في خضمّ المعارك والحروب، تزداد أهمية توصيل وتسلم الرسائل في أسرع وقت، وتزداد معها أهمية تشفير هذه الرسائل كي لا يعرف الخصم شيئاً عن الخطط العسكرية المراد تطبيقها في المعارك.
خلال الحرب العالمية الثانية، نجحت البحرية الأمريكية في ابتكار وسيلة مشفّرة للتواصل، لم تستطع أي جهة استخباراتية معادية فكّ شيفرتها، كانت تلك الشيفرة في الحقيقة عبارة عن لغة من لغات السكان الأصليين لأمريكا وهي لغة النافاهو التي لا تملك أبجدية ويصعب فهمها.
في الحرب العالمية الأولى استعانت بلغة قبيلة تشوكتو الأصلية
كانت الحرب العالمية الأولى أول محطة اُستعملت فيها لغات الشعوب الأصلية للقارة الأمريكية لتشفير الرسائل والمعلومات في المعارك، بحسب ما ورد في تقرير لـ BBC.
ففي خريف عام 1918، شنّ الجيش الأمريكي هجوم "ميوز أرغون" ضدّ الألمان، وكان هذا الهجوم من أكبر المهمات المسندة للقوات الأمريكية في الحرب العالمية الأولى، لكن الاتصالات في الميدان كانت تتعرض للاختراق.
فقد نجح الألمان في مراقبة خطوط الهواتف، كما نجحوا في فك الشفرات وإلقاء القبض على الجنود الذين يرسلون لتسليم الرسائل مباشرة.
وللخروج من مأزق الاختراق الألماني وفكّه لرموز التواصل الأمريكي على الميدان، جاء الحل عن طريق الصدفة، فقد استمع نقيب في الجيش الأمريكي بالصدفة إلى حوارٍ كان يدور بين اثنين من جنود قبيلة تشوكتو الأصلية من فوج المشاة 142.
استخدم الجيش الأمريكي لغة قبيلة تشوكتو الأصلية في اتصالاته الهاتفية لنقل واستقبال الرسائل المهمة في المعركة، وذلك عبر تشكيل كتيبة للاتصالات الهاتفية من ثمانية رجالٍ من قبيلة تشوكتو.
وبالرغم من مواصلة الألمان التنصت على المكالمات الهاتفية للجنود الأمريكيين، لكنهم لم يستطيعوا فهم مضمون تلك الرسائل.
لم تكن لغة تشوكتو تتضمن المصطلحات العسكرية الحديثة، ولذا اضطرّ الأمريكيون إلى استخدام شفرة داخل شفرة، وذلك بإضافة كلمات مشفرة إلى لغة تشوكتو لها دلالة عسكرية، فقد استخدمت "بندقية صغيرة تطلق سريعاً" في إشارة للبندقية الآلية، في حين كان يشار لكلمة "كتائب" إلى"عدد من حبات الذرة".
ولأن ابتكار هذه الطريقة المعقدة في التواصل تزامن مع نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يتم تطوير هذه الشيفرة واستعمالها مجدداً من طرف الجيش الأمريكي.
لغة النافاهو تنقذ الأمريكيين في الحرب العالمية الثانية
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، أرسل الألمان واليابانيون المئات من جنودهم إلى أمريكا لتعلم اللغات المحلية للسكان الأصليين وثقافاتهم، وبذلك كان من الصعب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تكرر تجربة معركة "ميوز أرغون" في الحرب العالمية الثانية.
ومنذ سنة 1940، شرع الجيش الأمريكي في تجنيد أفرادٍ يتحدثون لغات السكان الأصليين للقارة الأمريكية، لكن دون أن يتوصل إلى شيفرة شبيهة بلغة قبيلة تشوكتو.
في عام 1942، قرأ النقيب في البحرية الأمريكية فيليب جونستون مقالاً في إحدى الصحف الأمريكية عن فرقة مدرعة في ولاية لويزيانا، كانت تحاول التوصل إلى شيفرة باستخدام لغات الأمريكيين الأصليين.
فجاء جونستون، وهو ابن أحد المبشرين الذين نشأوا في قبائل نافاهو الأصلية وتعلّم لغته، بفكرة برنامج شيفرة نافاهو، بحكم أنها لغة يصعب كسر شيفراتها ولا يستطيع تعلّمها إلا بالمكوث شهوراً في قبائل نافاهو.
جادل جونستون قائده الذي لم يتقبل فكرته في البداية، بأن لغة سكان نافاهو فريدة للغاية وغير مكتوبة، ناهيك عن استقرار قبائل نافاهو في مناطق معزولة، تجعلهم مناسبين تماماً لتحويل لغتهم إلى شيفرة سرية للاتصالات في الحرب.
شيفرة النافاهو.. شيفرة داخل شيفرة
استطاع جونستون إقناع قيادته بفكرة تطوير شيفرة من لغة النافاهو، وشرع في إنجاز برنامجه، من خلال تجنيد 29 مجنداً من مشاة البحرية من قبيلة نافاهو.
بعد الانتهاء من التدريب الأساسي، عمل فريق جونستون المكوّن من أفراد قبيلة نافاهو على تطوير رمز معقد من نوعين يتكون من أكثر من 211 كلمة. على مدار الحرب، تم توسيع الكود ليشمل ما مجموعه 411 كلمة.
بحسب ما ورد في تقرير خلال مرحلة الاختبار الأولية لشيفرة نافاهو، فوجئ مسؤولو البحرية الأمريكية بمدى السرعة التي يمكن أن يقوم بها مشاة البحرية بنقل واستقبال وفك تشفير الرسائل باستعمال الشيفرة الجديدة.
في المرحلة الثانية، تمّ تجنيد 200 رجل آخر من قبيلة نافاهو الأصلية، وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، كان ما يقرب من 400 من رجال نافاهو يعملون كمتحدثي الشيفرات.
كان المتحدثون بالشيفرة يرسلون اتصالات عبر الهاتف واللاسلكي بلغتهم الأم، ويستبدلون المصطلحات العسكرية التي لم تكن جزءاً من لغتهم بكلمات من لغة نافاهو.
فعلى سبيل المثال، كان المتحدثون بشيفرة النافاهو يقومون بتغيير كلمة "قنبلة" إلى كلمة "بطاطس"، " وكلمة "السلاحف" إلى "الدبابة "، وقاذفة القنابل كانت "صقر دجاج"، الشارع الأسود بمعنى كتيبة، أمّا الطائرات فكانت في شيفرة النافاهو تسمى بأسماء الطيور.
كما استعمل المتحدثون الأسماك للدلالة على الغواصات، وأسماء الطيور للدلالة على الطائرات، وهكذا توصلوا إلى قاموسٍ من المصطلحات العسكرية يصل إلى أزيد من 400 كلمة، كما استخدموا أيضاً مصطلحات بديلة للأحرف الأبجدية الإنجليزية لتهجئة الكلمات التي لم تكن جزءاً من الشيفرة.
استطاع أفراد قبيلة نافاهو أن يكونوا أسرع في ترجمة رسائل الشيفرة، فقد كانوا يحتاجون إلى 20 ثانية فقط لترجمة رسالة من 3 أسطر باللغة الإنجليزية إلى شيفرة النافاهو والعكس، في وقت كانت الشيفرات الأخرى المستعملة في الحرب بحاجة إلى نصف ساعة لترجمة 3 أسطر باللغة الإنجليزية بحسب cia.
أدى ذلك الأمر إلى اعتماد البحرية الأمريكية على هذه الشيفرة في مختلف معاركها خلال الحرب العالمية الثانية، أبرز تلك المعارك كانت معركة إيو جيما، غوادالكنال، تاراوا، سايبان، وأوكيناوا، وهي المعارك التي لعبت فيها الشيفرة دوراً كبيراً في انتصار الحلفاء.
بقيت شيفرة النافاهو سرية لعقود
بقيت شيفرة سرية حتى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد ظلّت سراً عسكرياً لعقود بعد الحرب، حتى سنة 1968، عندما رفع الجيش الأمريكي السرية عن شيفرة نافاهو، ولم يعترف بفضل شيفرة نافاهو وأفرادها سوى عام 1982، حين منح الرئيس الأمريكي رونالد ريغان شهادة تقدير لمتحدثي الشيفرات وأعلن 14 أغسطس/آب "يوم متحدثي الشيفرات في نافاهو".
في عام 2001، منح الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، الميدالية الذهبية للكونغرس إلى 29 متحدثاً بلغة نافاهو الأصلية كانوا في الأصل الجنود المؤسسين لهذه الشيفرة السرية بحسب موقع uso.