عاش سوندياتا كيتا طفولة صعبة، فقد كان طفلاً مريضاً. لكنه صار، بعد وقتٍ قصير، أحد أعظم القادة في التاريخ… فهو "الملك الأسد"، الحاكم الأول لدولة مالي العظيمة وجعل منها أكبر وأغنى الإمبراطوريات في الإقليم.
صحيحٌ أن باحثَين مستقلَّين سافرا إلى مالي في القرن الرابع عشر -بعد قرنٍ من وفاة كيتا- وأرّخا حياته، إلا أن المؤرخين المعاصرين لا يزالون يختلفون حول حقيقة وجود هذا الملك. فأغلب المعلومات المعروفة عنه تنبع من "ملحمة سوندياتا"، وهي أشعار شبه تاريخية تجذّرت لأجيالٍ في التقاليد الشفوية.
تقول الأسطورة إن حكام إمبراطورية غانا قتلوا كل أفراد عائلة سوندياتا عندما كان مجرّد صبي. وبينما تُرك الصبي لمصيره، لأنه كان مريضاً ويُعاني من إعاقةٍ جسدية، وفقاً لمجلة National Geographic، لم ينسَ الأمير الشاب أبداً ما سُلب منه، وعمل جاهداً حتى تمكن لاحقاً من ضمّ الأمم المجاورة تحت رايته.
وبعد أن ثأر ممّن قتلوا عائلته، وقتلهم جميعاً، أسّس إمبراطورية مالي. لكن إرثه يتجاوز ذلك، إذ يُقال إن سوندياتا وضع واحداً من أول مواثيق حقوق الإنسان في العالم. ويُعتبر حفيده مانسا موسى، أحدث أثرى الرجال عبر التاريخ.
السنوات الأولى في حياة سوندياتا كيتا
معظم ما نعرفه عن حياة سوندياتا كيتا يأتي من "ملحمة سوندياتا"، الأشعار التي جُمعت من القصص التي تناقلها الشعراء والروائيون في غرب إفريقيا، على مرّ القرون والعصور.
لم تُترجم هذه الروايات، كما أنها لم تُدوَّن إلا بعد مرور مئات السنين على وفاة سوندياتا، ولذلك فهي تُعتبر نصوصاً شبه تاريخية. ولكن وفقاً للتقاليد الإفريقية، فقد بدأت قصة هذا الزعيم في مطلع القرن الثالث عشر.
وُلد سوندياتا كيتا بصفته أحد أبناء الشعب الماندينغي في مالي، خلال العقد الأول من القرن الثالث عشر. حكم والده، ناري ماغان كوناتي -الذي يُعرف أيضاً باسم ماغان كون فاتا- مملكة كانغابا الماندينغية، التي تقع على ضفاف نهر النيجر.
ووفقاً لموسوعة تاريخ العالم، كان الأسد الشرس رمز عائلة كيتا، وترجمة اسم سوندياتا هي "الأمير الأسد" أو "الأسد الضاري". وتقول إحدى النسخ، التي تروي أسطورته، إنه وُلد والعظَمة تجري في عروقه.
فقد أُبلغ والد سوندياتا بأن أحفاده سوف يحققوا إنجازاتٍ ومآثرَ تاريخية، ولكن عليه أولاً أن يتزوج من امرأة تُدعى سوغولون كي تتحقق النبوءة. وتقول الأسطورة إنها كانت ذات حدبة، وتملك عينين "وحشيتين".
وبغض النظر عن حقيقة مظهرها من عدمها، فقد تزوّج ناري ماغان كوناتي من سوغولون في النهاية، وأنجبا بعد مدةٍ وجيزة سوندياتا كيتا.
بسبب الروايات المتناقضة، يستحيل معرفة نوع الإعاقة التي وُلد بها سوندياتا، لكن إحدى الروايات التي تتكرّر تدّعي أنه ظلّ يحبو حتى سنّ الطفولة.
أول حاكمٍ في الإمبراطورية المالية
وفقاً لكتاب تاريخ السودان، الذي كُتب في القرن 17، غزا ملكٌ ساحر يُدعى سومانغورو كنتي -وهو ملك شعب سوسو- مملكة كانغابا عام 1224، وقتل والد سوندياتا وجميع أشقائه.
لم يُقتل سوندياتا ولا أمه، لأنهما لم يبدوا مصدرَ تهديدٍ، بسبب إعاقتهما الجسدية. في هذه النسخة من قصة سوندياتا، بنى الأمير الشاب جيشاً من القرى والقبائل المحيطة، وسعى للثأر من سومانغورو.
تذكر نسخة أخرى من الرواية أن أخ سوندياتا الغيور والمهووس بالعظمة، دانكاران تومان، سيطر بالفعل على كانغابا في مطلع القرن الثالث عشر. وفي هذه النسخة أيضاً، هرب سوندياتا من المملكة خشية التعرّض للاغتيال، بينما خضع شقيقه تومان لجيش سومانغورو. وبدأ شعب كانغابا في الصلاة من أجل حريّتهم، ومن أجل عودة سوندياتا.
نُفي سوندياتا وأمه إلى بلاط الملك موسى تونكارا، ملك ميما، لتستمر الأسطورة. لكن الصبي صمّم على السير بطريقةٍ سليمة، وبدأ في ارتداء دعاماتٍ لتقويم ساقه عندما كان في السابعة من عمره. أُعجب الملك بنجاح سوندياتا، فعيّنه نائباً له، وحكم سوندياتا ميما عندما كان الملك خارج البلاد.
وبعد أن صار نافذاً وبجسدٍ قوي، خطط سونديانا كيتا لعودته إلى كانغابا. وراودته أحلام بتوحيد إمبراطورية غرب إفريقيا وتحرير الشعب الماندينغي من الاستبداد، لكن ذلك لم يكن سهلاً؛ لأن المنطقة كانت مجموعة من القرى غير المنظمة. ولكن بحلول عام 1235، حشد سوندياتا جيشاً من أجل الحرب.
وبالفعل، وفقاً لموقع ati الأمريكي، هزم سوندياتا غريمه سومانغورو خلال معركة كيرينا في عام 1235. ويقول البعض إن سوندياتا قتل سومانغورو بسهمٍ مسمومٍ، بينما يعتقد آخرون أن سومانغورو فرّ لينجو بحياته. وبغض النظر عن ذلك، مهّد النصر الطريق أمام سوندياتا ليدشّن إمبراطورية مالي.
أعاد سوندياتا بناء مدينة نياني المُدمَّرة وجعلها العاصمة الجديدة. وعيّن العرب والأفارقة على السواء في المناصب العليا، مقسّماً الإمبراطورية إلى شمالٍ وجنوب، وجعل لكلّ جزء منهما قائد جيش. ولما كانت في الأساس اتحاداً فيدرالياً مُشكلاً من ممالك شبه إقطاعية، صارت إمبراطورية مالي الأكبر والأثرى من نوعها في غرب إفريقيا.
وعلى مدى القرون القليلة التالية، استمرت الإمبراطورية في الاتساع بفضل قدرتها على الوصول إلى الموارد الطبيعية، مثل الملح والنحاس والذهب، وبسبب موقعها على طرق تجارية مهمة بالنسبة لإفريقيا والعالم العربي.
توفي سوندياتا كيتا عام 1955، لكن الغموض لا يزال يحيط بوفاته. إذ يقول البعض إنه قُتل في معركة، فيما يعتقد آخرون أنه غرق في نهر سنكراني. لكن إرثه استمر حول العالم وحتى يومنا هذا عبر التقاليد الشفوية في غرب إفريقيا، وعن طريق "ملحمة سوندياتا"، بل يمتدّ إلى أبعد من دوره بصفته زعيماً إفريقياً.
إرث الأسطورة الإفريقية سوندياتا كيتا
فضلاً عن تأسيس واحدة من أقوى الإمبراطوريات في تاريخ إفريقيا، يُقال أيضاً إن سوندياتا أمر بنصّ واحدٍ من أول مواثيق حقوق الإنسان. أكد الميثاق، الذي يُعرف بـ"ميثاق ماندن" أو "كوروكان فوغا"، على حرمة حياة الإنسان وروّج للسلام والتعليم والأمن الغذائي.
ووفقاً لإحدى ترجمات الميثاق، فقد جمع سوندياتا مجموعة من زعماء القبائل في البداية من أجل إعلانه ملكاً حقيقياً لمالي. ثم أعاد تنظيم العشائر وفقاً للحِرف، كي يجعل أعمالاً تجارية -مثل الحدادة والنسيج- تتناقل بالوراثة.
تضمن الدستور أيضاً مواد مثل "لا تُسئ إلى امرأة أبداً" و"يجب أن نساعد المحتاجين". وبحسب منظمة اليونسكو، لا يزال الشعب الماندينغي ينقل شفوياً تعاليم الميثاق من الآباء إلى الأبناء حتى يومنا هذا، ولا يزال كثيرون يعيشون وفقاً لقواعده.
وينص ميثاق ماندن أيضاً على أن جميع حكام إمبراطورية مالي المستقبليين يجب أن يجري اختيارهم من سلالة سوندياتا. وكان أشهر أحفاده، وهو بالتحديد حفيد أخيه مانسا موسى، تاسع حكام مالي وأحد أثرى الرجال في تاريخ العالم مع ثروةٍ لا يُمكن استيعابها.
وبينما جمع مانسا موسى ثروة هائلة ونشر الإسلام حول إمبراطوريته الواسعة، فإن إنجازات سوندياتا كيتا كانت أعظم إلهاماً بكثير، إن كانت الروايات التي تحكي عن مآثره صحيحة.