نقشه الملك بطليموس قبل الميلاد بـ200 عام، ثم وُجد من ضمن الحجارة التي بنى فيها المماليك بعد أكثر من ألف عام قلعتهم العسكرية. وهناك اكتشفه الفرنسيون ونقلوه إلى القاهرة، قبل أن يستولي عليه الإنجليز ويستقرّ أخيراً في المتحف البريطاني.
إنه حجر رشيد، الذي سرقه الاستعمار ورفض أن يعيده. هو تلك القطعة الفريدة التي فكّت شيفرة هيروغليفية الفراعنة، والأثر الاستثنائي الذي عكس تعاقب الحضارات، كما أنه أهم الشواهد على الاستعمار الغربي لمصر.
درس رموزه علماء من السويد وفرنسا وبريطانيا، وجابت لغته جامعات أوروبا حيث استعصت عليهم. فما الذي يحتويه، وما أهميته؟
لكن أولاً، كيف اكتُشف حجر رشيد؟
هو حجرٌ رماديٌّ سميك نُقشت عليه سطورٌ بلغاتٍ قديمة غير مفهومة، تبيّن لاحقاً أنها ثلاثة نصوصٍ قديمة: النص العلوي باللغة الهيروغليفية، والنص في الجزء الأوسط باللغة الديموطيقية، أما الجزء الأدنى فهو باليونانية القديمة.
هي ثلاث لغاتٍ لنصٍّ واحد، بمعنى أن السطور المكتوبة باللغات الثلاث تقدّم أساساً النصّ نفسه مع بعض الاختلافات الطفيفة، وقد ساعد هذا الاختلاف في لغة النصوص في فكّ رموز الكتابة الهيروغليفية المصرية، والتي عجر المؤرخون عن فهم معناها لقرونٍ عدة.
تعود قصة اكتشاف هذا الحجر إلى القرن الـ18، خلال الحملة الفرنسية على مصر التي شنّها نابليون بونابرت لتقويض نفوذ أعدائه الإنجليز، حين أرسل في العام 1799 فرقةً من جنوده إلى قلعةٍ مملوكية داخل مدينة رشيد، على الضفة الغربية لأحد فروع النيل وقريبة من مصبّه في البحر الأبيض المتوسط.
تلك القلعة كان أنشأها السلطان المملوكي قايتباي قبل أكثر من 300 عام، وتُعرف باسم "حصن جوليان"، فأراد الفرنسيون ترميمها والتحصّن فيها، وهذا ما حصل بالفعل. فقد أصبحت معقلاً لقواتها.
وبحسب موقع History الإنجليزي، وخلال أعمال التحصينات العسكرية للقلعة في 19 يوليو/تموز 1799، اكتشف الضابط الفرنسي بيار فرانسوا بوشار حجراً رماديّاً سميكاً حُطّمت أطرافه وكان جزءاً من جدارٍ قديم. ومنذ لحظة اكتشافه، شعر بوشار أنه أمام كنزٍ قديم يمكنه أن يقود لاكتشافاتٍ مهمة.
أبلغ بوشار قائده بوجود الحجر، فاستولى عليه ونقله إلى معهدٍ علمي في القاهرة أنشأه المستعمرون الفرنسيون وضمّ عدداً من العلماء والخبراء الذين واظبوا على تدوين تاريخ البلاد وتقاليدها.
وحتى ذلك الوقت، لم يجد الفرنسيون تفسيراً لوجود حجرٍ مماثل داخل القلعة. لم يعرفوا تاريخه الدقيق ولا مكانه الأصلي، لكنهم أبدوا اهتماماً كبيراً به وأطلقوا عليه اسم "حجر روزيت"، التسمية الفرنسية لمدينة رشيد.
بعد 3 سنوات، هُزم الفرنسيون أمام الإنجليز، فسُلب منهم حجر رشيد كغنيمة حرب. وبعد 3 عقودٍ من الزمن، صار مفتاحاً لفكّ ألغاز الحضارة المصرية القديمة والغوص في تاريخها وخباياها.
ما أعطاه هذا الاهتمام هو اكتشاف المستعمرين الأوروبيين له وتعاقب الخبراء على دراسته، منذ وضعه في المتحف البريطاني قبل أكثر من قرنين.
ما هي النصوص المنقوشة على حجر رشيد؟
يبلغ ارتفاع الحجر، أو ما تبقى منه، نحو متر و12 سنتيمتراً. ينتمي إلى عهد سلالة البطالمة اليونانيين، حاكمي مصر، وهم الذين فتحوا البلاد مع الإسكندر الأكبر قادمين من اليونان قبل الميلاد بـ3 قرون. ثم تبنوا لقب "فرعون"، ليضفوا شرعية على حُكمهم أمام السكان المصريين.
نُقش على حجر رشيد نوعٌ من المفاوضات التي كانت تتم، في مدينة ممفيس عام 169 ق.م، بين الملك اليوناني الجديد بطليموس الخامس وكهنة المعابد. وبفضل هذا المرسوم، تحدّد شكل العلاقة بينهم.
يؤكد الكهنة في المرسوم على تقديسهم للملك واحتفالهم بعيدَي ميلاده وتنصيبه، فيما يجدّد هو دعمه المالي للمعابد وأجور الكهنة ويخفّض الضرائب ويعفو عن السجناء. ووفقاً لموقع Live Science الأمريكي، فقد كان اجتماع الكهنة في ممفيس لإعلان تتويج بطليموس الخامس ذا مغزى متعدّد المستويات.
كانت ممفيس العاصمة التقليدية للإمبراطورية الفرعونية، وكان التتويج فيها له قيمة رمزية للملك والبلاط الملكي. يُحتمل أن يكون اجتماع الكهنة من أجل التتويج في ممفيس له صلة مهمة بالماضي، ورمزاً مقصوداً للحكم الموحد لبطليموس الخامس على مصر، فضلاً عن كونه إذعاناً لرغبة الكهنوت المصري في عقد الاجتماع في مدينتهم المقدّسة ممفيس وليس في الإسكندرية (عاصمة مصر البطلمية).
يفهرس حجر رشيد بعض إنجازات بطليموس الخامس، مثل هدايا وهبات قدّمها للمعابد، إضافةً إلى التخفيضات الضريبية وإخماد جزء من أعمال التمرّد الداخلية في مصر. فيما تعهّد الكهنة، مقابل تلك الخدمات، بعدد من الإجراءات لدعم بطليموس الخامس، مثل بناء تماثيل جديدة له وتنظيم مهرجانات احتفالاً بعيد ميلاده ويوم اعتلائه العرش.
يُعتقد أن حجر رشيد بقي طوال القرون الماضية في معبدٍ بمدينة سايس الفرعونية، والثابت أنه لم يُنقل إلى مدينة رشيد حتى القرن الـ15 قبل أن يُستخدم -كغيره من الحجارة الأثرية- في بناء القلعة المملوكية.
ووفقاً للموسوعة البريطانية Britannica، لم يكن الحجر مكتملاً، بل هو جزء مكسور من لوحٍ أكبر. وعلى الرغم من فقدان جزءٍ كبير من الكتابة الهيروغليفية المنحوتة على القسم العلوي المفقود منذ فترة طويلة، كُتب المرسوم على القسم الأوسط والسفلي للحجر 3 مرّات، بلغتين اثنتين، كان قد استخدمهما المصريون خلال القرن الـ7 ق.م والقرن الـ5 بعد الميلاد:
- الأولى هي المصرية القديمة؛ وقد كُتبت مرّةً باللغة الهيروغليفية المقدّسة (لغة الكهنة)، ومرّةً بالديموطيقية الشعبية، التي استُخدمت للتعبير عن حياة الناس اليومية.
- الثانية كانت الإغريقية أو اليونانية القديمة، وهي لغة الحكّام البطالمة.
فكّ رموز الحجر بعد 23 عاماً من العثور عليه
وهكذا شكّلت الحجارة المنقوشة سجلّاً رسمياً في ذلك العصر. وفي العام 1801، حين استسلم الفرنسيون للإنجليز، سلّموا الآثار المصرية التي اكتشفوها، ومن ضمنها حجر رشيد الذي نُقل على متن سفينةٍ ووُضع في المتحف البريطاني حيث نُقش عليه نقشان إضافيان يخلّدان ذكرى سرقته وتقدمه هديةً من الملك جورج الثالث.
يمكن اعتبار الحجر "غنيمة حرب" أكثر منه اكتشافاً؛ ومنذ وصوله إلى لندن، أبدى الإنجليز اهتماماً غير مسبوقٍ به، فأرسلوا نسخاً من نقوشه إلى الجامعات الأوروبية كي يحاول العلماء فكّ رموزه الهيروغليفية.
في العام 1802، تمكن المستشرق الفرنسي سيلفستر دي ساسي من التعرّف إلى أسماءٍ يونانية في النصّ المصري الديموطيقي، ومن بينها اسم بطليموس.
حتى ذلك الوقت، فقد كان ثابتاً لدى العلماء أن الهيروغليفية كانت كتابةً مقدّسة، أما الديموطيقية فهي كتابة متصلة الحروف وتُستخدم في الحياة اليومية. وقد ساد الاعتقاد باختلاف النصّين عن بعضهما تماماً.
لاحقاً في العام 1814 تمكن العالم الإنجليزي توماس يونغ من العثور على نحو 80 تشابهاً بين النصّين الديموطيقي والهيروغليفي، على عكس الاعتقاد السائد حينها باختلافهما. ويستنتج أن جزءاً من النص الديموطيقي كان صوتياً مع احتوائه على رموزٍ من الهيروغليفية.
اكتشاف يونغ هذا مهّد الطريق أمام شابٍ في الثلاثينيات من عمره، سيُجيب عن الكثير من التساؤلات المعلّقة. إنه الفرنسي جان-فرانسوا شامبليون الذي تعلّم عدة لغاتٍ عن عمرٍ صغير، وكان من هواة التاريخ المصري رغم أنه لم يكن قد زار مصر.
واظب شامبليون على دراسة حجر رشيد إلى جانب نصوصٍ مصريةٍ أخرى؛ حدّد الرموز التي تدلّ على أصوات، وتلك التي تدلّ على أفكار، وأكد أن الرموز الصوتية استُخدمت للدلالة على أسماءٍ يونانية وكذلك أسماءٍ مصرية أصلية.
وبعد 23 عاماً من العثور على الحجر، طوّر شامبليون قاموساً للغة الهيروغليفية، ثم انطلق في رحلته الشهيرة إلى مصر بين عامَي 1828 و1829 بهدف التأكد من صحة أسلوب عمله في الموقع.
تمكن شامبليون، بعد دراسته المعمّقة، أن الهيروغليفية هي في الوقت نفسه كتابةٌ صوتية وكتابة رمزية، أي أن رمزاً أو مجموعة رموز يمكن أن تعبّر أحياناً عن صوت- كما في أبجديتنا- وأحياناً تعبّر عن فكرة.
كان ذلك اكتشافاً هائلاً، وفكّ شامبليون الرموز والأسرار المدفونة منذ أكثر من ألف عام، وأعاد إحياء لغةٍ كادت أن تختفي. فمن خلال إنجاز شامبليون، تمكن العلماء المصريون وغير المصريين من فكّ الرموز التي تمتلئ بها جدران المعابد في مصر والاطلاع على ما كتبه المصريون القدماء وأسماء الملوك وكل ما يتعلق بمصر القديمة.