خلال فترة الحكم العثماني لإيالة الجزائر، برز الأسطول العثماني الجزائري بوصفه واحداً من القوى المهيمنة على الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، وذلك من خلال ممارسته للجهاد البحري وفرض الرسوم على السفن الأوروبية المارة عبر المتوسط.
هذه الصورة التي تشكلت للأسطول الجزائري، يعود سببها إلى عشرات القادة والريّاس، الذين تعاقبوا على قيادة هذا الاسطول، ولعلّ أبرز هؤلاء، الرايس حميدو بن علي، الذي يعتبر آخر أقوى القادة البحريين للأسطول الجزائري قبل انهياره.
الرايس حميدو.. الخياط الذي تحوّل إلى قائد أسطول بحري
في سنة 1770م، وتحديداً في حي القصبة الشعبي بمدينة الجزائر، وُلد محمد بن علي الملقب بـ"الرايس حميدو" لأسرة جزائرية.
كان والده يشتغل خياطاً، وهي المهنة نفسها التي فتح عليها الطفل محمد بن علي عينيه، فقد درّبه والده عليّ طيلة فترة طفولته على هذه الحرفة، أملاً أن يكون أمهر خياط بالجزائر.
كان طريق حميدو -وهو اسم يطلق للتدليل على من يسمى باسم محمد- لتعلم حرفة الخياطة في ورشة أبيه، يمرُّ عبر ميناء الجزائر، وهناك كان يرى الرايس حميدو كل صباح، البحارة العثمانيين والجزائريين وهم يقتسمون غنائم الجهاد البحري، فأعجب بهم، وصار يهرب من ورشة الخياطة من اجل استقبال البحارة والاستماع إلى قصصهم ومغامراتهم في البحار.
وعندما اكتشف أبوه غيابه عن تعلّم الخياطة، برّر له حميدو ذلك بوعده بالقول: "سأكون رئيساً للبحر عندما أكبر"، بحسب ما نقله المؤرخ الجزائري علي تابليت في كتابه "الرايس حميدو.. أميرال البحرية الجزائرية".
ولم يمضِ وقت طويل، حتى وجد نفسه يشتغل بحاراً في إحدى سفن البحارة الجزائريين، وفي وقت وجيز، صار حميدو قائداً على السفينة التي كان يشتغل بها، والتي أطلق عليها اسم "مسعودة"؛ قبل أن يتوجه بسفينته إلى أقصى الغرب الجزائري حيث تكثر التحرشات الأوروبية بالسواحل الجزائرية.
أمريكا تدفع الضرائب لوقف أنشطة الجهاد البحري
أولى معارك الرايس حميدو الكبيرة، كانت سنة 1793م، حين أغار على أسطول من السفن الأمريكية، واستطاع أن يغنم سفينة أمريكية كبيرة، ويأسرعدداً كبيراً من البحارة الأمريكيين.
تحركاته في الحوض الغربي للمتوسط أجبرت الولايات المتحدة الأمريكية على توقيع معاهدة مع الجزائر سنة 1795م، جرى من خلالها دفع أمريكا مبلغ 642 ألفاً و500 دولار، بالإضافة إلى ضريبة سنوية تدفع للجزائر على شكل معدات بحرية، من أجل أن يكفّ الرايس حميدو عن استهداف السفن الأمريكية.
كان خطر نشاطات حميدو البحرية على السفن الأمريكية كبيراً، لدرجة أنّ الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون، أمر بعد تلك المعاهدة بسنة واحدة فقط، بتأسيس أسطول عسكري للولايات المتحدة الأمريكية، تكون مهمته الأساسية وقف قرصنة الرايس حميدو و"الدول البربرية في المتوسط".
وبعد استهدافه السفن الأمريكية، استولى حميدو على إحدى سفن الأسطول البرتغالي، وأطلق عليها اسم "البرتغالية".
وفي فترة وجوده بسواحل وهران، قام حميدو وبحارته بمساعدة الأسطول الجزائري في عمليات الجهاد البحري، وهي المساعدة التي منحه، على إثرها، الحاكم العثماني لوهران محمد الكبير، عدداً من القطع البحرية ليدعّم بها أسطوله.
في سنة 1795م، تمت ترقية حميدو إلى ضابط في البحرية، وذلك بعد أن استدعاه الباشا حسن الذي كان يحكم الجزائر -حينها-، وأوكل إليه قيادة مجموعة من القطع البحرية التابعة للأسطول الجزائري، سرعان ما تحطمت هذه القطع بسبب عاصفة بحرية.
كادت هذه الحادثة أن تعصف بمسيرته، وذلك بعد أن اعتقل بتهمة الإهمال، إلّا أنّ حميدو استطاع ان يقنع الباشا حسن ببراءته من تحطيم أسطوله الصغير، وأنّ السبب في ذلك كانت عاصفة بحرية.
عفا الباشا حسن عنه، وقام بتعيينه قائداً على سفينة "غراب" التي كانت أكبر سفن الأسطول الجزائري، والتي غنمها الرايس حميدو من بحارة جنوة.
أعاد للأسطول الجزائري هيبته بعد عقود من الانكماش
تزامن صعوده لقيادة الأسطول الجزائري، مع قيام الثورة الفرنسية ودخول أوروبا في فوضى عارمة، ليستغل حميدو ذلك لإعادة الأسطول الجزائري لهيبته، بحسب ما ورد في كتاب "الجزائر في عهد رياس البحر"، للمؤرخ الأمريكي وليام سبنسر.
كان النشاط البحري للأسطول الجزائري خلال الفترة الممتدة من أواخر القرن الـ17م وطوال القرن الـ18م، يتميّز بالانكماش، فقد تراجعت حينها مكانة البحرية، ونقص عدد سفن الأسطول الجزائري في بعض الأحيان إلى أقل من 10 سفن.
أمام هذا الوضع، حاول حميدو إعادة بعث الروح في الأسطول الجزائري من خلال تنظيم عمليات الجهاد البحري، بحسب ما ورد في ورقة بحثية بعنوان "إيالة الجزائر العثمانية.. بين موارد البحر والضرائب"، للدكتور توفيق دحماني، أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر.
ومما ساعد الرايس حميدو في إعادة المجد للأسطول الجزائري وعمليات الجهاد البحري، العدد الكبير من البحارة الجزائريين الذي بلغ 130 بحاراً، الأمر الذي ساعد الرايس حميدو وبحارته في فرض سيطرتهم على الحوض الغربي للبحر المتوسط.
بلغت أعداد السفن التي تم اغتنامها في فترة تولي الرايس حميدو قيادة الأسطول الجزائري خلال 15 سنة، حوالي 113 سفينة، بينما تكدّس آلاف الأسرى الأوربيين في السجون الجزائرية.
أضخم سفينة قام الرايس حميدو بالاستيلاء عليها هي سفينة حربية برتغالية، مسلحة بـ44 مدفعاً، وبها 282 من البحارة الأوروبيين الذين تحولوا لأسرى.
كان الأسطول الجزائري في عهد الرايس حميدو يحتوي على 3 سفن ضخمة يقودها الرايس حميدو هي "رعب البحار"، و"مفتاح الجهاد"، و"المحروسة".
دفن في البحر.. أمريكا تقتل الرايس حميدو
في سنة 1812م، قررت الولايات المتحدة الأمريكية التوقف عن دفع الرسوم السنوية للجزائر، فأعلنت الأخيرة الحرب عليها.
توعد الرايس حميدو السفن الأمريكية العابرة للمتوسط، فقامت أمريكا بإرسال أسطول عسكري يتكون من 9 سفن حربية، بقيادة الأميرال ستيفن ديكاتور، من أجل حماية السفن التجارية الأمريكية بالمتوسط.
وفي سنة 1815م، وبينما كان الرايس حميدو يقود سفينته "البرتغالية" وحيدة في عرض المتوسط، انقضّ ديكاتور على الرايس حميدو وقام بمحاصرة سفينته من كل جهة.
يذكر المؤرخ علي تابليت تفاصيل المعركة الأخيرة للرايس حميدو، بالقول إنّ حميدو اعتقد أنّ الأسطول الذي اقترب من سفينته، كان أسطولاً إسبانياً، قبل أن يكتشف متأخراً بأنه أسطول أمريكي معادٍ.
وقبل أن تندلع المعركة، أوصى الرايس حميدو مساعده الوصية الأخيرة قائلاً: "عندما أكون ميتاً، ألقِ بي في البحر، لا أريد أن يحصل الكفار على جثتي".
دقائق بعدها، نشبت معركة بحرية غير متكافئة بين الرايس حميدو والأسطول الأمريكي، أدت إلى استشهاد الرايس حميدو بعد أن أصابته قذيفة مدفعية إصابة مباشرة، ودُفن كما أوصى بالبحر، لتنتهي قصة واحد من أبرز قادة أسطول إيالة الجزائر العثمانية.