لا يُعرف على وجه اليقين الأصول الكاملة للعبة الشطرنج، ولكن يُقال إنّ له جذوراً من إمبراطورية جوبتا، فيما يُعرف الآن بالهند، حيث ازدهرت لعبة تُدعى "شطرونجا" في القرن السادس.
تاريخ لعبة الشطرنج وما تخلله من حروب وصراعات
مثل لعبة الشطرنج الحديثة، تضمنت "شطرونجا" لوحة مربعات سوداء وبيضاء، تم تصميمها على غرار الحرب، مع قطع تمثل المشاة، وكذلك المركبات والفيلة، والتي سرعان ما انتشرت على طول طرق التجارة، إذ اتجهت شرقاً، لتندمج مع لعبة الشطرنج الصيني، وكذلك شرق بلاد فارس والعالم العربي.
في الوقت ذاته كان الملك كانوت العظيم، يقود إمبراطورية أنجلو-إسكندنافية التي ضمّت إنجلترا والدنمارك والنرويج في القرن الـ11، ويعتقد أنه خلال قرون من التجارة والحروب جلب اللعبة إلى تلك البلاد.
في حين يعتقد مؤرخ الشطرنج الشهير هارود موراي، أنّ اللعبة وصلت إلى إسبانيا أو إيطاليا عبر تجار مسلمين، وفقاً لما ذكره في كتابه "تاريخ الشطرنج" عام 1913.
ومنذ مراحلها المبكرة تسببت اللعبة في حدوث صراعات ذكرها موراي نفسه في كتابه، بين أفراد العائلة المالكة والنبلاء ورجال الدين الذين مارسوا اللعبة.
ووفقاً لما ذكرته صحيفة Washington Post الأمريكية، فإنّ الملك كانوت نفسه كان يستخدم طرقاً ملتوية للفوز، إذ كان يقوم بتحريك حجره، وعندما يعرف نية اللاعب المنافس يقوم بطلب إعادة حركته، إذ لم تكن قاعدة "اعتماد الحركة بمجرد اللمس" الحديثة موجودة في ذلك الحين.
بينما يشاع أيضاً أنّ ويليام الفاتح الذي أصبح أول ملك نورماندي لإنجلترا في القرن الــ 11، كسر رقعة شطرنج فوق رأس أمير فرنسا بعد خسارته منه.
في حين تمتعت اللعبة بشعبية مستمرة بين نخب أوروبا، لا سيما نابليون بونابرت الذي كان لاعباً بارعاً حتى في منفاه.
كما تقول إحدى الروايات عن الملك كانوت العظيم، إنه في إحدى المرات كان يلعب ضد نبيل يُدعَى أولف والذي يكون في الوقت ذاته زوج أخته، عندما اتخذ خطوة انتهكت القواعد؛ مما دفع خصمه النبيل إلى قلب رقعة الشطرنج ومغادرة الغرفة.
صاح كانوت العظيم قائلاً: "أولف، أيها الجبان، هل تهرب؟"، وفقاً لسنوري ستورلسون، الشاعر الآيسلندي ومؤرخ العصر.
أجاب أولف: "كنت ستأخذ رحلة أطول في نهر هيلغا، إذا لم أساعدك عندما يضربك السويديون مثل الكلب، ثم تدعوني أولف الجبان"، فيما يُقال إنّ أولف قُتل في اليوم التالي.
الشطرنج والحرب الباردة في العصور القديمة
على الرغم من أنّ اللعبة تطورت عبر الوقت وصارت تمارس وفقاً لقواعد محددة، فإن "الغش" ظلّ مستمراً، وأحد أشهر الأمثلة على الحيل في الشطرنج هو "الترك الميكانيكي"، وهو أداة غريبة تعود إلى أواخر القرن الـ17 ادُّعِيَ أنها لاعب شطرنج آلي، في الواقع، كان هناك لاعب بشري مختبئ في الداخل، بطريقة ما، أُبلِغَ عن كل من نابليون وبنجامين فرانكلين في الحيلة.
ومع انتشار بطولات الشطرنج، أصبح هناك تكتيك آخر شائع: التواطؤ، حيث ينسحب اللاعبون أو يخسرون عمداً لمساعدة الآخرين على التقدم.
وقد حظيت القضية بالاهتمام بعد إنشاء الاتحاد الدولي للشطرنج، والمشهد المتزايد المخاطر لبطولة الشطرنج العالمية، التي أصبحت موقعاً لمعارك الشطرنج في الحرب الباردة، واتهامات الغش.
الشطرنج خلال الحرب الباردة السوفييتية-الأمريكية
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى زوال الاتحاد السوفييتي، سيطر لاعبو الشطرنج السوفييت على لعبة الشطرنج العالمية، لم يكتفوا بالسيطرة على لقب بطل العالم بعد عام 1948 (باستثناء فترة الأمريكي المعجزة فيشر)، بل احتكروا أيضاً جميع المجالات الأخرى لمنافسة الشطرنج الدولية.
عندما حصل السوفييت على لقب بطولة العالم للشطرنج في عام 1948، كان هذا تتويجاً لبرنامج طويل تمت صياغته بعناية لتعزيز مجتمع الشطرنج في الاتحاد السوفييتي.
كان للأساس المنطقي لهذه المبادرة، التي جذبت انتباه أعلى مستويات الدولة السوفييتية، جذور أيديولوجية عميقة.
ووفقاً لما جاء في كتاب "التاريخ السياسي للشطرنج في الاتحاد السوفييتي" فإنّ قصة الشطرنج السوفييتي بدأت في الحرب الأهلية عندما تم تجنيد الشطرنج كأداة تدريب للمجندين العسكريين.
بعد انتصار البلاشفة، تم استخدام منطق مماثل للغاية للترويج للشطرنج كأداة لتدريب كادر الحزب في الحزب الشيوعي المزدهر.
كانت الصفات نفسها التي كانت مطلوبة في الجنود مرغوبة أيضاً لدى نشطاء الحزب، وكان يُنظر إلى الشطرنج كأداة لتغذية هذه الصفات.
في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، تم توسيع برنامج الشطرنج الذي ترعاه الدولة بشكل كبير، وفي الوقت نفسه تغيّر منطقه الأيديولوجي.
في مواجهة حقيقة بناء الاشتراكية في بلد ذي عقلية قديمة، اعتقد الحزب أن الشطرنج يمكن أن يكون ذا فائدة كبيرة في رفع المستوى الثقافي للجماهير الكادحة.
كانت البروليتاريا المتطورة ثقافياً أحد المتطلبات الأساسية العديدة للاشتراكية التي افتقر إليها الاتحاد السوفييتي، فأصبح الشطرنج مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمنظمات العمل الحكومية على الرغم من ارتباطه رسمياً ببيروقراطية مؤسسات الرياضة والتربية البدنية الحكومية.
لتصبح لعبة الشطرنج مكوناً ثقافياً مهماً في حياة المواطنين السوفييت، محققاً مكانة في المجتمع السوفييتي لم يسبقها مثيل.
فكانت فترة ثلاثينيات القرن الماضي، وفقاً لما ذكره موقع eScholarship الأمريكي، فترة مخصصة لتنمية جيل جديد من اللاعبين ذوي الكفاءة العالية، وبالتالي استغلاله كوسيلة دعائية للترويج لتفوق الثقافة السوفييتية، تحديداً على الثقافة الأمريكية التي فازت بأربعة أولمبياد شطرنج متتالية من عام 1931 إلى عام 1937، لا سيما أنّ البلدين كانا يعيشان فترة من الحرب الباردة.
استطاع السوفييت أن يفوزوا ببطولة العالم 1948، وصارت الهيمنة السوفييتية على لعبة الشطرنج العالمية سلاحاً مهماً للغاية في الجبهة الثقافية للحرب الباردة.
ليصبح مفهوم المراحل الثلاث (التركيز العسكري، والشطرنج للعمال، وشطرنج الحرب الباردة) ملائماً لتقسيم الفترة التكوينية للشطرنج السوفييتي.
استمر الشطرنج في كونه جزءاً مهماً من الثقافة العسكرية، بينما ظل الانتشار الواسع للشطرنج في المجتمع السوفييتي أولوية لمنظمة الشطرنج السوفييتية، حتى مع سيطرة كبار اللاعبين السوفييت على لعبة الشطرنج الدولية.
كل هذه الجوانب من الشطرنج السوفييتي قد تجاوزت عمر الدولة السوفييتية، ويمكن اعتبار الشطرنج على حد سواء إنجازاً إيجابياً للدولة السوفييتية وإرثاً إيجابياً للحكم السوفييتي.
وبالتالي فإنه عندما انتهت الحرب العالمية الثانية اعتقد الناس أن السلام الأخير قد حل، ولكن سرعان ما انخرطت القوتان العظميان، الكتلة الشيوعية برئاسة الاتحاد السوفييتي والكتلة الرأسمالية برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، في تكتيكات الحرب القاسية التي أصبحت تُعرف باسم تكتيكات الحرب الباردة.
أدت عملية التفوق هذه إلى حدوث انتكاسة مريرة في جميع مراحل الحياة وضمن ذلك الرياضة.
صراع سوفييتي أمريكي على بطولة العالم للشطرنج
أصبحت لعبة الشطرنج، لعبة المثقفين التي رعتها في السابق آلة الشطرنج السوفييتية، إحدى ساحات الصراع الرئيسية بين القوتين العظميين.
أصبح لاعبٌ اسمه بوبي فيشر أحد أشهر الأسماء في لعبة الشطرنج الأمريكية، وذلك عندما فاز في بطولة العالم للشطرنج عام 1972، على اللاعب السوفيبيتي بوريس سباسكي.
ورغم انتصاره التاريخي، رفض فيشر الدفاع عن لقبه يمباراة العودة في عام 1975، ولكن في العام 1992، قرر المشاركة في مباراة العودة غير الرسمية وفاز على سباسكي ولكن انتهى به الأمر إلى مواجهة مذكرة توقيف؛ لخرقه عقوبات الأمم المتحدة على يوغوسلافيا، حيث أقيمت المباراة، في حين سيطر الروس على مُعظم الألقاب العالمية للشطرنج حتى نهاية القرن الـ20.
الشطرنج والسياسة!
بصرف النظر عن حدود الغش التي أتاحتها التطورات التكنولوجية، استمرت السياسة في تلويث الشطرنج، إذ يقول النقاد إن الإتحاد العالمي للشطرنج يخضع بشكل كامل لسيطرة روسيا، على حد وصف مجلة Wired البريطانية.
إذ إنه من عام 1995 إلى عام 2018، قاد الاتحادَ الدولي للشطرنج "كيرسان إليومينجينوف"، الرئيس السابق لجمهورية كالميكيا الروسية الواقعة شمال جمهورية الشيشان.
ولكن في يوليو/تموز 2018، تم عزل كيرسان إليومينجينوف من منصب رئيس الاتحاد، بعد أن كان في منصبه لمدة 23 عاماً، بعد تعرضه للعقوبات الأمريكية، بسبب تعاملاته التجارية ودعمه المالي لنظام الأسد في سوريا، وبالتالي تم إجبار إليومينجينوف على الخروج ولم يرشح نفسه لإعادة انتخابه في انتخابات 2018 الاتحاد الدولي للشطرنج، ليخلفه نظيره "أركادي دفوركوفيتش" نائب رئيس الوزراء الروسي السابق، إليومينجينوف المدرج في قائمة وزارة الخزانة الأمريكية لما قبل العقوبات في 2018 كموظف حكومي روسي كبير.
وعلى الرغم من الجدل حول الحرب في أوكرانيا، أعيد انتخاب دفوركوفيتش لولاية ثانية في أغسطس/آب 2022 لرئاسة الاتحاد، متغلباً على الدنماركي بيتر هاين نيلسن، والأوكراني أندري باريشبوليتس.
قد يهمك أيضاً: جذوره هندية وانتقل إلى أوروبا عبر العرب.. ماذا تعرف عن الشطرنج وقوانينه؟