عند وفاة الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، انتشر الحزن في أرجاء المملكة المتحدة، وهذا أمر طبيعي، فسواء اتفقنا مع سياسات الملكة أم لا، يجد الكثير من البريطانيين أنها ساهمت في إرساء الملكية الدستورية، التي حافظت على وحدة ورخاء بلادهم.. لكن الغريب أنه وبالتزامن مع موجات الحزن في الغرب آنذاك، كثر الناحبون من العرب أيضاً، وذلك على الرغم من التاريخ الاستعماري الطويل لبريطانيا في معظم الدول العربية.. ولعل الشخص الأكثر مبالغة في إظهار حزنه على رحيل الملكة كان شاباً يمنياً، ذهب إلى مكة ليؤدي العمرة على روح الملكة إليزابيث ويسأل الله أن يدخلها الجنة مع الأولياء والصالحين.
ربما لم يقرأ هذا الشاب الذي دبت في نفسه الحماسة تاريخ بلاده بشكل جيد، فقد كان لبريطانيا في عهد الملكة إليزابيث الثانية ووالدها من قبلها دور محوري في تقسيم اليمن وتحويل أجزاء منه إلى مستعمرات تابعة للتاج البريطاني.
الاستعمار البريطاني في اليمن.. احتلال عدن
تعتبر عدن في يومنا هذا العاصمة الاقتصادية لليمن، وثاني أهم مدينة بعد العاصمة صنعاء، وذلك بسبب موقعها الاستراتيجي على ساحل خليج عدن وبحر العرب جنوب البلاد.
لذلك لا عجب أن تكون تلك المدينة تحديداً محطاً لأنظار الطامعين، الذين سيتمكنون من السيطرة على المحيط الهندي باحتلالهم لتلك المدينة. أيقن البريطانيون تلك الحقيقة فاقتحموا عدن عام 1839 ليخضعوها لاحتلال دام طوال 128 عاماً، وحولوها طوال تلك المدة إلى قاعدة بحرية ومستودع للسفن البريطانية.
واستعمل الإنجليز حجة واهية لتبرير اعتدائهم على المدينة، ففي عام 1837 جنحت سفينة هندية تسمى "دريادولت" وكانت ترفع العلم البريطاني بالقرب من ساحل عدن، مع العلم أن الهند كانت واقعة تحت الاحتلال البريطاني أيضاً.
ادعى الإنجليز أن سكان عدن هاجموا السفينة ونهبوا بعض حمولتها وأن ابن "سلطان لحج وعدن" كان من المحرضين على نهب السفينة، وفي العام ذاته غرقت سفينة بريطانية قرب الشواطئ اليمنية فادعت بريطانيا بأن الصيادين اليمنيين قاموا بنهب تلك السفينة، وطالبت بالتعويض من قبل سلطان سلطنة لحج محسن العبدلي أو بتمكين بريطانيا من السيطرة على ميناء عدن، وكان موقف السلطان العبدلي رفضه المساس بالسيادة اليمنية ووافق على دفع تعويض لبريطانيا.
لم تكن التعويضات مبتغى بريطانيا التي كانت طامعة بالسيطرة على المدينة ومينائها الاستراتيجي، فرفضت قبول التعويض، وبدأت استعداداتها لأخذ المدينة بالقوة.
قاوم اليمنيون بشدة الاحتلال البريطاني، لكن أسطول الاحتلال المجهز بالمدفعيات الحديثة تمكن من ردعهم فسقطت المدينة بعد معركة غير متكافئة بين الطرفين، لتصبح بعد ذلك مستعمرة بريطانية.
الحرب السرية في اليمن
قبل أن نتحدث عن الحرب السرية لبريطانيا في اليمن، فلنبدأ أولاً بلمحة سريعة عن المملكة المتوكلية. عند خروج العثمانيين عام 1918 من اليمن كان يحيى حميد الدين المتوكل إماماً على الزيدية، وأراد توسيع نفوذه ليشمل كامل اليمن ويعيد إحياء ملك أجداده القاسميين، إذ لم يعترف بالمعاهدة بين الإنجليز والعثمانيين والتي تقضي بتقسيم اليمن إلى شمال وجنوب.
وعلى الرغم من محاولة الإمام التقدم باتجاه الجنوب نحو عدن، فإن الإنجليز منعوه من ذلك.
نأتي الآن إلى عام 1962، في ذلك الوقت كان حاكم المملكة المتوكلية في شمال اليمن هو الإمام محمد البدر حميد الدين الذي قامت ضده ثورة عرفت باسم "ثورة 26 سبتمبر" والتي تهدف إلى إسقاط الملكية وتحويل اليمن إلى جمهورية يحكمها أبناء الشعب.
على أثر تلك الثورة نشأ صراع مسلح بين الموالين للمملكة المتوكلية من اليمنيين وبين أولئك الراغبين بتحويل اليمن إلى جمهورية، وقد استمر ذلك الصراع مدة 8 أعوام كان لبريطانيا دور أساسي خلالها.
ففي حين دعمت مصر، بقيادة جمال عبد الناصر، الجمهوريين، وقفت بريطانيا إلى جانب الملكيين الذين كانوا يخدمون مصالحها في المنطقة، كما تلقى الملكيون دعماً من السعودية والأردن.
حرصت بريطانيا أن تظهر بمظهر المحايد في العلن، فيما كانت السعودية في الواجهة بدعم الملكيين، لكن بريطانيا الحريصة على استمرار الملكيين في الحكم قدمت دعماً هائلاً لهم، فقد سمحت بمرور قوافل السلاح عبر الجنوب لإمداد قوات الإمام.
كما تم إرسال فرقة من الخبراء الإنجليز والأوروبيين، لمساعدة الإمام في التخطيط للحرب ولتدريب الجنود.
والأهم من هذا وذاك، فقد أمدت بريطانيا الملكيين بطائرات مقاتلة لتنفيذ غارات جوية على البلاد، فضلاً عن ملايين الجنيهات التي كرستها لدعم الملكيين بالأسلحة.
تجدر الإشارة إلى أن المسؤولين البريطانيين اعترفوا بأن الملكيين الذين دعموهم لديهم فرصة ضئيلة للفوز. كانت الاستراتيجية، كما أخبر رئيس الوزراء آنذاك هارولد ماكميلان، الرئيس الأمريكي جون كينيدي، هي ضمان أن "النظام اليمني الجديد مشغول بشؤونه الداخلية الخاصة خلال السنوات القليلة المقبلة"، وأن الهدف النهائي هو "حكومة ضعيفة في اليمن، غير قادرة على إثارة المتاعب".
وكما كان متوقعاً، خسر الملكيون الحرب أمام الجمهوريين في عام 1969، وبحلول ذلك الوقت قتل ما يقدر بنحو 200.000 شخص.
وداعاً أيها الشرق الأقصى
لم تخرج القوات البريطانية من عدن حتى عام 1967، أي قبل عامين من انتصار الجمهوريين، وذلك بعد احتلال استمر 128 عاماً.
ووفقاً لما ورد في موقع foreignpolicy، فقد عنونت الصحف اللندنية هذا الخروج بـ"وداعا أيها الشرق الأقصى"، موضحين إنهاك القوات البريطانية من سنوات طويلة من "الحرب الأهلية" و"الإرهاب".
نتفليكس تشوِّه الحقائق
في حين استعمرت بريطانيا عدن طوال 128 عاماً، إلا أن مسلسلاً تم عرضه بالشراكة بين نتفليكس وبي بي سي، صور هذا الاحتلال على أنه محاولة من بريطانيا لمساعدة اليمنيين في الحصول على دولة أكثر "تحضراً".
يحمل المسلسل اسم The Last Post، وقد نشرت مراجعة له في موقع The Future of Freedom Foundation ، تستهجن الطريقة التي صور فيها البريطانيون أنفسهم على أنهم الملائكة الأبرياء الذين يحاولون مساعدة اليمنيين الذين ردوا جميل بريطانيا عليهم عن طريق ممارسة "الأعمال الإرهابية".
فقد نشر البريطانيون المدارس والطرق السريعة والثقافة في أنحاء أرض كانت "متخلفة"، وكانوا يتعرضون للقتل مقابل تلك التضحيات.
تدور أحداث المسلسل حول وحدة من القوات البريطانية التي كانت منتشرة في عدن في أوائل عام 1960.
وصور المسلسل تعرض الدوريات البريطانية لكمائن بشكل دوري، حيث كان الجنود البريطانيون يقتلون على أيدي من تم تقديمهم على أنهم "إرهابيون يمنيون".
كما يصور العمل اختطاف "الإرهابيين" ابن ضابط بريطاني يبلغ من العمر 8 سنوات مهددين بقتله إذا رفض البريطانيون إطلاق سراح "إرهابي يمني" كان قد اعتقل بتهمة قتل القوات البريطانية.
وهنا يوجه جندي بريطاني سؤالاً لأحد زملائه بكل براءة: "لماذا يريدون قتلنا؟" ليجيبه الآخر: "أنا فقط لا أعرف".