في أعماق الصحراء الكبرى، تسبح مدينة شنقيط الموريتانية على أمواج الرمال الذهبية، وفي عمقها تاريخ طويل يبلغ من العمر 12 قرناً ومحطات شاسعة جعلت المدينة الموريتانية إحدى أبرز الحواضر الإسلامية في إفريقيا، حتى إنها سمّيت في إحدى فترات التاريخ الإسلامي بالمدينة السابعة في الإسلام، للدلالة على شهرتها والإشعاع العلمي والثقافي الذي كانت تكتسيه.
حظيت المدينة بتأسيسين متباعدين في الزمان، فكانت أولى صفحاتها مع الحياة خلال القرن الثاني للهجرة، وبالضبط في سنة 777م، ولعلها حملت يومها اسم آبير، أمّا التأسيس الثاني فكان أبطاله أربعة رجالٍ الذين قاموا في العام 1261م، ببناء مسجدٍ ومبان لهم في ضواحي مدينة شنقيط القديمة، سرعان ما صار المكان الذي اختاروه مستقراً، محطّاً للسكان الذين تقاطروا على المنطقة حتى صارت مدينة كبيرة وإحدى أهم الحواضر الإسلامية.
شنقيط.. المدينة الموريتانية التي بُعثت مرتين
كما سبق ذكره، فإن مدينة شنقيط حظيت بتأسيسين، فقد كان تأسيسها الأول يعود إلى سنة 160هـ، على يد حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة، الذي قام بحفر بئر في موضع المدينة، أما تسمية المدينة فاختلف المؤرخون حول أصلها، فهناك من يقول إن أصلها عربي وتعود إلى كلمة "سن قيط"، أي طرف جبل قيط، وهو جبل مجاور للمنطقة، وهناك من يحوّر المصطلح إلى الأصل البربري باعتبارها كلمة من اللغة الأزرية ذات الأصل "البربري" ومعناها عيون النخيل التي تشرب منها.
لكن الأكيد أنه خلال تأسيسها الأول، لم تكن شنقيط مشهورة بشكل كبير، مع ذلك عاشت قروناً من الزمن قبل أن تندثر في القرن الـ11 على الرغم من أنها كانت إحدى محطات قوافل الحج منذ وقتٍ مبكر.
في العام 1261، عادت مدينة شنقيط للحياة مرة أخرى، بعد أن حطت رحال أربعة رجال بها، هم "محمد قلي" و"يحيى العلوي" و"إديج" و"أعمر"، والذين قاموا ببناء مسجد على بعد 3 كيلومترات من مدينة شنقيط القديمة، ثم سرعان ما بنوا بيوتاً لهم حول المسجد.
ومع مرور الوقت، بدأت المنطقة تشهد قدوم الأهالي للاستقرار بها، حتى عادت عجلة الحياة تدبّ في المدينة مجدداً.
وفقاً لـsmithsonianmag، خلال فترة ازدهارها في القرن الـ17 وحتى القرن الـ19، كان يقطن بمدينة شنقيط 20 ألف شخص، وكانت القوافل الصحراوية مصدر ازدهار اقتصاد شنقيط، حيث تجمع هناك ما يصل إلى 30 ألف جمل في نفس الوقت، كانت هذه القوافل تحمل الصوف والشعير والتمر والدخن إلى الجنوب، وعادت بالعاج وريش النعام والذهب والعبيد.
كما أن المدينة حافظت على توهجها العلمي، من خلال بروز ثلة من علماءها البارزين من أمثال القاضي عبد الله وأحمد أكد الحاج.
وبلغت شنقيط اكتفاءها وتشبعها العلمي في عهد العلامة محمد بن المختار بن الأعمش، بحيث لم يسكن المدينة سوى العلماء.
مسجد شنقيط التاريخي.. 6 قرون من الإشعاع الحضاري
ما يميّز مدينة شنقيط هو المسجد التاريخي الذي يتوسطها، والذي يعود تأسيسه إلى سنة 1400م، والذي من حوله تستقر بيوت ساكنة شنقيط، كان المسجد أهم مؤسسة إشعاعية في المدينة، فمن خلالها حازت شنقيط شهرتها العلمية والثقافية.
وليس مسجد شنقيط ضخم المساحة؛ حيث يتسع تقريباً لحدود 10 صفوف، فيما تتسع باحة المسجد لضعف ذلك العدد تقريباً، ومن أبرز ما يميز المسجد، مئذنته ذات الطراز الفريد، والتي بُنيت قاعدتها مع تأسيس المسجد، قبل أن تستكمل بعد مرور 200 سنة على إقامة أسسها الراسخة.
ويدور داخل المئذنة سُلم حجري ينتهي إلى سطحها؛ حيث كان المؤذنون يصعدون لمراقبة انشقاق الفجر، أو غروب الشمس.
في أوج ازدهارها العلمي خلال القرنين الـ18 و19، كان هناك 12 مسجداً و25 مدرسة قرآنية في شنقيط، ثم اعتمدت ثرواتها على القوافل الغنية التي تنقل الملح إلى تمبكتو وإلى المغرب الإسلامي، وعلى قوافل الحج المغاربية التي كانت شنقيط نقطة بدايتها.
حالياً، أصبحت مئذنة المسجد التاريخي رمزاً لموريتانيا، إضافةً إلى مبانٍ قديمة متداعية لا تزال منتصبة وشاهدة على تاريخ المدينة، ناهيك عن خمس مكتبات لا تزال تحتوي على مخطوطات إسلامية نادرة.
في سنة 1996، حددت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) المدينة ومسجدها التاريخي موقعاً للتراث العالمي.
مدينة المكتبات ومكة موريتانيا ومعقل العربية
شنقيط، مدينة العلماء والعلماء، هي الوصي على المخطوطات القديمة والمكتبات الخالدة؛ إذ تشتهر بكونها مدينة المكتبات، إذ إنّ غالبية سكانها يمتلكون مكتباتٍ صغيرة أو كبيرة في منازلهم، وتحتوي مكتباتها على أغلب المخطوطات التي أحصاها مشروع صيانة وتثمين التراث الثقافي الموريتاني الذي يموِّله البنك الدولي، ويعود تاريخ هذه المخطوطات لأزيد من ألف سنة.
وكان قد سبق أن أعلن هذا المشروع عن جرد أكثر من 30 ألف مخطوط موزعة على 675 مكتبة منتشرة في 289 موقعاً في 91 بلدية موريتانية من ضمن 48 مقاطعة، تواجه أغلبها الكثير من المخاطر، خاصة أنها موجودة في بيوت من الطين على وشك السقوط والرمال تحاصرها، ومن هذه المكتبات نجد مكتبات أهل حبت، وأهل أحمد الشريف، وأهل حامني، وأهل عبد الحميد، وأهل لداعه، وأهل السبتي، وأهل الخرشي.
أمرٌ آخر جعل منها مدينة مهمة وتُذكر على كلّ لسان، إلى حدّ تسميتها بمكة موريتانيا، وذلك من خلال الصورة الإيجابية التي أخذته من علمائها "الشناقطة"، وما تركوا من انطباعات حسنة في المراكز العلمية المشرقية والمغاربية التي حلوا فيها، وإليها ينسب كبار العلماء الشناقطة الذين ملأ صيتهم العالم الإسلامي من خلال استظهار وحفظ العلوم، وأبدعوا في ميادين العقيدة الإسلامية واللغة والفقه والرياضيات والمنطق، فافتتن بهم المشارقة في الأزهر وفي الأردن وفي الحجاز وفي السودان وفي بلاد المغرب.
حتى إنّ العلامة الموريتاني محمد حبيب الله الشنقيطي الذي اختير مدرّساً بالأزهر حتى وفاته سنة 1943، وهي المرات القلائل التي يكون فيها شيخ الأزهر من بلاد الغرب الإسلامي.
كما أنّ أوّل أستاذ للغة العربية في جامعة الأزهر كان محمد محمود بن التلاميد الشنقيطي الذي تتلمذ على يديه كلٌّ من طه حسين، وأحمد حسن الزيات.
ناهيك عن عشرات العلماء الذي بلغ صيتهم الآفاق، ولعلّ أبرزهم العلامة غالي ولد المختار فال البصادي، الذي كان عالماً في اللغة العربية وشاعراً، وكان يلقبه العلماء بـ"صاحب العشرينيات"؛ لأنه كان دائماً يحفظ 20 بيتاً بمجرد سماع أي شعر.
والعلامة سيد محمد الملقب بالرجل ولد الداه، الذي كان عالماً في الفقه والأصول والقواعد والمقاصد، وماهراً بمفردات اللغة العربية وتصريفها ونحوها.
وتعد مدينة الشناقطة وموريتانيا عموماً أحد المعاقل الرئيسية للشعر واللغة العربية الفصيحة التي لا تزال قوية، إلى حدّ أن وفَّت البلاد ببلد المليون شاعر، تعبيراً عن قوة اللغة العربية واستعمالاتها بين الموريتانيين.