قد يساق الثوار إلى المشانق بعد نجاح ثوراتهم، إذ حدث ذلك خلال الثورة الفرنسية حين علّق روبسبير المشانق لرفاقه قبل أن يساق هو نفسه إليها، كما تكرر ذات المشهد في الثورتين البلشفية والإيرانية، وكذلك حدث خلال ثورة الجزائر، فقد دفع الكثير من قادة ثورة التحرير الجزائرية أرواحهم ثمناً حتى بعد الاستقلال، مثل محمد شعباني، أصغر عقيد في تاريخ الجزائر، بعدما انقلب عليه رفيق هواري بومدين وبن بلة وساقوه إلى منصة الإعدام.
في هذا التقرير نتعرّف على العقيد الجزائري الراحل محمد شعباني:
محمد شعباني أصغر عقيد في تاريخ الجزائر
حافظ القرآن الذي تخرَّج في المدرسة الباديسية
وُلد الطفل الطاهر شعباني، الذي سيعرف فيما بعد باسمه الثوري محمد، في الرابع من سبتمبر/أيلول عام 1934، في قرية أوماش بمحافظة بسكرة بالجنوب الشرقي للجزائر، لأسرةٍ من عرش أهل بن علي، إحدى أكبر عروش القبائل الهلالية بالجزائر، والده محمد بن الحاج، أمّا والدته فتدعى زينب بنت الحاج إبراهيم صيفي.
وكسائر العائلات الجزائرية المحافظة حينها، حرصت عائلة شعباني على تعليم ابنها الطاهر العلوم والمعارف، ففي سنة 1941، إذ أوفده والده إلى مدينة بسكرة لطلب العلم بالمدرسة المحمدية التي أسستها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فحفظ الطاهر القرآن الكريم في سن مبكرة، وتعلّم مختلف العلوم المتداولة.
في تلك الفترة كانت مدينة بسكرة مقصداً للكثير من العلماء الجزائريين، أبرزهم محمد العيد آل خليفة، والسعيد الزاهري، والطيب العقبي، ومحمد بلعابد السماتي، وغيرهم الكثير الذين تأثر بهم شعباني وآثر اللحاق بهم إلى بسكرة وهو في سنّ المراهقة حين انتقل إلى مدينة قسنطينة للدخول إلى معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس.
في بحثه المعنون بـ"دور ومواقف العقيد شعباني خلال الثورة وبعد الاستقلال " يذكر الأكاديمي الجزائري نصر الدين مصمودي بأنّ محمد شعباني لم تمنعه رحلته العلمية من حبّ الحياة، فكان محباً للفن، إذ يشاهد أفلام يوسف وهبي، وفريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب، ويستمع لأغاني وديع الصافي، والمطربة صباح، ويتابع عن كثب أخبار الثورة المصرية والتونسية والمغربية عبر جريدة "الأهرام" و"المصور"، وهي الجرائد التي كانت تصل إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
كما كان مرشّحاً للسفر إلى سوريا لاستكمال دراسته في الخارج، غير أنّ الإدارة الاستعمارية الفرنسية رفضت ذلك.
انضمّ للثورة باكراً وصار قائداً لولاية الصحراء
في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 1954، اندلعت ثورة الجزائر المسلحة، وبدأت معها ملاحم الجزائريين في شتى ربوع الجزائر، ولم يتخلف طلبة جمعية العلماء المسلمين عن الالتحاق بالثورة، فسرعان ما انضمّ الكثير منهم وشكلوا نواةً أساسية في تفجير الثورة وتشكيل جبهة التحرير الوطني، وكان من بينهم محمد شعباني الذي التحق بصفوف الثورة في مرحلتها الأولى سنة 1955، كما أشارت رسالة ماجستير في جامعة الجزائر بعنوان: "دور ومواقف العقيد محمد شعباني في الثورة ومطلع الاستقلال".
كانت عملية "الشقة" التي استهدفت ضرب شركة إنجاز الطرق في الجنوب الجزائري أهم وأبرز عمليات شعباني التي وضع من خلالها الحجر الأساس لانضمامه للثورة المسلحة، وأصبح كاتباً مساعداً للعقيد "سي الحواس" في ولاية الصحراء، وبعد فترة، تمت ترقيته إلى ملازم أول بالناحية الثالثة، ثم رقي إلى رتبة ضابط أول، بالمنطقة الرابعة "بسكرة"، حيث عمل إلى جانب الضابط الثاني علي بن المسعود، وفي مطلع عام 1959، وفي إطار هيكلة شاملة على مستوى الولاية، عين الضابط محمد شعباني على رأس المنطقة الثالثة "بوسعادة – بوكحيل"، وفق ما ورد في رسالة ماجستير أخرى نوقشت بجامعة محمد خيضر.
وبعد فقدان الولاية السادسة لقائدها التاريخي العقيد "سي الحواس"، تمّ انتخاب العقيد شعباني على رأس الولاية، لتكبر مسؤولياته خصوصاً أنّ تلك الفترة عرفت ترويج فرنسا قضية فصل الصحراء بعد اكتشافها للبترول، إضافةً إلى النشاط الكبير للحركات المناوئة للثورة كحركة بلونيس في المنطقة.
صراع ما بعد الاستقلال.. بن بلة وبومدين يخشيان الشاب شعباني
في الخامس من يوليو/تموز 1962، نالت الجزائر استقلالها، وصار بن بلة أوّل رئيس للجزائر المستقلة، والعقيد هواري بومدين أول قائدٍ لأركان الجيش الشعبي الجزائري، أمّا العقيد محمد شعباني البالغ حينها من العمر 28 سنة، فكان قائداً للناحية العسكرية الرابعة.
لم يلبث أن بدأ الصراع على السلطة يسطو على المشهد، فقد بدأ بن بلة سريعاً في البطش بمعارضيه بدءاً بصديقه محمد خيضر، ثم ملاحقة محمد بوضياف في ظروف اعتقال غامضة، وكذلك إلقاء القبض على حسين آيت أحمد، ثم نفي معارضيه أمثال فرحات عباس، وعبد الرحمـن فارس إلى الصحراء، فيما عزل أحمد فرنسيس من الحكومة.
في تلك الأثناء كانت مواقف محمد شعباني تأخذ أبعاداً أخرى، فقد عارض شعباني سياسة بن بلة وبومدين وقراراتهم فيما يخص تغيير اسم الجيش من جيش التحرير الوطني إلى مسماه الحالي الجيش الشعبي الوطني، وكذلك استقدام مجموعة من الضباط السامين في الجيش الفرنسي لاستكمال تكوين الجيش الشعبي الوطني، كما كان الاختلاف الإيديولوجي بين شعباني المتأثر بجمعية العلماء المسلمين ونهجها الإصلاحي، وبين بن بلة وبومدين الذين اختاروا النهج الماركسي الاشتراكي في الحكم.
ولعلّ النقطة المحورية في علاقة الثلاثي شعباني-بومدين-بن بلة كانت معارضة شعباني العلنية والشديدة لسياسة الاعتماد على الضباط الفارين من الجيش الفرنسي وتوليهم مناصب سيادية في الجيش، وذلك أثناء المؤتمر الأوّل لحزب جبهة التحرير الوطني الذي انعقد في أبريل/نيسان 1964، وقد طلب شعباني في هذا المؤتمر رسمياً من بومدين ألا يتعامل مع الضباط الفارين من الجيش الفرنسي وإبعادهم من مراكز صنع القرار، وأن يقتصر دورهم على الجوانب التقنية فقط، فكان ردّ بومدين على شعباني تصريحه الشهير: "ترى من هو الطاهر ابن الطاهر الذي يريد أن يطهر الجيش…".
بعذ ذلك المؤتمر، أصدر بن بلة وبومدين قراراً بإعادة هيكلة الجيش، وذلك بإبعاد العقيد شعباني عن الناحية العسكرية الرابعة وتغيير مقرها من بسكرة إلى ورقلة، واستقدامه إلى هيئة الأركان تحت قيادة بومدين، كما ورد في كتاب "نصف قرن من الكفاح" مذكرات العقيد الطاهر زبيري.
رفض شعباني قرارات بن بلة وبومدين، الأمر الذي جعل بن بلة يعتبره متمرداً ويطلب من الجيش حصاره واعتقاله، بعد أن تمّ تجريده من رتبه العسكرية وعزله من قيادة الأركان، وفي السابع من يوليو/تموز 1964، ألقي القبض على العقيد شعباني، ليمكث في السجن شهرين تعرض فيها إلى تعذيب شديدٍ، قبل أن تتم محاكمته في الثاني من سبتمبر/أيلول 1964.
إعدام شعباني.. وسؤاله عن طلبه الأخير من الرئيس
حُكم على قائد منطقة الصحراء خلال الثورة، العقيد محمد شعباني بالإعدام، وذلك بعد أن وجهت له تهماً من قبيل: "التعامل مع الاستعمار الفرنسي، وسعيه لفصل الصحراء عن الجزائر، وكذا رفضه الأمر العسكري، وذلك بعدم توجهه لمقاتلة قوات حسين آيت أحمد بمنطقة القبائل التي أعلنت التمرد على بن بلة".
وفجر الثاني من سبتمبر/أيلول 1964، أخرج العقيد البالغ عمره 30 عاماً مكبل اليدين ومعصوب العينين، من سجن سيدي الهواري بوهران إلى منطقة كنستال بوهران، حيث نفذ حكم الإعدام، وقبل التنفيذ سئل شعباني إن كان يودّ طلب العفو من رئيس الجمهورية، فرد عليهم شعباني: "أقسم بالله العظيم لن أطلب منه شيئاً وعند ربكم تختصمون، كما ورد في كتاب" العقيد محمد شعباني : الأمل… والألم" للكاتب الهادي أحمد درواز.
وبمناسبة مرور ثلاثينية اندلاع الثورة الجزائرية المسلحة، وعشرين سنة على إعدامه، أصدر الرئيس الجزائري حينها الشاذلي بن جديد مرسوماً رئاسياً يقضي برد الاعتبار والعفو الشامل عن جميع المناضلين والعسكريين الجزائريين الذين صدر في حقهم أحكاماً أثناء الثورة وبعد الاستقلال. ليتمّ نقل رفات العقيد محمد شعباني من وهران ليدفن في مربع الشهداء بمقبرة العالية بالجزائر العاصمة.