تحتفل الجمهورية التركية في الـ6 من أكتوبر/تشرين الأول من كل عام بذكرى تحرير مدينة إسطنبول من قوات الحلفاء، وذلك في أعقاب احتلالها بسبب اتفاقيات هدنة مودروس، التي أدت إلى تقسيم الإمبراطورية العثمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
ما الذي أدى إلى انهيار الإمبراطورية العثمانيّة، وكيف احتلت الدول الغربية إسطنبول، وما أبرز أحداث تحرير المدينة؟
احتلال إسطنبول بعد الحرب العالمية الأولى
بما أنها عاصمة لإمبراطورية مهزومة، أصبحت إسطنبول تحت السيطرة الفعلية للقوات البريطانية فور انتهاء الحرب العالمية الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 1918، وتحول هذا إلى احتلال مباشر في 16 مارس/آذار 1920، ليكون ذلك أول احتلال للمدينة منذ فتح المدينة التي كانت تُدعى "القسطنطينية" عام 1453 على يد السلطان الشاب محمد الفاتح.
وفي أعقاب الحرب العظمى، إضافة إلى إسطنبول، احتلت قوات الحلفاء أجزاء مختلفة من معقل الأناضول للإمبراطورية العثمانية.
فيما احتلت القوات اليونانية منطقة بحر إيجه حول إزمير وبدأت في التحرك إلى الداخل في الأناضول.
في الوقت ذاته استولت القوات الإيطالية على أنطاليا وقطاعها، بينما حاول الفرنسيون شق طريقهم إلى منطقة كيليكيا.
مع انضمام بريطانيا إلى حلفائها في زمن الحرب، فرنسا وإيطاليا، أصبحت إسطنبول تحت سيطرة تحالف غير مستقر من القوات المتحالفة.
ألغى البريطانيون على الفور البرلمان العثماني وأرسلوا العناصر المؤيدة للمقاومة داخل البرلمان إلى المنفى في مالطا.
اعتبرت هذه الخطوة بمثابة الضربة النهائية للمقاومة العثمانية، بينما عاشت إسطنبول، العاصمة الإمبراطورية القديمة، في مأزق سياسي تحت الاحتلال الثلاثي.
احتلال إسطنبول جُزّئ إلى مرحلتين
بعد دخول قوات الحلفاء إسطنبول، أنشأوا فيها إدارة عسكرية في العام 1918، لكن الاحتلال بداية لم يكن فعلياً وهو السبب الذي جعل المؤرخين يقسمون هذا الاحتلال إلى المرحلتين.
المرحلة الأولى بدأت وفقاً لهدنة مودروس واستمرت حتى 16 مارس/آذار 1920.
أما المرحلة الثانية فكانت احتلالاً فعلياً مُددت خلاله فترة وجود قوات الحلفاء بموجب معاهدة سيفر التي سبقت معاهدة لوزان في 2 يوليو/تموز 1923، وفقاً لما ذكره موقع جامعة كامبريدج البريطانية University of Cambridge.
كيف شرعنت قوات الحلفاء وجودها في إسطنبول؟
شرعنت قوات الحلفاء وجودها في إسطنبول والمناطق الأخرى المتبقية من الدولة العثمانية من خلال توقيع هدنة مودروس في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918، على زمن السلطان محمد السادس، والتي أنهت العمليات القتالية في الشرق الأوسط بين الدولة العثمانية والحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى.
وقد وقعها وزير الشؤون البحرية العثماني رؤوف أورباي بك والأميرال البريطاني سومرست آرثر غوف، على متن سفينة في ميناء مودروس بجزيرة ليمنوس اليونانية.
وتشير هدنة مودروس إلى احتلال مضيقي البوسفور والدردنيل، كما استسلم العثمانيون في مواقعهم المتبقية خارج الأناضول، إضافة إلى إعطاء الحلفاء الحق في احتلال أي إقليم عثماني في حالة وجود تهديد للأمن.
بالمقابل تم تسريح الجيش العثماني، وأصبحت الموانئ والسكك الحديدية والنقاط الاستراتيجية الأخرى متاحة لاستخدام الحلفاء، إضافة إلى تراجع القوات العثمانية في القوقاز، إلى حدود ما قبل الحرب.
إضافة إلى بنود أخرى أهمها:
- استسلام القوات العثمانية في الولايات العربية (الحجاز واليمن وسوريا والعراق وطرابلس وبرقة).
- انسحاب القوات العثمانية من إيران ومن الأجزاء المسيطرة عليها فيما وراء القوقاز.
- إعادة أسرى الحرب من المواطنين التابعين لدول الحلفاء دون أية شروط، وإبقاء أسرى الحرب العثمانيين تحت تصرف الحلفاء.
بعد توقيع الاتفاقية لم تنتظر قوات الحلفاء كثيراً للمطالبة بالأراضي العثمانية، فدخل لواء فرنسي يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، أي بعد 13 يوماً فقط من توقيع هدنة مودروس.
ثم تبعته طليعة القوات البريطانية في اليوم التالي، وشكّلت إدارة عسكرية لها داخل إسطنبول.
احتلال اليونان لإزمير مهّد لتعبئة الحركة الوطنية التركية
بقرار من مؤتمر السلام الدولي المنعقد في باريس بعد الحرب العالمية الأولى، بدأ احتلال مدينة أزمير في 15 مارس/آذار 1919 من قبل مملكة اليونان.
وذلك بعد أن أوصى المؤتمر بالسماح لرئيس الوزراء اليوناني "فنيزيلوس" بأن يرسل القوات اليونانية للسيطرة على "سميرنا" في إزمير، وهي ميناء في الأناضول يسمح بوصول الحلفاء لاحتياطات النفط في الشرق الأوسط.
كما كان هدف دول الحلفاء الأساسي من إعطاء الإذن لمملكة اليونان باحتلال إزمير هو موازنة مكاسب الإيطاليين في الأراضي التابعة للأناضول، على الرغم من أن اتفاقية سانت جان دي مورين المنعقدة بين فرنسا وبريطانيا وايطاليا كانت تتعهد بإعطاء إزمير إلى الإيطاليين.
سمحت قوات الحلفاء لليونان بالسيطرة على الأراضي التي يسكنها المسيحيون الأرثوذوكس ورعايا الدولة العثمانية من القومية اليونانية.
وعلى الفور باشرت اليونان بإطلاق حملة استكشافية في الأناضول واحتلال إزمير، فنزل الجيش اليوناني بإزمير في 15 مايو/أيار 1919، بذريعة توحيد جميع الأراضي "الناطقة باليونانية".
عام 1919 كانت الحكومة العثمانية قد أرسلت، بضغط من الحلفاء، مصطفى كمال أتاتورك إلى مناطق "أرضروم وسيواس" لحفظ الأمن بعد ظهور حركات مقاومة مسلحة ضد القوات المحتلة الغربية.
لكن عندما وصل "مصطفى كمال أتاتورك" إلى ميناء سامسون في 19 مايو/أيار 1919، أعلن بدء النضال الوطني التركي في حرب التحرير والاستقلال، وأعلن رفضه الاستسلام للاحتلال اليوناني في إزمير، وبدأ بتنظيم المظاهرات احتجاجاً على الاحتلال وتوحيد القوى المناهضة له.
ومنذ ذلك الحين بدأ سلسلة من الاجتماعات التي كانت تهدف إلى تحديد الإمكانات العسكرية والاقتصادية ودراسة الأوضاع السياسية في البلاد، أفضت هذه الاجتماعات إلى إصدار "بيان أرضروم" الذي أكد فيه مصطفى كمال ورفاقه حق تقرير المصير والحفاظ على الحدود "التركية".
تسبب الاحتلال اليوناني لإزمير في تعبئة الحركة الوطنية التركية ونشوب حرب الاستقلال التركية عندما اتخذ أتاتورك من أنقرة مقراً له، وأعلن أن حكومة أنقرة هي الحكومة الشرعية، ووضع الأسس اللازمة لإقامة حكومة وبرلمان جديدين، ووجدت الحركة الوطنية التركية في أتاتورك الذي تميز خلال معركة جاليبولي قائداً لها، وانطلقت في مقاومة الاحتلال اليوناني ووصاية الحلفاء على إسطنبول والبلاد كلها.
معاهدة سيفر للقضاء على حكومة أنقرة
في عام 1920، عندما وقعت الحكومة العثمانية في إسطنبول معاهدة سيفر مع الحلفاء، كان ذلك بمثابة نهاية دولتهم وتفكيكها، إذ انتقلت سوريا إلى تحت سلطة الاحتلال الفرنسي، والعراق وفلسطين وشرق الأردن إلى بريطانيا، لكنّ كمال أتاتورك ورفاقه رفضوا هذه المعاهدة وجميع بنودها.
لم تستطع قوات أتاتورك تحقيق أي انتصارات تُذكر في تلك الفترة، بسبب تشتت المقاومة وعدم توافر الأسلحة الكافية.
في حين كانت القوات اليونانية تثبت أركانها في إزمير من خلال شن هجمات صيفية في صيف 1921، سيطرت على إزمير ومحيطها وجزر بحر إيجة، وتراقيا الشرقية.
تقدم الجيش اليوناني حتى نهر سكاريا، أي على بعد 80 كيلومتراً غرب حكومة الوفاق الوطني.
في 5 أغسطس/آب 1921، تمت ترقية مصطفى كمال إلى القائد العام للقوات من قبل حكومة الوفاق الوطني.
دارت معركة سكاريا التي تلت ذلك في الفترة من 23 أغسطس/آب إلى 13 سبتمبر/أيلول 1921، وانتهت بهزيمة اليونانيين.
بعد هذا الانتصار، في 19 سبتمبر/أيلول 1921، حصل مصطفى كمال على رتبة مريسل ولقب غازي من قبل الجمعية الوطنية الكبرى.
كان الحلفاء، متجاهلين مدى نجاحات كمال، يأملون فرض نسخة معدلة من معاهدة سيفر كتسوية سلمية على أنقرة، لكن الاقتراح قوبل بالرفض في أغسطس/آب 1922.
عضّة قرد لملك اليونان ساهمت في تحرير إسطنبول!
في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1920، تعرض ملك اليونان "ألكسندر الأول" للعض من قبل قرد في الحدائق الملكية، وتوفي في غضون أيام بسبب التهابات ومضاعفات تلك العضة.
بعد وفاة الملك، قرر رئيس الوزراء اليوناني "فنيزيلوس" إعلان الجمهورية اليونانية وإنهاء النظام الملكي، لتبدأ سلسلة اضطرابات داخلية سياسية في اليونان بين مؤيدي الملكية والجمهورية اليونانية الجديدة ساهمت بشكل أو بآخر في استعادة المقاومة التركية لأنفاسها وتنظيم صفوفها مجدداً.
خسر "فنيزيلوس" الانتخابات البرلمانية التي دعا لها، فقرر مغادرة البلاد، فتم تتويج "قسطنطين الأول" ملكاً لليونان، وحرصاً منه على ألا تتكرر حركة "فنيزيلوس" مرة أخرى، استبدل الملك كثيراً من الضباط المخضرمين في الحرب العالمية الأولى، وعيّن بُدلاء موالين له عديمي الخبرة إلى مناصب عليا.
وقام بتغيير قيادات القوات اليونانية في إزمير، وأيضاً استقال العديد من الضباط المتبقين الموالين لرئيس الوزراء السابق نتيجة تغيير القيادات، وسار الجيش اليوناني المضطرب باتجاه أنقرة، للقضاء على مركز المقاومة والحكومة التركية الجديدة.
حرب الاستقلال بقيادة أتاتورك
مع تسارع الأحداث وتخبط قيادات الجيش اليوناني، استغلت المقاومة التركية ذلك لتنظيم نفسها في جيش شبه نظامي لمهاجمة اليونان، فنشبت حرب الاستقلال التركية في الـ19 من مايو/أيار 1919 بين القوميين الأتراك ووكلاء قوات الحلفاء أي اليونان على الجبهة الغربية، وأرمينيا من الشرق، وفرنسا من الجنوب ومعهم المملكة المتحدة وإيطاليا في إسطنبول.
بحلول 18 سبتمبر/أيلول 1922، تم طرد جيوش الاحتلال، وبدأ النظام التركي المتمركز في أنقرة، والذي أعلن نفسه الحكومة الشرعية للبلاد في 23 أبريل/نيسان 1920، في إضفاء الطابع الرسمي على الانتقال القانوني من العثماني القديم إلى الجمهوري الجديد.
في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1922، ألغى البرلمان التركي في أنقرة السلطنة رسمياً، منهياً 623 عاماً من الحكم العثماني الملكي.
وفي 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1922، بدأت المفاوضات بشأن معاهدة سلام جديدة مع تركيا في مؤتمر لوزان حيث جرى توقيع المعاهدة في 24 يوليو/تموز 1923.
وبموجب شروط المعاهدة بدأت قوات الحلفاء في إخلاء إسطنبول يوم 23 أغسطس/آب 1923، فيما أعلن يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول 1923 "يوم تحرير إسطنبول" بعد مغادرة جميع القوات البريطانية والإيطالية والفرنسية، وذلك بعد 4 سنوات و10 أشهر و23 يوماً من الاحتلال.
أدت معاهدة لوزان إلى الاعتراف الدولي بسيادة "جمهورية تركيا" المشكّلة حديثاً كدولة خلف للإمبراطورية العثمانية، وتم إعلان الجمهورية رسمياً في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923، بأنقرة، العاصمة الجديدة للبلاد.
أتاتورك رئيساً للجمهورية التركية
أصبح مصطفى كمال أول رئيس للجمهورية التركية، وأدخل بعد ذلك العديد من الإصلاحات الجذرية بهدف تأسيس جمهورية علمانية جديدة من بقايا ماضيها العثماني.
منح البرلمان التركي مصطفى كمال اللقب الشرفي "أتاتورك" (أبو الأتراك) في عام 1934.
ووفقاً لما ذكره مركز تاريخ الحضارة الغربية، فإنه خلال السنوات العشر الأولى من النظام الجديد، شهدت البلاد عملية ثابتة للتغريب العلماني من خلال أتاتورك، والتي شملت توحيد التعليم؛ ووقف الألقاب الدينية وغيرها؛ وإغلاق المحاكم الإسلامية واستبدال القانون الإسلامي بقانون مدني علماني على غرار القانون السويسري وقانون العقوبات المصمم على غرار إيطاليا.
كما تم استبدال الأبجدية التركية العثمانية بالأبجدية التركية الجديدة المشتقة من الأبجدية اللاتينية؛ وأشياء أخرى عديدة.