"أنا من ضيَّع في الأوهام عمره.. اشتغلت في المزيكا وبموت فيها، وسعيد إني ضعت فيها وهضيع لسّه فيها"؛ بتلك الكلمات وصف بليغ حمدي نفسه في بداية البرنامج الإذاعي "ساعة زمان" مع المذيعة آمال العمدة عام 1981. وتلك الجملة يمكنها أن تشكّل مدخلاً لفهم رحلة بليغ حمدي مع الموسيقى، على مدار ما يقارب أربعين عاماً.
الفوضى، عدم الالتزام بالمواعيد، مغامرات الزواج والحب والهجر، النجاح الساحق في الصغر، فكرة الوطن، الحياة البوهيمية والسهر، التورط في جريمة قتل، كلّ تلك الأمور تصاحبها موهبة جبارة في خلق جملةٍ لحْنية لا تفارق أذن مستمعها منذ لحظة سماعها.
هي موهبة تحدث عنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، في كتابه "رحلتي.. أوراقي الخاصة"، حين كتب: "بليغ حمدي ملحن موهوب.. لمّاح.. وهو يوحي إليّ بجملٍ على مستوى رفيع من الجمال".
ويتابع: "عندما يعثر على جملة جميلة، يستطيع بذكائه أن يستغلّها أكبر استغلال، فهو يلحّ عليها ويُعيدها ويُبرزها ويعصرها عصراً حتى يلفت أذن المستمع إليها.. فيصدّقها ويحفظها". وفي مقطعٍ آخر من الكتاب نفسه، يتحدث أيضاً عن موسيقاه، قائلاً: "هي ومضات من الماس مركّبة على تركيباتٍ من الصفيح".
كل تلك الأمور الشخصية والحياتية في حياة بليغ المُثيرة، كان يطوّعها من أجل الموسيقى. قد يُشعرك كأنه ينغمس في تلك الفوضى بكلّ إرادته، حتى يخلق معاناة وشجناً، يمكن من خلالهما أن يعثر على جملةٍ لحنية تثيره وتهذّب روحه كي تستكين. فيصنع لنا لحناً تاريخياً، يقف له الأصدقاء والجمهور.. وحتى الغيارى.
أحب الوطن كمواطنٍ عادي، بعيداً عن كل الرسميات. لذلك، وفي حرب أكتوبر، كان يعي تماماً أهمية تلك اللحظة، فانطلق مع وردة إلى الإذاعة فوراً وقدّما أغنية "حلوة بلادي السمرا". كما قدّم أغنية "بسم الله" مع المجموعة، و"يا حبيبتي يا مصر" بصوت شادية، ورفض تقديم أغنية عن الرئيس محمد أنور السادات مع عبد الحليم.
تلك المعلومة صرّح بها صديقهما الصحفي محمود عوض، كانت أكبر دليل على الفرق بين الصديقين حليم وبليغ في رؤيتهما الفنية والسياسية، فكانت أغنية "عاش اللي قال" الحل الأوسط بين رغبة الاثنين.
بليغ حمدي.. نجاحٌ مُبكر في عالم الفن
وُلد بليغ في 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 1931، في حي شبرا بالقاهرة، لعائلةٍ ميسورة الحال تُحبّ وتقدّر الموسيقى. والده أستاذ في مجال الفيزياء ومُحب للموسيقى، فكان هناك دعمٌ كبير للابن الذي عشق الموسيقى منذ نعومة أظافره. فطلب شراء آلة العود، حين كان لا يزال في التاسعة من عمره، حتى إن شقيقه الأكبر مرسي سعد الدين صرّح في حوارٍ ضمن وثائقي خاص عن بليغ حمدي، قائلاً: "حين كنا نسأله: ماذا تريد أن تفعل عندما تكبر؟ كان يُجيب (عاوز أبقى مزّيكاتي)".
لم يُكمل تخصّصه في كلية الحقوق، رغم وصوله إلى السنة الثالثة؛ وقد يظنّ القارئ لوهلةٍ أن كل تلك المساحة التي كانت مُتاحة له في تعلُّم الموسيقى والسعي وراء شغفه، كانت سبباً في عدم إكمال دراسته. لكنه لم يُكمل أيضاً دراسة الموسيقى في معهد فؤاد للموسيقى العربية، أو في المعهد العالي للموسيقى المسرحية.
لم يستطع التأقلم مع فكرة الدراسة والالتزام والامتحانات، لكنه -وخارج النطاق الرسمي- تعلّم العزف على البيانو وكتابة النوتة الموسيقية، ليتضّح لنا أنه لا يهوى فكرة الأطر الرسمية. وبمجرّد أن يشعر بالقيد أو الالتزام، كان يهرب سريعاً.
ولعلّ ذلك السببَ الرئيسيَّ في كون بليغ مُحبّاً للسفر الدائم؛ وقد صرّح في أحد حواراته القديمة بأنه يمتلك تأشيرة سفر صالحة لـ6 أشهر، موجودة في سيارته مع جواز سفره بشكلٍ دائم.
كانت البداية الفنية الحقيقية كمُطرب في الإذاعة -لا كملحن- حين غنّى في بداياته من ألحان الآخرين، وأشهر تلك التجارب كانت ضمن برنامج "ساعة لقلبك". لكنه أدرك منذ البداية أن صوته غير قادرٍ على المنافسة، وأن هناك قيوداً يجب أن يلتزم بها، فكان الإصرار على تقديم الألحان، والبداية مع زميلته في كلية الحقوق فايدة كامل، من خلال أغنيتين "ليه فايتني ليه"، و"ليه لأ".
في النصف الثاني من الخمسينيات، كان بليغ حمدي قد أصبح في العشرينيات من عمره، وأولى خطواته في عالم الشهرة كانت مع لحن "ماتحبنّيش بالشكل ده" لفايزة أحمد -قبل أن تحضر إلى مصر- ثم مع صديقه عبد الحليم حافظ في أغنية "تخونوه" لفيلم "الوسادة الخالية" عام 1957.
حققت الأغنية انتشاراً هائلاً، لكن اللحن كان بالأساس لليلى مراد، لكن حليم أُعجب به واستأذن مراد في غنائه، فوافقت بكلّ رضا. وفي العام نفسه، قدّم أغنية "خسارة" لحليم أيضاً في فيلم "فتى أحلامي"، ثم "مكسوفة" لشادية في فيلم "عش الغرام" عام 1959.
كانت جميعها ألحاناً جميلة وبسيطة التكوين، وبرز من خلالها تأثره بمن سبقوه من ملحنين، أمثال: عبد الوهاب، ومحمد فوزي، ومحمود الشريف.
في هذه الفترة المبكرة من حياته، تحدثت الصحافة عن ارتباط الملحن الصاعد بالراقصة سامية جمال، غير أن هذه العلاقة انتهت في يوليو/تموز 1959. كتبت مجلة "الكواكب" يومها: "فرحة ما تمّت، فإن سامية جمال ما كادت تعلن خطبتها هي وبليغ حمدي حتى سارعت لتعلن فسخ الخطبة. وإذا أردت أن تعرف السبب، فتّش عن المرأة: إن المرأة هي التي حوّلت الفرح إلى مأتم".
تعاون بليغ حمدي مع أم كلثوم
كثيرةٌ هي الأقاويل والتفاصيل التي انتشرت حول لقاء بليغ حمدي بأم كلثوم، حتى بليغ نفسه يروي في حواراته أحاديث مختلفةً كلَّ مرة؛ مرةً يقول إن اللقاء حدث بهدف تعاونهما في أغنية "حُب إيه" وإنه كان يعرف أن الست ستكون حاضرة، ومرةً يتحدث عن صدمته عندما رآها في منزل الدكتور زكي سويدان، ومرةً أخرى يروي كيف سألت عن كاتب الكلمات في الجلسة الأولى، مع أن معلوماتٍ أخرى تؤكد أن ذلك حدث في اللقاء الثاني.
بعيداً عن كلّ ذلك، وبعيداً عن الأقاويل التي تحدثت أن الأغنية كانت تُحضّر لتكون مونولوج فكاهياً تقدّمه ثريا حلمي، فإننا أمام لقاءٍ استثنائي حدث في نهاية الخمسينيات، وأثمر تعاوناً فنياً في مطلع الستينيات.
حدث ذلك التعاون بعدما تنازل محمد فوزي وانسحب من التلحين لأم كلثوم. فقد كانت الست تبحث عن روحٍ جديدة تستطيع أن توصلها بالأجيال الجديدة والموسيقى الجديدة، التي بدأت في الظهور على أيدي كل جيل الثورة من ملحنين ومطربين.
حينها لم يكن بليغ حمدي قدّم ألحاناً تُنبئ بأنه الأهم على الساحة، لكن أم كلثوم كانت تريد تلك الأجواء الشبابية في ألحانها وكلماتها أيضاً. ملحن شاب لم يُكمل عامه الثلاثين يعمل مع كوكب الشرق وأهم مطربة في الوطن العربي كله تتخطى الستين من عمرها، تلك المساحة التي أعطتها أم كلثوم لبليغ كانت فرصةً لا يحلم بها أي ملحن، جعلته يتألق ويُطلق عنانه في التلحين.. والفوضى أيضاً.
إذا كانت أم كلثوم قبلت بالتعاون مع ملحنٍ غير ملتزم بالمواعيد وبوهيمي، فهذا يعني أن جميع المطربين والمطربات عليهم تقبُّل ذلك. كيف لا، وقد قررت الست التعاون معه، ليس في أغنية وحيدة فقط، بل في رحلةٍ استمرّت حتى النهاية، حقق الاثنان فيها نجاحاتٍ ساحقة.
فبعد "أنساك ده كلام"، غنّت أم كلثوم "أنا وانت ظلمنا الحب"، من كلمات عبد الوهاب محمد العام 1962، ثم "كل ليلة وكل يوم" من كلمات مأمون الشناوي عام 1963؛ إضافةً إلى "سيرة الحب" من كلمات مرسي جميل عزيز عام 1964، و"بعيد عنك" من كلمات مأمون الشناوي العام 1965. كلّ هذه الأغنيات الطويلة ساهمت في تكريس إسم ملحّنها.
اللعب مع التراث
مع انتقال مصر من الملكية إلى الجمهورية، ومع تأثيرات ثورة يوليو، كانت تلك المرحلة الجديدة تبحث عن مخزون التراث والقصص الشعبية، وتكوين فرقة شعبية على يد زكريا الحجاوي، وفرقة رضا، إضافةً إلى تقديم القصص الشعبية مثل أدهم الشرقاوي وياسين وبهية.
كان هناك توجّهٌ عام من الدولة نحو إعادة تقديم التراث، ولكن بعد تهذيبه وإصلاحه ليُناسب المرحلة، مع تقديم شخصية المخلّص -تماشياً مع فكرة المخلّص في الدولة- ومن هنا انطلق بليغ حمدي في عالم التراث والفلكلور الشعبي.
الجميع دخل مساحة الفلكلور والتراث، حتى قبل ثورة يوليو، فمنذ العشرينيات شكّل التراث مادةً خصبة للملحنين والشعراء. لكن بليغ كان قادراً على الاشتباك معه، ليُخرج عملاً بشكلٍ جديدٍ، وقد ساعده في ذلك وجود شعراء جيّدين بجواره، مثل عبد الرحمن الأبنودي ومحمد حمزة وعبد الوهاب محمد.
فكانت تجاربه مع شادية مثل "أسمراني اللون"، أو مع محمد رشدي ثم عبد الحليم حافظ، والصراع الوهمي بين الاثنين على تقديم ألحانه.. كان ذلك في النهاية نجاحاً له ولتلك الألحان التي أثارت حفيظة كثيرين في الوسط الفني، حتى إن الأبنودي غضب من الشكل النهائي الذي خرجت به أغنية "كل ما أقول التوبة" لعبد الحليم، ودخل الموجي في صراعٍ مع ما يقدّمه بليغ من هدمٍ للتراث وتحريفه.
نجاحٌ باهر وانتقادٌ لاذع من عبد الوهاب
كلّ ذلك جعل من بليغ حمدي الملحنَ الأول في مصر؛ وكلّ من يريد النجاح وتحقيق الشهرة، ليس عليه سوى التوجّه إلى بليغ، وتحمّل فوضويته البارزة، لا بل عليه التعامل معها على أنها ضربٌ من ضروب الإبداع الفني.
ورغم ضياع كثير من الألحان وسط توزيعاتٍ غير منتظمة، فإنه قادر على الحفاظ على كلمة السر، الجملة اللحنية التي تسرق أذن المستمع. وفي هذا الإطار، يُمكن القول إن محمد عبد الوهاب أكثر من استطاع وصف بليغ الملحن، بعيداً عن تورّطه العاطفي مع شخصيته.
ففي كتابه الشهير، يحكي مجدداً عن بليغ حمدي ويقول: "مثلاً إذا أعطينا جملته الموسيقية عشرة على عشرة، يمكننا أن نعطي الإطار الذي قُدّمت فيه هذه الجملة اثنين من عشرة. لذلك نجد أن الفرق كبير وواضح بين الجملة الجميلة في عمله، وبين ما أضاف عليها، والحكمة تقول: وبضدّها تتميز الأشياء. ولذلك نجد أن إطار الجملة، وما أُحيط بها أو ما قُدّم بها لا شيء".
ويتابع عبد الوهاب حديثه عن حمدي، قائلاً: "بليغ حمدي ملحن صالون وشارع، ولكنه ملحن شارع أكثر. وبليغ عنده صَمَم لغير ألحانه، فهو لا يحسّ بجمال غيره ولا يُريد أن يحسّ بِهذا الجمال.. وإذا ما مدحته في حضوره، انتفخ كالديك الرومي، وقال من غير أن يقول: هل من مزيد؟ بليغ ليس فيه خجل الفنان الكبير، وهو تجاري في فنّه مع ما يستلزمه ذلك من السرعة، وعدم التأمل في تركيب العمل ككل، لذلك تحس بأن عمله عبارة عن مونتاج".
ويُضيف منتقداً إياه: "عندما أسمع لبليغ خاطراً جميلاً، أشعر بأنه ليس صاحب الفضل فيه، وإنما جاءه الخاطر من الغيب. وعندما يريد وضع هذا الخاطر في عملٍ، ويجيء دوره كمبدع بتفكيره وعنائه وتأمله، أشعر بالفرق بين الخاطر الذي جاءه من الغيب، والعمل الذي صاغه من نفسه".
ربما حاول عبد الوهاب أن يقلّل من مهارة بليغ حمدي بين السطور، التي يُمكن تشفّي نوع من الغيرة من خلالها، ولكن كلّ ذلك سبب في نجاح حمدي وتألقه في تقديم جملةٍ لحنية عذبة تدخل قلب المُستمع من دون استئذان.
يعي بليغ فكرة الغناء للشارع، فهو جمهوره الحقيقي. ويبحث عن تقديم أغانٍ عن طريق المجموعات الغنائية، مثلما فعل مع أغنية "آه يا ليل يا قمر" قبل أن يغنيها محمد رشدي. يحاول خلق مساحة جديدة للكورس في ألحانه، مثلما فعل مع شادية في أغنية "خلاص مسافر"، وغيرها من الأعمال الغنائية التي جعل فيها الكورس جزءاً مهماً من شكل الأغنية الدرامية، مُحرّراً إياه من فكرة ترديد اللازمات الغنائية فقط.
هكذا كان يبحث دائماً عن شعور الحرية والتفرّد لكل أفراد العمل، وكان يرى أن على الجميع أن يغني وأن ذلك يمنح صوت الشارع مساحة جديدة في أغانيه، بعيداً عن الأصوات المعتادة من المطربين والمطربات.
بليغ حمدي ووردة
قبل حرب أكتوبر بعام، جاء الحدث الأهم في مسيرة بليغ حمدي: زواجه بوردة الجزائرية. قبلها، كان تزوج مرتين في الستينيات: الأولى بجارته آمال مخيمر، بعدما انتهى من تلحين أوبريت مهر العروسة، فعقد القران فجراً، من دون أن يستمر الزواج طويلاً. والمرة الثانية تزوج مطربة ناشئة اسمها آمال طلعت، وأيضاً انتهى زواجهما سريعاً.
بدأ تعلُّق وردة ببليغ حمدي حين استمعت -وهي لم تتجاوز 16 عاماً- إلى أغنية "تخونوه"، وقد أعجبتها الأغنية لدرجةٍ جعلتها تتعلق بملحنها من دون أن تراه، لكنها عزمت على لقائه. وقد جاءت الفرصة حين دُعيت للحضور إلى مصر وتقديم فيلم "ألمظ وعبده الحامولي".
ووفقاً لتصريحات الإعلامي الراحل وجدي الحكيم، بدأت شرارة الحب مع اللقاء الأول. فعندما ذهب بليغ مع الفنان عادل مأمون لتحفيظها أول لحن من الفيلم لأغنية "يا نخلتين في العلالي"، عاد وقال لحكيم: "أنا عمري في حياتي ما اهتزيت لعاطفة امرأة، إلا لما شفت وردة أول مرة وسلمت عليها".
أكد وجدي الحكيم أن بليغ اصطحبه هو ومجدي العمروسي كي يتقدم لخطبة وردة، ولكن والدها رفض حتى دخولهم المنزل، واضعاً العصا بصدر بليغ وهو يحثه على ألا يدخل. لتعود وردة بعدها إلى الجزائر مع عائلتها وتصرّ أسرتها على زواجها بأحد أقاربها، وتبتعد عن الفن تماماً وتنجب "وداد ورياض" وتمرّ 10 سنوات على غيابها الفني.
في عيد الاستقلال الجزائري العاشر، طلبها الرئيس الجزائري هواري بومدين للغناء بهذه المناسبة، كما سافر عدد من الفنانين المصريين إلى الجزائر للاشتراك في الاحتفال. وكان بليغ حمدي من بين الحضور، إلى جانب هدى سلطان ومحمد رشدي، ويُقال إن فكرة أغنية "العيون السود" جاءته يومها وكتب عدداً من أبياتها في هذا التوقيت.
بعدها بعام ونصف العام انفصلت وردة عن زوجها، وعادت إلى مصر وغنّت "العيون السود" عام 1972، وكان بليغ أول المستقبلين لها في مطار القاهرة، بدآ معاً طريق عودتها. فغنّت له في حفل "أضواء المدينة" أغنيتين من ألحانه "العيون السود"، التي جسّد من خلالها بليغ قصة حبّه لها، و"والله يا مصر زمان".
حدث الزواج في لحظة عبثية وفوضوية. بليغ ووردة حاضران في عقد قران الراقصة نجوى فؤاد، فقرّر بليغ أن يتزوج أيضاً، لتبدأ رحلةً من الأعمال الغنائية الهامة على مدار ما يقارب السبع سنوات قبل أن يقع الطلاق بينهما.
استمر زواج وردة وبليغ طيلة 6 سنوات، حتى قررا الانفصال عام 1978 بسبب الحياة العشوائية التي يعيشها بليغ، كما ترددت أقاويل عن خياناتٍ متكرّرة قام بها مع فنانات صاعدات، ما جعل وردة تشعر بالإهانة وتطلب الطلاق.
وخلال ظهورها على شاشة LBC اللبنانية، في برنامج "المايسترو" مع نيشان، قالت وردة إن بليغ خانها عندما كانت تجري عملية جراحية دقيقة بعدما أُصيبت بجلطةٍ في القلب عام 1978. وأكد هذا الكلام نجل وردة، رياض قصّيري، في تصريحٍ له بشهر يوليو/تموز 2022.
أوضحت وردة أنها عرفت من الجرائد عن حضور بليغ حمدي عيد ميلاد سميرة سعيد، بينما كانت هي ترقد في المستشفى، بل إن هناك جرائد تحدثت عن زواج بليغ بسميرة، ما جعلها تستدعي أهلها وتطلب الطلاق منه.
حُكمٌ بتسهيل الدعارة بعد جريمة قتل في منزله
مع رحيل أم كلثوم وعبد الحليم وطلاقه من وردة، واختلاف الموسيقى في مطلع الثمانينيات بشكلٍ أو بآخر، بدأت الفوضى تسيطر أكثر على مجريات الأمور في حياته، حتى كان الحدث الأصعب في مسيرته والذي تمثل بمقتل/انتحار الفنانة المغربية الشابة سميرة مليان في منزله!
وقعت الحادثة في 17 ديسمبر/كانون الأول 1984، حين وُجدت جثة "مليان" عارية أسفل منزل بليغ. وقد هزّت الشارع المصري، لا سيما أن القضية تطورت كثيراً في المحاكم، وأخذت حيزاً كبيراً من اهتمام الصحافة المصرية، خصوصاً أن الفنانة المغربية كانت تحمل الجنسية الفرنسية.
كثيرةٌ كانت الأقاويل التي رافقت تلك الفترة؛ بعضها أشار إلى أن الحادثة انتحار، والبعض الآخر رجّح احتمالية تدبير الجريمة لإبعاد شقيق بليغ عن وزارة الإعلام بعدما كان اسمه مطروحاً.
فيما أشارت روايات أخرى إلى ضلوع ثري عربي في الجريمة، حين تشاجرا داخل شقة بليغ حيث كان الأخير نائماً -وكانت هذه عادة كثيراً ما يفعلها الملحن الشهير- بعدما كان (أي الثري) قد وعدها بمساعدته لها في عالم الشهرة.
الثري العربي اختفى بعد الحادثة إلى الأبد، فيما حضر بليغ كل جلسات المحاكمة الخاصة بالقضية. لكنه غادر البلاد هرباً إلى فرنسا، قبل يومٍ واحد من صدور الحكم، بعدما وصلته معلومات تُفيد بأن الحُكم لن يكون لصالحه. وبالفعل، حُكم على بليغ حمدي بالسجن عاماً واحداً بتهمة تسهيل الدعارة والفجور.
قدّم ألحاناً كثيرة وهو في الغربة، أشهرها "القمر مسافر" بصوت أحمد عدوية، الذي منحه 5 أغنيات أخرى مثل "بنج بنج" و"يختي اسملّتين عليك". ولكن تبقى الأغنية الأشهر التي لحّنها في الخارج، هي "بودّعك" تلك التي أرسلها إلى وردة، وكانت تعاونهما الفني الأخير.
كانت الأغنية أشبه برسالة وداع، حتى إن بها مقطعاً عن نسيانها الاتصال به في عيد ميلاده وقد وُلدت الأغنية من ذلك الموقف.
والكل افتكره وأنت نسيت
كتبتلك زي الليلة دي في يوم ميلادي
غنوة ليك تفكرك بموعدك أسمعك غنوتك
سنة حلوة يا سعيد بدموعي في العيد
دا أنا عمري ما نسيت لك في الغربة مواعيد
ووفقاً لبرنامج "حكاية ليها أصل" مع محمد مصطفى فؤاد، فقد بعث بليغ برسالة إلى الرئيس حسني مبارك مع نهاية الثمانينيات جاءت فيها جملة واحدة: "وحشتني مصر أوي يا ريّس، بس خايف أرجعلها"، ليقوم مبارك بإصدار أمرٍ لإعادة فتح التحقيق، فيصدر الحكم ببراءة بليغ واعتبار الحادثة "انتحاراً بعد مشادةٍ كلامية مع صديقها الثري".
خلال كل تلك الفترة، لم تفارقه وردة قط، كانت على اتصالٍ دائمٍ معه وكانت متأكدة من براءته. وعندما عاد إلى مصر، لازمته كثيراً وحضرت حفل الاستقبال الذي نظّمه له الفنانون بمناسبة براءته.
في عام 1993، اكتشف الملحن الشهير إصابته بسرطان الكبد. وبعد الجرعة الأولى من العلاج الكيميائي، رحل بليغ حمدي في باريس، لتقفل صفحة من أهم صفحات الموسيقى العربية في تاريخنا المعاصر.
رحلة غير اعتيادية، مليئة بالأحداث والجنون والفوضى واللعب مع الفن والصحافة والجمهور، قدّم خلالها أعمالاً خالدة لا تتكرّر. وكما قال بليغ نفسه: "الفنان هو الزمن القادم"، وأعمال بليغ حاضرة معنا حتى اليوم، ومستمرة مع أسلافنا إلى الغد.
"الفنان مثل البصمة لا يتكرر.. أنا بعتبر موته سفر، إنما هو موجود معانا. بتفتح التلفزيون تلاقيه، بتفتح الراديو تلاقيه، ما بيرحلش عنا، هو بيسافر، وهو موجود بفنه. موجود وسيظلّ موجوداً". كانت هذه كلمات بليغ حمدي في أحد لقاءاته الأخيرة.