في نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، تحتفل بلاد العالم بـ"اليوم العالمي للطلاب" وتتذكر شجاعة الطلاب الذين سعوا -ويسعون دائماً- إلى محاسبة السلطات الفاسدة والمستبدة في بلادهم، ومن قَبلهم مناهضة قوات الاستعمار.
والذكرى تتأرجح بين مناسبتين: الأولى أوروبية، وقد تسببت بها ألمانيا النازية عام 1939. أما الثانية، فهي قصة الحراك الطلابي المصري، الذي قد يكون غير معروف للجميع.
ورغم أن الواقعة النازية هي الأشهر، عندما يتعلق الأمر بذكرى اليوم العالمي للطلاب؛ فإن الحراك المصري سبقها بأربعة أعوام، وراح ضحيته الطالب محمد عبد الحكم الجراحي، الذي استشهد برصاص الإنجليز في المظاهرات التي انطلقت من الجامعة المصرية (جامعة القاهرة حالياً) على كوبري عباس عام 1935.
من الطب في فرنسا إلى الآداب بالقاهرة
بدأت القصة قبل ذلك بعامين، عندما غادر الطالب محمد عبد الحكم الجراحي مصر باتجاه فرنسا، لدراسة الطب. لكن بسبب رفض جامعة "ليون" قبول أوراقه، صرف الجراحي النظر عن دراسة الطب ليتوجه إلى دراسة الأدب وكتابة الشعر.
وفي غضون وقتٍ قصير، حضر العديد من الأمسيات الأدبية بصحبة الطلبة المصريين المغتربين في فرنسا، مما جعل تلك الأجواء فرصةً لمناقشة الوضع السياسي الذي تنقله الصحف عن مصر.
في إحدى تلك الأمسيات، التقى محمد عبد الحكم الجراحي، عميدَ الأدب العربي طه حسين في أثناء زيارته لفرنسا. وبعد أن سمع شعر الجراحي وأشاد به، استغلّ عبد الحكم الفرصة وطلب من حسين قبول أوراقه في كلية الآداب بجامعة القاهرة.
وهذا ما حصل بالفعل؛ وفي صباح الجمعة 25 أكتوبر/تشرين الأول 1935، ودّع محمد عبد الحكم الجراحي الجميع وعاد إلى بلاده من جديد، ليدرس الأدب هذه المرة.
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، وفي الـ"غولدن هول" تحديداً، أصدر السير صمويل هور، وزير الخارجية البريطاني، قراراً بعدم صلاحية دستورَي 1923 و1930، باعتبار الأول غير صالح، والثاني لا يطابق رغبات الأمة.
بعد هذا التصريح، وخلال احتفال الشارع المصري بعيد الجهاد الوطني في 13 نوفمبر/تشرين الثاني، خرج طلاب الجامعة -وانضم إليهم طلاب المدارس- في تظاهرةٍ كبيرة، هاتفين ضدّ تصريحات وزير الخارجية البريطاني ومنادين بسقوط الحكومة.
وعندما حاول الطلاب اجتياز الجسر النيلي الشهير "كوبري عباس"، القريب من جامعة القاهرة حالياً، أطلقت الشرطة الرصاص عليهم؛ ليسقط عدد من الشهداء، من بينهم محمد عبد المجيد مرسي (الطالب في كلية الزراعة) وطالب كلية الآداب محمد عبد الحكم الجراحي.
قيادة مظاهرات الطلاب، وإصابة محمد عبد الحكم الجراحي
شهد هذا اليوم التحاماً شعبياً قوياً، تخطى فيه الطلاب كل الخلافات الحزبية واحتشدوا في مظاهرةٍ سلمية، حتى وصل عددهم إلى أكثر من 7 آلاف، قبل أن تنضم إليهم مظاهرة أخرى.
وكما ذكر الكاتب صلاح عيسى في كتابه "حكايات من دفتر الوطن"، فقد كان الطلاب المصريون "شرارة الحراك الثوري"، بعدما أضربوا عن الدراسة وحشدوا الشعب للمظاهرات، في الوقت الذي كان فيه محمد عبد الحكم الجراحي قد بدأ دراسته بكلية الآداب.
في اليوم التالي، تجمّع الطلاب على "كوبري قصر النيل"، منتظرين قوات الأمن بقيادة الضباط الإنجليز. في مقدمة صفوف الثوار، كان الطالب بكلية الزراعة عبد المجيد مرسي حاملاً علم مصر، وعندما وصلوا إلى منتصف الكوبري، انهالت عليهم رصاصات الإنجليز. 4 منها أصابت مرسي، الذي استشهد على أثرها.
كان محمد عبد الحكم الجراحي حينها في الصفوف الأولى أيضاً، ما جعله يتلقف العلم بعد استشهاد زميله، ليصبح شعار "رفعت العلم يا عبد الحكم" الشعار الرئيسي لكل مظاهرات الطلبة والثوار في أربعينيات القرن الماضي.
على الرغم من تهديدات ضباط الإنجليز للجراحي بإطلاق النار عليه، فإنه تابع متقدماً الصفوف حاملاً العلم، حتى أطلق عليه جنود الإنجليز الرصاص بالفعل مع كل خطوة خطاها فوقع مغشياً عليه.
سرعان ما نُقل محمد عبد الحكم الجراحي إلى مستشفى قصر العيني، واستُخرجت من جسده 8 رصاصات. لكنه وقبل أن يموت متأثراً بجراحه، كتب رسالةً إلى زملائه الثوار من على فراش المستشفى، جاء فيها: "أشكر لكم شعوركم السامي بالنسبة لما أدّيته، وأعتبره أقل من الواجب في سبيل البلد الذي وهبنا الحياة، بل وهب الحضارة إلى العالم".
بسبب هذه الكلمات، اشتعلت مجدداً انتفاضة شعبية كبرى في شوارع مصر، شارك فيها النساء والرجال، واحتشد الثوار في العاصمة والأقاليم، مثل: طنطا، وشبين الكوم، والفيوم، والزقازيق، كما أضرب الطلاب بالمدارس وشاركت جامعات أخرى في التظاهرات، أبرزها جامعة الأزهر.
مراسلة رئيس الوزراء البريطاني قبيل استشهاده
في ظل تلك الأوضاع المشتعلة، كتب محمد عبد الحكم الجراحي خطاباً آخر إلى رئيس الوزراء البريطاني، قائلاً: "بسم الله الرحمن الرحيم، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، إلى رئيس وزراء إنجلترا، أحد رجالكم الأغبياء رماني برصاصة، وأنا الساعة أمشى رويداً إلى الموت، ولكنى سعيد بأن أترك روحي تُنتزع مني وأضحي بدمي".
واستكمل مخاطباً رئيس الوزراء: "إن آلام الموت عذبة المذاق من أجل مصرنا نحن، فتحيا مصر، مصر فوق الجميع، لتحيا التضحية ويسقط الاستعمار، ولتسقط إنجلترا، وسيتولى الله عقابكم قريباً أنتم روح الشر". وختمها بتوقيع: "أحد الشهداء المصريين، محمد عبد الحكم الجراحي 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1935".
تسببت تلك الرسالة في إحداث صدى ضخم، وكانت مصدر إزعاجٍ كبير للحكومة البريطانية، لا سيما بعد أن تناقلتها مختلف الصحف الشهيرة آنذاك، واحتفت بكاتبها.
في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1935، استشهد محمد عبد الحكم الجراحي متأثراً بجراحه وموحداً صفوف المصريين من بعده في جنازته، التي حرص زملاؤه على أن تكون جنازة شعبية يستطيعون فيها حراسة جثمانه حتى لا يُدفن سراً، كما حدث مع الشهيد عبد المجيد مرسي.
حضر جنازة محمد عبد الحكم الجراحي المواطنون والطلاب من الجامعات والمدارس، والعديد من المسؤولين ومشاهير الحركة الوطنية والعلماء، مثل: مندوب رئيس الوزراء النحاس باشا، وأحمد ماهر رئيس مجلس النواب، ويوسف الجندي وكيل وزارة الداخلية، والبرلماني المصري محمد صبري أبو علم، والدكتور طه حسين عميد كلية الآداب، والدكتور علي مصطفى مشرفة أول عميد مصري لكلية العلوم، وأحمد لطفى السيد أول مدير للجامعة المصرية.
لم تتوقف الانتفاضة الشعبية بمقتل الجراحي، وإنما أصبحت أكبر بعد موته. وفي 17 نوفمبر/تشرين الثاني، تسبب استشهاد الطالب علي طه عفيفي بالضغط على وزير الخارجية البريطاني صمويل هور، ما جعله يُلقي خطاباً يخفف فيه من تصريحه السابق.
ليس هذا وحسب؛ فبحلول شهر ديسمبر/كانون الأول 1935، أعلن رئيس الوزراء المصري استقالته وأصدر القصر الملكي تباعاً قراراً بعودة العمل بدستور 1923.
كان محمد عبد الحكيم الجراحي أيقونة ليس للطالب العربي المصري فحسب، بل للثوار جميعهم، فلم تخلُ مظاهرة من أشهر الهتافات التي خُلِّدَت في التاريخ "رفعت العلم يا عبد الحكم"، كما خُلّدت قصته على ألسنة المصريين.
ومن العجيب أن شهر نوفمبر/تشرين الثاني لم يشهد فقط على تلك الواقعة المصرية، التي تلتها واقعة براغ فقط، بل شهد أيضاً انتفاضات في مختلف دول العالم، كان للطلاب فيها دورٌ رئيسي في رفض الظلم.
طلاب اليونان ضد الحكم العسكري
في نوفمبر/تشرين الثاني 1973، أضرب طلاب كلية أثينا للفنون التطبيقية عن الدراسة؛ احتجاجاً على النظام الحاكم الذي كان يسيطر عليه الجيش. فبدأ النضال في 14 نوفمبر/تشرين الثاني عبر تأسيس محطة إذاعية أرسلت البث إلى مدينة أثينا بأكملها.
وكانت عمليات البث تحفز الناس ضدّ المجلس العسكري الذي كان يتولى مقاليد السلطة في اليونان، وسرعان ما انضم إليهم الآلاف من المواطنين لتنطلق الاحتجاجات في يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني، من خلال تحطيم دبابة تقف عند بوابة الكلية.
كل ما حدث بعد ذلك تم تسجيله في فيلمٍ وثائقي لصحفي هولندي -مجهول الهوية- بعنوان "مرور دبابة عبر المدخل الرئيسي لكلية أثينا للفنون التطبيقية".
كما حُفظت باقي الأحداث في تسجيلٍ صوتي لأحد الطلاب، أُذيع على الراديو، حين كان يتوسل المهاجمين عدم قتال المتظاهرين.
وبحسب التحقيق الرسمي آنذاك، والذي طُعن فيه لاحقاً، لم يُقتل أي طالب في الكلية، إنما أصيب العديد منهم بجروحٍ خطرة وتركت إصاباتهم علامة دائمة؛ في حين سجلت المحاكمات، التي عُقدت للمجلس العسكري بعد سقوطه، مقتل المدنيين في تلك الاحتجاجات.
الثورة في براغ
في عام 1989، نظم قادة الطلاب مع الاتحاد الاشتراكي للشباب مظاهرة حاشدة لإحياء ذكرى يوم الطالب العالمي الخمسين.
وخلالها، عبّر الطلاب عن استيائهم من الحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا؛ فسرعان ما تحوّل الحدث التذكاري السلمي إلى اعتداءٍ صارخ. ومع حلول الليل، تعرّض المشاركون للضرب المبرح من قِبل شرطة مكافحة الشغب ووكالات إنفاذ القانون.
شارك في هذه المظاهرة حوالي 15 ألف شخص، ولسقوط أحد الطلاب قتيلاً بسبب الضرب الذي تلقاه من قوات الأمن -تبين فيما بعد أن الجثة تعود إلى عميلٍ سري زُرع في تلك المظاهرات- وقعت أحداث كبرى لم تكن الشرطة السرية تتصورها على الأرجح، وذلك بعد انتشار إشاعة وفاة الطالب بسبب وحشية الشرطة.
في الليلة نفسها، اتفق الطلاب على بدء إضراب تلته العديد من الاحتجاجات التي أخذت في الانتشار أكثر وأكثر، حتى أدت إلى سقوط النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا نهاية الأمر، وهو ما جعل الطلاب دائماً الشعلة الأساسية والأولى لتحريك الأوضاع.