شكّل سقوط باريس بيد القوات الألمانية، في 14 يونيو/حزيران عام 1940، ومن قبله الاجتياح الألماني السريع والمنظم، لكلٍّ من الدنمارك والنرويج والبلدان المنخفضة، ضربةً حاسمةً للحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، فقد وجدت بريطانيا نفسَها وحيدةً في مواجهة قوات المحور على الجبهة الغربية الأوروبية.
كان الأسطول البحري الحربي لفرنسا، القوة الوحيدة التي نجت من الاجتياح الألماني، كونه كان بعيداً ومفرقاً بين موانئ بورتسموث الإنجليزي، والمرسى الكبير بالجزائر، وميناء الإسكندرية بمصر، وبعض السفن الراسية في ميناء داكار بالسنغال، ولم تشارك هذه القوة البحرية في الدفاع عن باريس من الهجوم الكاسح لقوات الفيرماخت.
زاد ذاك من مخاوف البريطانيين، الذين خشوا أن تسقط رابع أكبر قوة بحرية في العالم آنذاك في يد قوات المحور، وهو ما من شأنه أن يهدد سيطرة القوات البحرية الملكية على الملاحة في المحيط الأطلسي.
ورغم كون فرنسا حليفاً وصديقاً لقوات التحالف، لم يتوانَ رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل أن يضحي بقوات حليفه الفرنسي، وذلك عبر "عملية المنجنيق".
بريطانيا تخشى أن يسقط الأسطول البحري الفرنسي بيد قوات المحور
بموجب شروط الهدنة بين فرنسا وألمانيا، والموقّعة في مدينة كومبيين الفرنسية، في 22 يونيو/حزيران 1940، والتي أعقبت سقوط باريس في يد قوات هتلر.
كان على الفرنسيين تسليم جميع أسلحتهم وذخائرهم للقوات الألمانية، وأن تُبحر سفن البحرية الفرنسية إلى موانئها الأصلية في فرنسا، حيث كان من المقرر إخراج القوات البحرية الفرنسية عن الخدمة.
وأعلنت ألمانيا النازية أنّها لن تقوم بأي محاولات للسيطرة على الأسطول الفرنسي، أثناء الالتزام بشروط الهدنة بحسب مدونة bmmhs.
رغم ذلك، كانت بريطانيا قلقة من أنّ وضع الأسطول الفرنسي في مينائه الأصلي لن يضمن أن يتم تجميده بشكل دائم، ويمكن في أية لحظة أن يتم الاستيلاء عليه بسهولة من قِبل قوات المحور وإعادة تفعيله من جديد، ما يشكل تهديداً على هيمنة البحرية الملكية البريطانية على البحر الأبيض المتوسط.
لذلك اقترحت الحكومة البريطانية على نظيرتها الفرنسية، أن تبحر السفن الفرنسية إلى الموانئ البريطانية وتنضم بعدها إلى الحلفاء، أو تعطيل سفنهم بالكامل، ما قد يؤدي إلى إغراقها.
في مفاوضاتها الأولية، هددت بريطانيا الفرنسيين بأنهم إذا كانوا غير مستعدين لتلبية أي من المطالب التي اقترحوها، فسيتم اتخاذ إجراء لإخراج الأسطول من العمل من خلال تدميره بالنيران أو الهدم.
وبغضّ النظر عن القطع البحرية الفرنسية التي كانت راسيةً في فرنسا، فقد كان قطاع كبيرٌ من السفن الفرنسية يرسو أيضاً في كلٍّ من موانئ بليموث وبورتسموث والإسكندرية ومارتينيك والدار البيضاء وداكار، أما الجزء الكبير والفعال فكان راسياً في ميناء المرسى الكبير بالجزائر.
كان رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، يخشى أن تقع البحرية الفرنسية، ولا سيما بوارجها الحديثة ستراسبورغ، ودنكرك، ريتشيليو، وجان بارت، في أيدي قوات المحور، لاسيما إيطاليا، والتي كانت قد انضمت إلى الحرب، في 10 يونيو/حزيران 1940، وكانت تسعى إلى ترجيح ميزان القوة البحرية في البحر الأبيض المتوسط بشكل كبير من الحلفاء إلى المحور.
في 13 يونيو/حزيران، قام تشرشل برحلته الأخيرة اليائسة إلى فرنسا للقاء الحكومة الفرنسية، وهناك اقترب من قائد البحرية الفرنسية الأميرال جان فرانسوا دارلان، وقال له: "يجب ألَّا تدعهم يحصلون على الأسطول الفرنسي".
كان دارلان حازماً بنفس القدر، ووعد رئيس الوزراء البريطاني بأن البحرية الفرنسية لن تستسلم أبداً للسلطة الألمانية.
فرنسا تحوّل أسطولها البحري لورقة مساومة بين الألمان والبريطانيين
كانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت في حالة من الفوضى، ولم تكن في وضع يمكِّنها من اتخاذ قرارات مهمة، إلى جانب عدم وجود ثقة كبيرة بين الفرنسيين والبريطانيين، فلم ينسَ الفرنسيون موقعتي ترافالغار وواترلو، اللتين هُزمت فيهما فرنسا أمام الأسطول الحربي البريطاني.
كان الأدميرال الفرنسي فرانسوا دارلان يرى أن الأمر كان مجرد مسألة وقت، قبل أن تلحق قوات المحور الهزيمة ببريطانيا، وبالتالي فإن لقدرة فرنسا على استخدام أسطولها البحري ورقة مساومة في الحصول على شروط أكثر ملاءمة من الهدنة، ستكون خطوة إيجابية للفرنسيين.
كان هذا هو الجزء الوحيد من القوات المسلحة الفرنسية الذي لم يُهزم، ولكنه أيضاً لم يكن له أي دور في مواجهة الغزو الألماني لفرنسا.
من جهتها، أرادت ألمانيا التأكد من أن الأسطول الفرنسي لن ينضم إلى البريطانيين، لأنهم إذا ما إذا استطاعوا الاستيلاء على السفن الفرنسية سليمة، فسيكوّنون ثروة قيّمة في تعزيز القوات البحرية الألمانية في وقت ما في المستقبل.
كان البريطانيون قلقين من أن الوقت كان قصيراً، مع تضاعف احتمال تنازل الحكومة الفرنسية عن شروط الهدنة، والسماح لقوى المحور بالاستيلاء على الأسطول الفرنسي.
وبالتالي تم تجميع قوة بحرية ملكية بسرعة في جبل طارق، وعزمت بريطانيا على المرور إلى خطتها الثانية، بتدمير الأسطول الفرنسي حالة عدم استجابته لمطالبها.
كتب تشرشل عن هذا القرار: "كان هذا القرار الأكثر كراهية، وهو أكثر القرارات غير الطبيعية والأكثر إيلاماً التي شعرت بها على الإطلاق".
معركة المرسى الكبير.. حين دمرت بريطانيا الأسطول الفرنسي بالمنجنيق
كانت عملية "المنجنيق" هي الاسم الرمزي للإجراءات البريطانية المطلوبة، من أجل منع السفن الحربية الفرنسية المتمركزة في المرسى الكبير بوهران الجزائرية، من الوقوع في أيدي قوات المحور، واختيرت كلمة "سندان"، كلمة سرٍّ لإغراق الأسطول الفرنسي إذا لم تنجح جميع الخيارات الأخرى.
بحسب warfare history network، كانت عملية المنجنيق سريةً، والمفاجأة فيها ضرورية لنجاح خطة تشرشل، فقد كان يتعين القيام بالكثير من الخطوات المختلفة في قارتين، وفي اليوم نفسه.
فقد شكّل تشرشل قوةً بحرية في جبل طارق، الخاضع للسيادة البريطانية، تحت قيادة السير جيمس سومرفيل، كانت هذه القوة التي سميت باسم "Force H"، مشكّلةً من طراد "HMS Hood"، إلى جانب البوارج "HMS Valiant"، و"HMS Resolution"، وحاملة الطائرات "HMS Ark Royal"، و11 مدمرة من الأسطول المدمر الثامن والثالث عشر البريطاني.
موازاة مع ذلك، تم تكليف الجنرال هولاند بقيادة المدمرة "HMS Foxhound"، والسفر إلى الجزائر، من أجل التفاوض شخصياً مع القائد الفرنسي الأميرال مارسيل برونو جينسول، في المرسى الكبير، من أجل قبول المطالب البريطانية.
كان اختيار هولاند لهذه المهمة كونه عمل سابقاً ملحقاً بحرياً في باريس، وكان يتحدث الفرنسية بطلاقة.
في البداية رفض الأميرال مارسيل برونو جينسول التفاوض مع هولاند، وتحججّ بتناقض الرتبة معه، لكن بعد أن أسقطت طائرات "HMS Ark Royal" البريطانية ألغاماً مغناطيسية على ميناء المرسى الكبير، ما أدى إلى إغلاق المرسى أمام الأسطول الفرنسي، قَبِل الأميرال الفرنسي التفاوض، لكن لم يتم الاتفاق على حل وسط في النهاية.
بعد فشل التفاوض، وفي الثالث من يوليو/تموز 1940، فتح سرب Force H النار على الأسطول الفرنسي في ميناء المرسى الكبير، المكون من طرادات القتال "دونكيرك"، و"ستراسبورغ"، وبوارج "بروفانس"، و"بريتاني"، وحاملة الطائرات المائية "القائد تستي"، والمدمرات "موغادور"، و"فولتا"، و"الرهيب"، و"حيوان الوشق"، و"تيغري" و"كيرسينت".
واستغرقت العملية عشر دقائق فقط، أصيبت خلالها المدمرة "دونكيرك" بعدد من القذائف، التي ألحقت بها أضراراً بالغة، لدرجة أنها اضطرت إلى الهبوط على الجانب الغربي من الميناء لمنعها من الغرق.
كما أصيبت بريتاني وغرقت في غضون ثماني دقائق، كما أصيبت البارجة "بروفانس"، وكان لا بد من إبحارها مع المدمرة "موغادور"، ولم تنجُ سوى المدمرة "ستراسبورغ"، التي نجحت في الهرب.
تشير التقديرات إلى أن عملية "المنجنيق" تسببت في مقتل 1300 بحار فرنسي حسب موقع pbs.
لم تتوقف عند المرسى الكبير!
أما القطع البحرية الفرنسية الأخرى فقد نجحت بريطانيا في الاستيلاء عليها، فقد صعد بحارة البحرية الملكية البريطانية إلى السفن الفرنسية الراسية في ميناء بليموث وبورتسموث، وسيطروا على الغواصة "سوركوف"، وبوارج "باريس"، و"كوبيرت"، والمدمرتين "Triomphant"، و"Léopard"، وثمانية قوارب طوربيد، وعدد من السفن الأصغر.
ووجدت السفينة الحربية الفرنسية "لورين"، ومعها أربعة طرادات نفسها محاصرة في ميناء الإسكندرية بمصر، وفي 7 يوليو/تموز 1940، امتثلت القطع الفرنسية للمطالب البريطانية، بضرورة سحب السفن من الخدمة، وبقيت في المرفأ حتى 17 مايو/أيار 1943، قبل أن يُعاد تركيبها واستخدامها من قِبل الفرنسيين.
وفي الثامن من يوليو/تموز عام 1940، هاجمت قوارب الطوربيد البريطانية السفينة الحربية الفرنسية "جان بارت" في ميناء الدار البيضاء المغربي، وتسببت في بعض الأضرار.
وفي 6 سبتمبر/أيلول من العام ذاته، هاجمت البحرية الملكية المتمركزة بجبل طارق السفينة الحربية الفرنسية ريشيليو، التي كانت راسيةً في ميناء داكار السنغالي.