يوماً ما، وصفت الإمبراطورية البريطانية بأنها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وذلك بسبب امتداد أراضيها على مساحات شاسعة، فقد حكم التاج البريطاني في ذروة مجده ما يقارب 25% من مساحة اليابسة الموجودة بالكرة الأرضية، ونحو 23% من سكان العالم، لكن هذا العز لم يدم للإنجليز، فقد بدأت دولتهم في الانحسار، وحازت دول عديدة استقلالها عن الإمبراطورية التي تراجعت قوتها منذ بداية الحرب العالمية الأولى.
بدايات تراجع هيمنة الإمبراطورية البريطانية
كان هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية البريطانية في نهاية المطاف، وكانت أبرزها الحرب العالمية الأولى وزيادة التنافس مع الدول الكبرى الأخرى التي بدأت تزداد قوة، فضلاً عن الثورات التي أنهت الاستعمار البريطاني في العديد من الدول والخسائر الكبيرة التي تكبدتها بريطانيا في الحرب العالمية الثانية.
التنافس التجاري والصناعي مع الدول الأخرى
خلال القرن الثامن عشر، زادت المنافسة على الموارد التجارية بين الدول الأوروبية، خاصةً بريطانيا العظمى وفرنسا، وعلى الرغم من وجود هذه المنافسة فإن بريطانيا استطاعت الحفاظ على قوتها التجارية خاصة بعد احتلال الهند عام 1858.
لكن في بداية القرن العشرين، بدأت قوة بريطانيا في التراجع بعد أن تعرضت لتحديات متزايدة من قبل العديد من الدول الصناعية الأخرى.
على سبيل المثال كانت البحرية البريطانية هي الأقوى على صعيد العالم، وسيطرت أساطيلها على البحار في الشرق والغرب، لكن ذلك لم يدم إلى الأبد فما لبثت أن صعدت قوى بحرية أخرى مثل البحرية الألمانية التي أزاحت البحرية البريطانية من الصدارة ولم يعد الإنجليز وحدهم ملوك البحار، وهو أمر زاد من التوتر بين الدولتين وكان أحد أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى. ظهرت كذلك الأساطيل الروسية والأمريكية، الأمر الذي قلص نفوذ البريطانيين بشكل كبير.
ولم يقتصر هذا التنافس على البحرية فقط، فقد وجدت الإمبراطورية البريطانية نفسها أمام دول قوية تحقق نمواً اقتصادياً وصناعياً سريعاً منذ بداية القرن العشرين، مثل ألمانيا والولايات المتحدة، في ذلك الوقت كانت بريطانيا لا تزال قوية لكنها لم تعد الدولة المهيمنة الوحيدة، وجاءت الحرب العالمية الأولى لتكون بداية نهاية هذه الهيمنة.
الحرب العالمية الأولى
مع صعود القوى العالمية الأخرى، وبداية تراجع الهيمنة البريطانية التجارية والصناعية والبحرية، جاءت الحرب العالمية الأولى لتزيد الأوضاع سوءاً.
فقد استنفد الصراع الموارد المالية لبريطانيا وأضعفت الحرب البلاد وزادت من ديونها لواشنطن على وجه الخصوص، وفقاً لما ورد في موقع graphics.
خلال فترة الحرب العالمية الأولى، انخفضت الاستثمارات الخارجية للإمبراطورية البريطانية إلى حدها الأدنى، وتوقف الإنتاج وتعطلت التجارة. مع العلم أن الاقتصاد البريطاني كان يعتمد بشكل مفرط على الصناعات الثقيلة والتعدين. والأهم من ذلك، أن نظام ما قبل الحرب الذي أفاد بريطانيا من تدفقات رأس المال الحر والتجارة الحرة نسبياً قلل من مستويات التعاون الدولي فوجدت بريطانيا نفسها وحيدة خلال الحرب من الناحية الاقتصادية.
فضلاً عن ذلك أنفقت بريطانيا على الحرب أكثر من أي دولة أخرى انضمت إلى الصراع، وبلغ الإنفاق الحربي ما يقارب خُمسي الدخل القومي لبريطانيا.
وبحلول أبريل/نيسان 1917، أعلنت لندن أنها غير قادرة على تمويل نفسها إلا لمدة ثلاثة أسابيع فقط، وتدخلت هنا واشنطن للمساعدة.
ومع نهاية حقبة العولمة، لم تكن بريطانيا قادرة على الحفاظ على دورها التاريخي عسكرياً أو اقتصادياً. فعلى الرغم من أنها بقيت دولة قوية بعد الحرب العالمية الأولى وعلى الرغم من أنها انتصرت وامتدت سيطرتها إلى مناطق جديدة، فإن الحرب كبَّدت البريطانيين آلاف الضحايا وأضعفت مواردهم.
وبعد الحرب كان على بريطانيا أن تختار إما الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة أو اليابان، فاختارت عدم تجديد تحالفها الياباني ووقعت بدلاً من ذلك معاهدة واشنطن البحرية 1922، حيث قبلت بريطانيا التكافؤ البحري مع الولايات المتحدة، مما ساهم في إضعاف مكانتها كقوة مهيمنة في العالم.
والأهم من ذلك، قامت بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى بتجنيد أبناء مستعمراتها وإجبارهم على الوقوف إلى جانب بريطانيا في الحرب، كما استنفدت بريطانيا موارد مستعمراتها في الحرب، مما أثار سخط أبناء هذه المستعمرات على البريطانيين وجعلهم يثورون لاحقاً على التاج البريطاني مطالبين بالحصول على الاستقلال.
نهاية الإمبريالية
كان من أهم تبعات الحرب العالمية الأولى استقلال أيرلندا عن الإمبراطورية البريطانية في عام 1922، بعد حرب الاستقلال الأيرلندية والمعاهدة الأنجلو-أيرلندية.
أيرلندا كانت البداية فقط، فقد بدأت الحركات القومية بالظهور بعد ذلك في المستعمرات الآسيوية والإفريقية مطالبة بإنهاء الحكم البريطاني والحصول على الاستقلال.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية في عام 1939، زاد ضعف الإمبراطورية البريطانية وأصبحت أقل قدرة على السيطرة على مستعمراتها، فعلى الرغم من الانتصار الذي حققته في الحرب فإنها استنفدت مواردها وأضعفت اقتصادها.
ومع حلول عام 1947 خسرت الإمبراطورية البريطانية درة تاجها، الهند بعد جهود المهاتما غاندي السلمية التي أسفرت عن استقلال الهند ونهاية حقبة الاستعمار البريطاني.
وبحلول الستينيات، أصبحت معظم المستعمرات البريطانية السابقة دولاً مستقلة. ولكن معظمها احتفظ بعلاقاته مع بريطانيا كأعضاء في الكومنولث.
ولادة الكومنولث
في القرن العشرين، بعد أن حصلت العديد من الدول التي استعمرتها بريطانيا فيما مضى على استقلالها، ظهر ما يسمى بـ"الكومنولث" وهو بمثابة اتحاد سياسي يضم 56 دولة عضواً، كانت جميعها تقريباً أقاليم سابقة للإمبراطورية البريطانية، لكنها حافظت على علاقات مع التاج البريطاني حتى بعد الاستقلال. أي نستطيع أن نقول إن الكومنولث حل بشكل أو بآخر، بديلاً للإمبراطورية البريطانية المتهاوية.
وعلى الرغم من أن الكومنولث الحالي تشكَّل رسمياً بموجب إعلان لندن في عام 1949، فإن تاريخ الفكرة يعود إلى ما قبل ذلك بكثير، ففي عام 1839 طرح اللورد دورهام لأول مرة، فكرة الحكم الذاتي المحدود لبعض المستعمرات البريطانية ثم انتشر هذا النظام بسرعة، الأمر الذي سمح لبعض المستعمرات بإدارة شؤونها الخاصة، وتم تطبيقه بكندا في عام 1847 وامتد لاحقاً إلى المستعمرات الأسترالية ونيوزيلندا ومستعمرة كيب وناتال في جنوب إفريقيا.
اكتسبت هذه المستعمرات سيطرة كاملة على شؤونها الداخلية وفي عام 1907 مُنحت السيادة على أراضيها، لكن وعلى الرغم من تلك السيادة كانت هذه المستعمرات لا تزال جزءاً من الإمبراطورية وتحافظ على ولائها للتاج البريطاني، وأصبحت هذه الدول جميعها جزءاً من الكومنولث الذي كان يسمى "الكومنولث البريطاني".
بحلول القرن التاسع عشر، أدت السياسة البريطانية التقليدية المتمثلة في السماح بالحكم الذاتي في مستعمراتها، إلى وجود العديد من الدول التابعة التي تحكمها برلمانات محلية، وبحلول عام 1931 أصبح يشار إلى هذه الدول باسم "الكومنولث البريطاني للأمم". ومنذ عشرينيات القرن الماضي بدأت سلسلة طويلة من الثورات المطالبة بالاستقلال عن التاج كما حصل في الهند وغيرها من المستعمرات، وبالفعل حصلت معظم هذه الدول على استقلالها في فترات مختلفة.
وفي عام 1949، تبنت الهند دستوراً يعلنها جمهورية. كانت ترغب في البقاء بالكومنولث، ولكن بصفتها جمهورية، لم تستطع الاعتراف بالملك أو الملكة البريطانية بصفتها صاحبة السيادة. لذلك اتفق رؤساء حكومات الكومنولث على أن الهند كجمهورية يمكن أن تستمر في عضويتها إذا قبلت التاج البريطاني باعتباره فقط "رمز الاتحاد الحر" لأعضاء الكومنولث، وفقاً لما ورد في موقع britannica.
في وقت لاحق، لم تعد المنظمة تسمى بـ"الكومنولث البريطاني"، بل بات اسمها الرسمي كومنولث الأمم أو ببساطةٍ الكومنولث.