تسرد لنا كتب التاريخ، سير القليل من الشخصيات التي جمعت في يدها كل مؤشرات الحكم، لكنها اختارت أن تبقى تحت الظل والحكم من خلف الستار، ومن بين هذه الشخصيات الداعية عبد الله بن ياسين الجزولي الذي أسّس دولة المرابطين واختار لها حُكامها الأوائل.
عبد الله بن ياسين الداعية والفقيه الذي أنكر بدع قومه
لا يعرفُ عن مولد الداعية الفقيه عبد الله بن ياسين، سوى ما ذكره البكري في كتابه "المسالك والممالك".
فقد وُلد عبد الله بن ياسين لأسرة تنحدر من قبيلة جدالة البربرية، وسط قرية تسمى "تماما ناوت"، التي تقع على تخوم السودان الغربي في غرب إفريقيا، وكانت تشهد هذه القرية حينها انتشار البدع والخرافات، حالها حال بقية القبائل البربرية.
وسط هذه الفوضى العقائدية التي انتشرت في قومه، بدأ عبد الله بن ياسين رحلته في طلب العلم مبكراً، إذ سافر إلى المغرب الأقصى من أجل تحصيله عند فقيه السُّوس "وجاج بن زلو اللَّمطي" في رباطه المسمى "رباط نفيس".
لم يكتف ابن ياسين بما ناله من علوم عند فقيه السوس، ليرتحل إلى الأندلس ويقيم بها سبع سنين، وحصل فيها على علومٍ كثيرة فأصبح بذلك فقيهاً في أمور الدِّين والدنيا حسب ما ورد في كتاب "البيان المغرب" لابن عذارى المراكشي.
في تلك الأثناء كانت شخصية إسلامية أخرى، تريد إصلاح شؤون قبائل الصحراء الدينية، ويتعلق الأمر بأمير قبيلة جدالة يحيى بن إبراهيم الجدالي الذي كلّفه الشيخ عمران الفاسي فقيه القيروان بالسفر إلى مضارب قبائل جدالة وصنهاجة بغرب إفريقيا للدعوة وتعليم أهلها تعاليم الإسلام الصحيح.
لم يجد يحيى بن إبراهيم الجدالي رفيقاً من القيروان، بسبب خوف الطلبة والدعاة من تلك القبائل، فالتجأ إلى فقيه السوس وجاج بن زلو اللَّمطي الذي اختار له تلميذه عبد الله بن ياسين الجزولي الذي كان قد عاد لتوه من رحلة الأندلس.
وذكر ابن أبي الزرع في كتابه "روض القرطاس" أنّ يحيى بن إبراهيم أعجب سريعاً بعبد الله بن ياسين، وصار يقدّمه للناس بالقول "هذا حامل سنة رسول الله".
كانت قبيلة لمتونة البربرية، أولى المضارب الذي نزل بها عبد الله بن ياسين ورفيقه يحيى بن إبراهيم، فوجد أهلها لا يحسنون من الإسلام إلّا القليل، فشرع في تعليمهم حتى حاولوا قتله، فعزم ابن ياسين على ترك قبيلة لمتونة والعودة من حيث أتى.
حينها ألح يحيى بن إبراهيم على الداعية بن ياسين أن يتوجهوا إلى قبيلة جدالة بالجنوب، وهناك وجد بن ياسين ضالته.
كاد أن يقتل في بداية المسير
انطلق عبد الله بن ياسين في رحلة نشاطه الدعوي الجديد صحبة أمير جدالة يحيى بن إبراهيم، ورافقهما في هذه الرحلة ستة أشخاص آخرين مِن الذين تعلقوا بالشيخ عبد الله بن ياسين في رحلته السابقة إلى قبيلة لمتونة.
عند وصوله إلى قبيلة جدالة القريبة في غرب إفريقيا، اختار ابن ياسين أن يؤسس رباطاً للعبادة في إحدى جزر مصب نهر السنغال، متبعاً في ذلك سُنة شيخه "وجاج بن زلو اللَّمطي" الذي أسّس رِبَاط نفيس. والرباط هو مكان منعزل للعبادة، يؤسسه شيخٌ ويفِدُ له طلبة العلم هناك لتلقي مختلف العلوم الشرعية.
يذكر الباحث عبد العزيز السالم في كتابه "المغرب الكبير في العصر الإسلامي" أن ابن ياسين اعتزل قبيلة جدالة في رِبَاطِهِ مع مرافقيه السبعة، قبل أن تكبر كرة الثلج وتتدحرج، ليبلغ عدد رواد الرِّبَاط نحو ألف رجل من أشراف القبائل البربرية.
رأى ابن ياسين أن الوقت قد حان لتخرج دعوته من الرباط، لتؤسس دولة، وتحكم المسلمين في الغرب الإسلامي.
ويذكر المؤرخ ابن أبي زرع أنه في أحد الأيام، وقف الفقيه عبد الله بن ياسين وسط أتباعه مُخاطباً إيّاهم "يا معشر المرابطين أنتم جمعٌ كثير، وأنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى صراطه المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم وتأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتجاهدوا في سبيل الله حق جهاده".
فاستجاب أتباع بن ياسين إلى خطابه وردوا عليه قائلين "أيها الشَّيخ المبارك مُرنا بما شئت تجدنا سامعين مُطيعين ولو أمرتنا بقتل آبائنا لفعلنا"، حتى إنهم لقبوه بمهدي المرابطين.
بسبعة رجال أسّس دولة حكمت الغرب الإسلامي
من قبيلة جدالة، بدأ عبد الله بن ياسين نشر دعوته بالقوة، فرفضت القبيلة الدخول تحت بيعته، فقتل منها 6 آلاف رجل من الذين رفعوا عليه السيف ورفضوا الدخول في دعوته، ثم غزا لمتونة التي أرادت قتله في السابق وأجبرها هي الأخرى على البيعة.
توالت تباعاً المدن والقبائل في السقوط أمام جيش عبد الله بن ياسين، وبدأت رقعة دولة المرابطين في الاتساع أكثر فأكثر.
وبالرغم من قدرته على حكم الدولة الفتية، إلّا أنّ الفقيه عبد الله بن ياسين فضّل أن يبقى داعية المرابطين، وأن يسند القيادة السياسية والعسكرية إلى قائد آخر.
اختار عبد الله بن ياسين رفيقه في رحلة التأسيس، يحيى بن إبراهيم الجدالي ليكون أوّل أمير على المرابطين، ولما توفي الأمير يحيى اختار أبا بكر بن يحيى اللمتوني أميراً جديداً.
فلما مات خلفه يحيى بن عمر اللمتوني، والذي شهد عهده توسعات ضخمة لدولة المرابطين، ثم توفِّي، وخلفه أخوه أبو بكر بن عمر. واصل ابن ياسين معاركه وفتوحاته، حتى صارت حدود دولته تحكم الغرب الإسلامي، فقد امتدت حدودها بعد وفاته من نهر السنغال جنوباً إلى الأندلس شمالاً والمغرب الأوسط (الجزائر) شرقاً.
الوصية الأخيرة للداعية عبد الله بن ياسين
ولأنّ أساس دعوته كان محاربة الشرك بالله والبدع، اتجه عبد الله بن ياسين رفقة جيشه إلى إمارة "برغواطة" التي أنشأها شخص يدعى طريف أبو صالح وأقام بها ديانة غريبة وصفها خصومه بـ"الهرطقة"، فقاتلهم حتى أصيب إصابة قاتلة، حسب ما ورد في كتاب "كتاب ترتيب المدارك وتقريب المسالك" للقاضي عياض.
ويذكر صاحب "الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى" أنّ ابن ياسين لمّا شعر بدنو أجله، أوصى أتباعه قائلاً " يا معشر المرابطين إني ميت من يومي لا محالة، وإنكم في بلاط عدوكم، فإياكم أن تجبنوا أو تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وكونوا أعواناً على الحق وإخواناً في ذات الله، وإياكم والتحاسد على الرياسة فإن الله يؤتي ملكه من يشاء من خلقه، ويستخلف في أرضه من أراد من عباده".
توفي بعدها عبد الله بن ياسين متأثراً بجراحه وكان ذلك في سنة 1059 م؛ بعدما كان سبباً في تأسيس دولة المرابطين التي وحدت المغرب الإسلامي، وحكمت حوالي 90 سنة قبل أن ينهيها الموحدون.