كتب التاريخ الإسلامي مليئة بقصص مئاتٍ من النساء المسلمات اللاتي برزن كقائدات في المجالات السياسية؛ أو نابغاتٍ في الشعر والأدب والعلوم، ومن هؤلاء الأميرة "أم ملال"، السيدة التي كانت أوّل امرأة تحكم بلاد المغرب الإسلامي بعد وصايتها على ابن أخيها المعز بن باديس، كما كان لها دور في تحويل مذهب المغرب الإسلامي من التشيّع إلى مذهب أهل السنة.
أم ملال.. السيدة الصنهاجية التي قامت بتربية باديس وابنه
وُلدت الأميرة السيدة، الملقبة بـ"أم ملال"، واسمها الكامل السيدة بنت المنصور بن يوسف الصنهاجي، بقصر المنصورية، الذي يقع على بعد ميل واحدٍ من مدينة القيروان، وهو القصر الذي شيّده والدها، ثاني أمير زيري للدولة الزيرية الصنهاجية، سنة 986م.
لم تسهب المصادر التاريخية في ذكر تفاصيل صبى أم ملال، سوى أنّها عاشت في كنف والدها المنصور وولي عهده باديس، اللذين خصّاها برعاية واهتمام كبيرين.
حين توفي والدها المنصور سنة 996م، أصبح أخوها باديس أميراً على الدولة الصنهاجية، حينها أصبحت أم ملال أكثر قرباً من شؤون الحكم، بحكم أنّ باديس كان صغيراً في السن من جهة، ويحبُّ أخته الأميرة ويسمع لرأيها من جهة أخرى، فقد كانت أم ملال مربيةً ثانية لباديس.
وبوفاة المنصور واعتلاء ابنه باديس الحكم، واجهت الدولة الصنهاجية أكبر عقبة في تاريخها، وذلك بعد نشوب خلاف في الحكم بين باديس بن منصور، وابن عمه حماد بن بلكين، بحسب ما نقله ابن عذارى المراكشي في كتابه "البيان المغرب".
كان باديس يبلغ من العمر 12 سنة فقط حين تمت توليته على العرش، وهو ما جعل أبناء عمومته يعارضون توليه الحكم.
أقنعت أم ملال أخاها بتولية عمّه حماد بن بلكين على ولاية أشير، والذي أسّس الدولة الحمادية وانفرد بحكم المغرب الأوسط، وبقي المغرب الأدنى تحت حكم باديس.
كانت أم ملال تشارك أخاها في تدبير شؤون الحكم، وتقاسمه معالجة سياسة الملك وإحكام الصلات الحسنة مع الدول المجاورة، خصوصاً بعد انشغال باديس في قمع معارضيه والدفاع عن مملكته، فأوكل لأم ملال إدارة الأمور الداخلية للدولة الصنهاجية، فيما تكلف هو بإدارة الحروب والجيش، وذلك بحسب ما ورد في كتاب "شهيرات تونس".
ولم تكن أم ملال، المرأة الوحيدة المؤثرة في حكم ولاية باديس للدولة الصنهاجية، فقد شاركتها الجارية فاطمة الحاضنة التي كانت مربية باديس وحاضنته، بحسب ما ورد في كتاب "الدولة الصنهاجية".
وفي سنة 1008م، ولد لباديس ابنه المعزّ، فتولت أم ملال تربيته وحضانته، واختارت له أبا الحسن علي بن أبي الرجال، وهو أحد علماء الفلك لتربيته وتعليمه.
في سنة 1016م، خرج باديس لمحاربة عمه حماد إثر قمعه لقبيلة زناتة الثائرة، وترك لأخته أم ملال تدبير شؤون الدولة في غيابه، ولكنه توفي فجأة في السنة نفسها في مدينة المحمدية عن عمر ناهز 33 سنة فقط.
حكمت أم ملال المغرب الإسلامي باسم المعز بن باديس
بعد وفاة باديس، تمت مبايعة ابنه الأمير المعز بن باديس على إمارة الدولة الصنهاجية، كان المعزّ يومها يبلغ التاسعة من عمره، ولصغر سنه، وخشية أن يحدث انقسام جديد في الدولة الصنهاجية، أجمع أعيان ووجهاء الدولة الصنهاجية على أن تكون عمته أم ملال وصية عليه إلى أن يبلغ سن الرشد.
خلال تلك الفترة، عملت أم ملال على تهيئة المعز للحكم، وتعليمه شؤون الحكم، وأبرز أعمالها تنشئة المعز على حب المذهب المالكي، وطلبها تحويل مذهب الدولة الصنهاجية من المذهب الشيعي إلى المذهب السني المالكي، فقد كانت الدولة الصنهاجية تابعةً للدولة الفاطمية بالقاهرة خلال القرن العاشر الميلادي، بحسب ما ورد في كتاب "الحياة الثقافية في المغرب الأدنى".
وبحسب المؤرخ الهادي روجي إدريس في كتابه "الدولة الصنهاجية"، أوقفت أم ملال على الجامع الكبير بالقيروان مصحفاً غاية في الجمال، مازال قسم منه موجوداً حتى الآن وموزعاً على عدة متاحف عبر العالم.
في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1023م، تُوفيت أم ملال بعد مرضٍ ألمّ بها، ودفنت أولاً في المهدية، وبعد سنة نقل جثمانها المعز إلى مقبرة صنهاجة بالمنستير، وهي المقبرة التي سميت باسمها ولا تزال حتى الآن.