منذ أن بدأ لاعبو الخفة والسحرة في أداء حيلهم أمام الجمهور برزت عدّة حيلٍ خارقة، مثل هروب الساحر الشهير هاري هوديني من سترة مستقيمة، وتمكن الساحر ديفيد بلين من حبس أنفاسه تحت الماء لمدة 17 دقيقة، وإخفاء الساحر ديفيد كوبرفيلد تمثال الحرية بمدينة نيويورك على التلفزيون المباشر في عام 1983 أمام ملايين الأشخاص الذين يشاهدون من المنزل وعشرات الأشخاص شخصياً.
لم تكن هذه الحيل مختصرةً على خشبات المسارح وشاشات التلفزيون، فقد كان ما قام به الساحر البريطاني جاسبر ماسكلين في الحرب العالمية الثانية، من أعظم الحيل والخدع خلال تلك الحرب حين تمكن من خداع الألمان في شمال إفريقيا.
جاسبير ماسكلين.. ابن العائلة الساحرة
وُلد جاسبر ماسكلين في 29 سبتمبر/أيلول 1902، لعائلة تحترف ألعاب الخفة والسحر، فقد ابتكر جده جون نيفيل ماسكلين خدعة التحليق، بينما كان أبوه ساحراً أيضاً.
كان حفيد جون، جاسبر ماسكلين، أيضاً ساحراً مسرحياً، ولكنه اشتهر بعمله مع المخابرات العسكرية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية.
اتبع جاسبر ماسكلين خطى عائلته منذ سن مبكرة، فظهر لأوّل مرة على خشبة المسرح في سن التاسعة. ومنذ ذلك الوقت، تدرّب الشاب جاسبر ليصبح ساحراً مبهراً، وينجح في تحقيق مسيرة مثمرة، فقبل الحرب العالمية الثانية، كان ماسكلين يؤدي عروضه السحرية في لندن. وكان ابتلاعه حفنة من شفرات الحلاقة دون أي تأثر عليه، من أكثر العروض التي جعلت الحشود تتدفق لمشاهدة عروضه.
كان جاسبر أيضاً ماهراً في مجموعة من الحيل مثل حيل اليد، وحيل الورق والحبال، بالإضافة إلى "التخاطر" المفترض.
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939، أدى ذلك إلى انخفاض في مبيعات التذاكر؛ مما أثر في مداخيله، كما توقفت عروضه أمام الجمهور.
انضم بعدها جاسبر ماسكلين إلى الجيش البريطاني كحل لمشاكله المالية، وسرعان ما أدى الخدمة في مركز التمويه للتنمية والتدريب في قلعة فارنهام، وذلك في 14 أكتوبر/تشرين الأوّل 1940.
تم تكليف جاسبر ماسكلين بتطوير أساليب جديدة لتمويه القوات في الميدان، ومع ذلك، قوبلت أفكار ماسكلين في التمويه والخداع بازدراء.
استغل ماسكلين زيارة قام بها المفتش العام لمركز التدريب، أظهر ماسكلين جزءاً من مواهبه من خلال تمويه قبو مدفع رشاش. أعجب المفتش العام بقدرات ماسكلين في التمويه وقام بإرساله إلى مصر سنة 1941.
العصابة السحرية.. حين استنجد الجيش البريطاني بالساحر جاسبر ماسكلين
في يناير/كانون الثاني 1941، أنشأ الجنرال أرشيبالد ويفل، كتيبة للخداع والاستخبارات المضادة، وتم تعيين جاسبر ماسكلين قائداً لها.
قام جاسبر ماسكلين بجمع مجموعة من 14 مساعداً، من مختلف التخصصات، بما في ذلك مهندس معماري، مساعد ديكور، نجار، وكيميائي، ومهندس كهربائي، ورسام.
كما أجرى ماسكلين مقابلات مع أكثر من 400 عضو محتمل، لاكتشاف هل لدى أي منهم ميل لخرق القواعد. وفي الأخير وبعد تشكل كتيبته الجديدة، أطلق ماسكلين عليها لقب "العصابة السحرية".
قامت العصابة السحرية ببناء عدد من الأوهام الفعالة بشكل مثالي، استخدموا فيها القماش المطلي والخشب لجعل سيارات الجيب تبدو مثل الدبابات، مع مسارات دبابات وهمية، وجعل الدبابات تبدو مثل الشاحنات.
بنى ميناء وهمياً بالإسكندرية وأخفى قناة السويس
مع انتصاف الحرب العالمية الثانية، كانت منطقة الشرق الأوسط أحد الميادين التي تشهد صراعاً كبيراً في الحرب بين الحلفاء والألمان.
فعندما كان الجيش الألماني يستهدف نقاطاً مهمة في الشرق الأوسط بقاذفاته، استنفد الجيش البريطاني جميع خياراته، ولم يبقَ له سوى استدعاء العصابة السحرية لإنقاذ الموقف، وذلك حسب ما ورد في تقريرٍ لموقع wargaming.
كانت السفن البحرية البريطانية التي تبحر عبر المتوسط إلى مدينة الإسكندرية في مصر، تتعرض للقصف العنيف من قبل القوات الألمانية، كانت مهمة العصابة السحرية بسيطة: جعل ميناء الإسكندرية وقناة السويس يختفيان لحماية القوات البريطانية.
كانت هذه فرصة ماسكلين لتحقيق المجد ومن ورائها إثبات مواهبه وقدراته الخارقة، فبعد جولة في ميناء الإسكندرية حفظ من خلالها كل مواقع الميناء، قرر ماسكلين إنشاء ميناء جديد بالكامل مصنوع من الورق المقوى يشبه ميناء الإسكندرية، ووضعه للألمان بمثابة شرك يقعون فيه ويهدرون عليه ذخيرتهم.
تم توظيف مئات الجنود للمساعدة في تنفيذ الميناء الوهمي على بعد بضعة أميال من بحيرة مريوط، وبقدرات جاسبر الهندسية لم يحتج الجنود لبناء ميناء وهمي بالحجم الكامل، بل ساعدهم في بناء تصميم أصغر يظهر من منظور الطائرة وكأنه بالحجم الكامل.
كما قام ببناء نموذج بالحجم الطبيعي لأضواء الإسكندرية الليلية بمبانٍ وهمية ومنارة وبطاريات مضادة للطائرات.
لإخفاء قناة السويس، قام ببناء مخروط دوار من المرايا التي خلقت عجلة من الضوء الدوار بعرض تسعة أميال، بهدف إرباك طياري العدو حتى تسقط قنابلهم عند الهدف.
جعلت تلك الأضواء قناة السويس غير مرئية، مما أجبر القاذفات الألمانية على ضرب الهدف الخاطئ.
خدع ماسكلين الألمان في معركة العلمين
بحسب magic tricks، في عام 1942، كان ماسكلين على موعد مع مهمة خداعية أخرى لا تقل أهمية عن إخفائه لميناء الإسكندرية وقناة السويس، وهي عملية بيرترام المتزامنة مع معركة العلمين.
كانت مهمة ماسكلين هي جعل المارشال الألماني إروين روميل يعتقد أن الهجوم البريطاني سيكون من الجنوب، بينما كان الجنرال البريطاني برنارد مونتغمري يخطط للهجوم من الشمال.
قام ماسكلين بتجسيد خطته التمويهية على هذا الشكل، في الشمال، قام بإخفاء ألف دبابة لتبدو وكأنها شاحنات عادية، وفي الجنوب، قام بصناعة ألفي دبابة مزيفة بألعاب نارية، كما قام بإنشاء خط سكة حديد مزيف، ومحاكاة استعداد الجيوش للهجوم من خلال بثّ محادثات إذاعية مزيفة وأصوات إنشاءات وهمية، قام أيضاً ببناء خط أنابيب مياه مزيف.
قام ماسكلين أيضاً بإخفاء الدبابات البريطانية عن أعين الألمان؛ من خلال ابتكار غطاء مقوى يعكس الضوء، وصممه بمقاسات الدبابات، ثم غطى الدبابات بهذا الغطاء، فأصبحت تلك الدبابات تسير إلى مدينة العلمين حيث الجيش الألماني، دون أن يستطيع الجنود رؤيتها؛ وإذا استطاع واحد منهم رؤية الدبابات من أي زاوية، كان الجزء الثاني من خدعة جاسبر السحرية، أن يرى هذا الجندي تلك الدبابة وكأنها تسير في اتجاه عكسي لهم.
هذا الخداع والحيل التي قام بها جاسبر ماسكلين سمحت للقائد البريطاني المارشال برنارد مونتغمري بتحقيق أول انتصار كبير لبريطانيا في الحرب.
كتب رئيس الوزراء ونستون تشرشل أنه "قبل العلمين لم نحقق أي نصر. بعد العلمين، لم نشهد هزيمة. وبدون مساهمات ماسكلين الرائعة، ربما لم يتم الفوز بالمعركة والحرب نفسها".
غادر جاسبر ماسكلين الجيش البريطاني في عام 1946 برتبة رائد، بعد أن أمضى ما تبقى من الحرب كممثل. بعد ثلاث سنوات، أصدر كتاب "Magic: Top Secret"، الذي يصور نفسه من خلاله كأهم بطل مجهول في حملة شمال إفريقيا بأكملها.
وفقاً لـ all that is interesting، في عام 1950، انتقل جاسبر ماسكلين إلى إفريقيا، لمواصلة مسيرته المهنية، فعمل مديراً لمدرسة لتعليم سياقة السيارات، قبل وفاته عام 1973 في نيروبي، بكينيا.