلب. وفي وقت سابق من ذلك اليوم، اتصل بزوجته وقال إنه كان يشعُر بالمرض بعد تلقيه بعض الأدوية.
روايات الاعتقاد في أنه توفي مقتولاً ليست الأولى من نوعها اليوم، ففي عام 2011، ادعى مانويل أرايا، سائق الشاعر التشيلي الخاص في ذلك الوقت، أن الأطباء في العيادة سمموه بحقن مادة غير معروفة في بطنه، قائلين إن الشاعر التشيلي أخبره بذلك قبل وفاته.
وعلى الرغم من أن الشهود، بمن فيهم أرملته، نفوا هذه الواقعة، فقد طعن البعض في الادعاء بأن نيرودا توفي بسبب السرطان كما صرّحت العيادة.
وبحسب صحيفة The Guardian البريطانية، أدت الاتهامات في النهاية إلى تحقيق رسمي. وفي عام 2013، أمر قاضٍ بإخراج رفات الشاعر وإرسال عينات منه إلى مختبرات الطب الشرعي الوراثي.
لكن خبراء دوليين وتشيليين استبعدوا تعرضه للتسمم، وفقاً للتقرير الذي صدر بعد 7 أشهر حينها. ومع ذلك، في عام 2017، أعلنت مجموعة من المحققين الشرعيين أن السيد نيرودا لم يمت بسبب السرطان، وأنهم عثروا على آثار لبكتيريا يحتمل أن تكون سامة في أحد أضراسه.
وسلمت اللجنة النتائج التي توصلت إليها إلى المحكمة وطُلب منها محاولة تحديد منشأ البكتيريا.
وأخيراً، عُثر في التقرير النهائي الذي قدم إلى قاضٍ تشيلي منتصف فبراير/شباط عام 2023، حيث قال العلماء إن أدلة ظرفية أخرى تدعم نظرية القتل، بما في ذلك حقيقة أنه عام 1981، سممت الديكتاتورية العسكرية السجناء ببكتيريا يحتمل أن تكون مشابهة للسلالة التي عُثر عليها في رفات نيرودا.