رغم عدم تدخلها في السياسة العراقية بشكلٍ مباشر، فإنه منذ عام 2003 (عام الغزو الأمريكي) وما بعده، أصبحت المرجعية الشيعية في النجف اسماً له وزنه وتأثيره في الشارع العراقي والعملية السياسية، إن لم تكن هي صاحبة التأثير الاجتماعي والسياسي الأكبر في العراق.
لكن، لم يكن هذا حالها دائماً، لأنّها مرت بفتراتٍ محدودة من فقدان مركزيتها؛ بسبب انتقال الزعامة الشيعية منها إلى مدنٍ عراقية أُخرى أو إيرانية أو لبنانية.
"التقليد".. أساس المرجعية الشيعية في العراق
مر أتباع المذهب الشيعي "الإثنا عشري" بعدة تغيرات على مر العصور. وهذا المذهب يؤمن أتباعه بوجود 12 شخصية معصومة بعد النبي محمد عليه السلام، وهم الإمام عليّ بن أبي طالب و11 من ذريته وصولاً الى شخصية المهدي المنتظر الإمام الغائب بحسب عقيدة الشيعة.
لكنّ الأساس الذي ربط عوام الشيعة برجال الدين الشيعة هو مبدأ فقهي شيعي يسمى "التقليد"، وهو رجوع عامة الشيعة إلى الفقيه في مسائلهم الشرعية، بوصفه المتخصص في الشأن الديني والمتولّي للفتوى الشرعية.
ويُطلق على هذا الفقيه "المَرجِع"، وليست هناك هرميّة لدى المراجع الدينية الشيعية، إذ يمكن أن يكون هناك أكثر من مرجع في وقت واحد، وتعظم مكانة المرجع أو تصغر بحسب عدد أتباعه، وبحسب إنجازاته العلمية في "الحوزة العلميّة" الشيعيّة.
وبالطبع، غالباً ما يكون المرجع أحد المتخرجين من الحوزة العلمية، في حوزة النجف العراقية أو حوزة قم الإيرانية، ومضى على دراسته فيها سنواتٌ طويلة.
وبما أن النجف تعتبر مركز المذهب الشيعي حيث يوجد مرقد الإمام علي، وحيث ظهرت أول حوزة شيعية، لذا كانت المرجعية الشيعية في حوزة النجف ذات الثقل الأكبر.
ضعف الخلافة العباسية وظهور الحوزة الشيعية
الحوزة هي اسم يطلق على المراكز الدراسية التي تضمُّ طلبة العلوم الدينية في المذهب الشيعي، والتي تقع تحت إشراف وإدارة العلماء الكبار و"المراجع". وتنقسم الحوزة العلمية الشيعية إلى مجموعة من المدارس الفرعية.
وعكس أغلب المدارس الدينية في العالم الإسلامي تحظى الحوزة باستقلال مادي واقتصادي خاص.
فلا تخضع في مواردها المالية والاقتصادية للدعم الحكومي، بل يقوم المراجع بتأمين ما تحتاج إليه الحوزات من خلال "أموال الخُمس"، وبحسب المذهب الشيعي فإن "الخُمس" واجب على كل بالغ له دَخْل ومورد اقتصادي مثل التاجر والموظف والعامل وغيرهم.
ونسبته 20% من الفوائد والأرباح من تجارة أو صناعة أو حيازة أو أي مكسب آخر، يجب على الشيعي دفعه للمرجع الذي يقلده، ويقوم المرجع الديني بتوزيعه بعد ذلك بمعرفته ويكون له نصيب منه.
وبعد "الثورة الإسلامية" في إيران وسقوط الشاه كانت للحوزات مشاريع تجارية واقتصادية ضخمة تشبه الوقف.
أما بداية الحوزة التاريخية فكانت خلال العصر العباسي الثاني الذي شهد ضعفاً غير مسبوق في سلطة الخلافة الإسلامية التي سيطرت عليها سلالة بني بويه الشيعية؛ الأمر الذي وفر مناخاً ملائماً لازدهار التشيع.
وخلال القرن الثامن عشر الميلادي، بدأت الحركة العلمية بمدينة النجف في الازدهار على يد السيد "مهدي بحر العلوم" والشيخ "جعفر كاشف الغطاء".
الحوزة الشيعية تصطف مع العثمانيين ضد البريطانيين
بعد احتلال البريطانيين للعراق، أعلن كثير من رجال الدين البارزين في الحوزة معارضتهم البريطانيين.
منهم الشيخ الأصفهاني والشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محمد رضا الشبيبي، وأصدر الميرزا "محمد تقي الشيرازي" بياناً يحرم فيه انتخاب حاكم غير مسلم.
كما اشترك في قتالهم رجل الدين الشيعي السيد "محمد سعيد الحبوبي"، مؤكدين وجوب الاشتراك مع الحكومة المسلمة (أي العثمانيين) في دفع الغزاة، وأمر الشيخ مهدي الخالصي بدفع الأموال في هذا السبيل.
وكانت ذروة تلك الاضطرابات مع قيام ثورة العشرين التي دعمها كثير من رجال الدين الشيعة، ضد البريطانيين.
وللتخلُّص من الضَّغط قام البريطانيون بتنصيب الملك فيصل بن الحسين شريف مكة، أول ملك للمملكة العراقية التي تم إنشاؤها، ورغم ذلك أحسّ رجال الدين الشيعة بأن الطائفة الشيعية تم تهميشها وإقصاؤها، في الحكومات الملكية المتعاقبة.
واستمرت العلاقة بين الحكم الملكي والمرجعية الشيعية بين تقارب وتوتر حتى ثورة "14 تموز" التي قام بها مجموعة من الضباط ووصول عبد الكريم قاسم إلى الحكم، الذي كانت علاقته جيدة بأغلب رجال الدين في المرجعية الشيعية
المرجعية الشيعية بين حزب البعث وثورة الخميني
مع وصول حزب البعث للسلطة تراجعت سلطة الحوزة والمرجعية الشيعية، وقام حزب البعث الذي حكم العراق فيما بين 1968 و2003، بعمليات تسفير واسعة للعلماء وسائر الطلاب الأجانب في حوزة النجف، وكاد المرجع الديني الشيعي السيستاني نفسه أن يسفَّر؛ لكونه من أصول إيرانية، لكن الأمر اقتصر على تسفير عدد من تلامذته وطلابه.
مع بداية الثورة الإسلامية في إيران، ووصول آية الله الخميني للحكم، وخوفاً من تكرار التجربة بالعراق، شددت سلطات البعث قبضتها الأمنية على الحوزة في النجف.
على الرغم من أن كثيراً من رجال الدين الشيعة في العراق لا يؤمنون بنظرية ولاية الفقيه التي يستند إليها الخميني في الحكم والتي تنص على أن لرجل الدين الذي يتمتع بصفات معينة أن يقوم مقام الإمام المعصوم أو النبي محمد بحسب المذهب الشيعي ويتولى الحكم وتصبح طاعته واجبة، وأعطى الخميني للولي الفقيه الولاية المطلقة وكل صلاحيات الإمام والنبي.
وهو أمر يختلف معه كثير من رجال الدين والمراجع الشيعية المعروفين في النجف مثل أبو "القاسم الخوئي" و"محمد صادق الصدر" و"السيستاني" ويعتبرون ولاية الفقيه خاصة بالأمور الاجتماعية فقط، وليس الحكم أو السياسة.
وألقت السلطات العراقية القبض على آية الله "محمد باقر الصدر" وأعدمته عام 1980، ومنعت إقامة الشعائر الشيعية، وبقي دور المرجعية الشيعية متراجعاً، إلى منتصف التسعينيات حتى بروز اسم محمد صادق الصدر، ومعه عاد نشاط الشيعة الديني.
وجذب "محمد الصدر" كثيراً من الأتباع و"المقلدين"، وأصبحت لديه قاعدة شعبية كبيرة، خاصة في المناطق الفقيرة من المحافظات الجنوبية وبغداد، حتى اغتياله عام 1999.
السيستاني وفترة ما بعد سقوط صدام حسين
وُلد علي السيستاني يوم 4 أغسطس/آب 1930 في مدينة مشهد بإيران، وبدأ تعليمه وهو في الخامسة من العمر بمدرسة دار التعليم الديني لتعلُّم القراءة والكتابة، وفي عام 1941 وبتوجيهٍ من والده هاجر إلى مدينة "قُم" لإكمال دراسته.
وفي عام 1951 هاجر من مدينة قم إلى النجف بالعراق، فسكن مدرسة "البخارائي العلمية"، ثم عزم على السفر عام 1961 إلى موطنه مشهد بعد أن حصل على درجة الاجتهاد، ثم رجع إلى النجف وبدأ إلقاء محاضراته التي تناولت عدداً من القضايا الفقهية.
بعد مقتل محمد الصدر أصبح السيستاني هو الاسم الأبرز في زعامة الحوزة والمرجعية الشيعية في النجف، واكتسبت المرجعية الشيعية قوة أكبر بعد سقوط صدام حسين، وعادت لتتصدر المشهد السياسي والاجتماعي من جديد.
وعلى الرغم من إيمان السيستاني بالولاية الخاصة لرجال الدين التي تُبقيهم بعيدين عن الشأن السياسي، فإنّه واصل طوال الفترة التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق إبداء آرائه في الموضوعات الحساسة، مثل قانون الدولة للمرحلة الانتقالية، وتشكيل الحكومة الانتقالية، فضلاً عن الانتخابات.
وعبّر عن قلقه من ازدياد سيطرة أحزاب سياسية كبيرة مرتبطة بعلاقاتٍ قوية مع الاحتلال الأمريكي وتتكون في غالبيتها من منفيين على العملية السياسية في العراق، لكنه في المقابل لم يدعُ أتباعه إلى مقاومة الاحتلال رغم توجيهه عدة تحذيرات للأمريكيين ومناداته بالمقاومة السلمية.
ودعَم قائمة الائتلاف العراقي الموحّد التي تتركز القوة فيها للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وحلفائه الذين يعتبرون من الموالين لإيران، مما أفاد هذه القائمة كثيراً في الانتخابات العراقية الأولى بعد سقوط نظام صدام حسين.
وكانت له مواقف كثيرة محورية، أهمها فتوى "الجهاد الكفائي لقتال داعش"، بعد سيطرة التنظيم على الموصل ومحافظات عراقية أخرى، والتي كانت الأساس لتأسيس ميليشيا الحشد الشعبي التي تنضوي تحتها العديد من الميليشيات الشيعية العراقية الموالية لإيران.
ولا تأتمر تلك الميليشيات بأمر السيستاني ولا "تقلده" في المسائل الشرعية، إنما تتبع نظام ولاية الفقيه وتتبع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي.
لكن السيستاني يبقى الشخصية الرئيسية في حوزة النجف، ويأتي لزيارته شخصيات عراقية ودولية عديدة، لكنه لم يتحدث قط إلى وسائل الإعلام بشكل مباشر، وظلت آراؤه تنقل عن طريق مساعديه أو من يدّعون القرب منه.
أما من الناحية الاقتصادية فتمتلك المرجعية العديد من المشاريع الاقتصادية والتجارية، إضافة إلى أموال الخمس، التي تصلهم من المقلدين من حول العالم عن طريق مكاتبهم وممثليهم في كل الدول وليس العراق فقط.