يُمكن القول إن النجاح الذي حققته أغنية "هي هي" المغربية، بنسختها المحدّثة، في كل أنحاء العالم العربي، زاد فضولنا لمعرفة تفاصيل أكثر عن مغنيتها الأصلية الحاجة الحمداوية، أيقونة فن "العيطة" الذي تندرج الأغنية تحته.
ليست الحاجة الحمداوية شخصية عادية، بل استثنائية بكلّ المقاييس. هي مغنية شعبية عاشت المجد الذهبي للأغنية المغربية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بعدما تحوّلت من المسرح إلى الغناء.
من أقدم المغنيات اللواتي طبعن مجال فن العيطة، ولم تكن مسيرتها الفنية سهلة أبداً، لا سيما أنها بدأت في وقتٍ كان يُنظر فيه إلى فن "التاشياخت" بالكثير من الريبة والتوجّس.
وحتى بعد ذلك، فزياراتها المتكررة إلى المخافر، وتجربة السجن، إضافةً إلى المضايقات التي تعرّضت لها من قِبل الاستعمار الفرنسي.. كلّ ذلك دفعها إلى ترك المغرب في يومٍ من الأيام.
وعلى الصعيد الشخصي، تعرّضت الحاجة الحمداوية خلال الثمانينيات والتسعينيات لنكسةٍ مادية كبيرة لم تكن أبداً في الحسبان، وذلك بعد بلوغها المجد في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات. وقد وصلت إلى مرحلةٍ من الفقر، لم تتمكّن خلالها من تأمين أبسط متطلبات الحياة اليومية، حتى ساعدها الملك محمد السادس.
عايشت الاستعمار والاستقلال، وما بعدهما، ولطالما شكّلت أغنياتها مصدرَ إزعاجٍ للاستعمار الفرنسي؛ وفي كلّ المراحل، بالمواجهات أو بالاحتفالات، صدح صوتها عالياً. عاصرت عهد الملك محمد الخامس، والحسن الثاني، ومحمد السادس، كما غنّت أمام ملوكٍ وأميرات في مسارح وداخل قصور.
وعن عمرٍ الـ91 سنة، رحلت نجمة الفن الشعبي المغربي بعد صراعٍ طويل مع المرض في أبريل/نيسان من العام الماضي 2021 – بعدما اعتزلت الفن قبلها بعام- تاركةً خلفها إرثاً فنياً لا يُنسى واسماً حُفر في الذاكرة الشعبية المغربية.
من المسرح إلى العيطة، فالسجن.. من هي الحاجة الحمداوية؟
وُلدت في حي "درب السلطان" بالدار البيضاء، في العام 1930، وكانت الابنة الوحيدة لوالديها. اسمها الحقيقي الحجاجية الحمداوية، وقد ترعرعت وسط أسرةٍ تعشق فن العيطة، لا سيما والدها، الذي كان لا يدع مناسبة تمرّ من دون الاحتفال بدعوة "الشيخات"، وهي فرقة غنائية نسائية تغني العيوط (جمع عيطة).
ورثت هذا العشق وحملته معاً عالياً، من الهواية إلى الاحتراف. عن عمر 19 سنة، تطلّقت الحاجة الحمداوية، لتدخل عالم الفن من خلال المسرح أولاً. كانت إحدى أعضاء فرقة الفنان المغربي الشهير بوشعيب البيضاوي، وهو ممثل كوميدي ومغنٍّ شعبي، أحد أبرز رموز فن العيطة في المغرب.
أحبَّ البيضاوي صوتها ولفت نظرها إلى بحّته الفريدة، فتحوّلت من المسرح إلى غناء العيطة- مع كلّ التحديات التي واجهتها وقتئذٍ- حيث لمع نجمها حتى صارت أغنياتها على كلّ لسانٍ، تاركةً بصمتها الخاصة على تراثٍ مغربي عمره قرون.
ووفقاً لموقع "سكاي نيوز"، كانت الحاجة الحمداوية ضيفة دائمة على مخافر الأمن الفرنسية في مرحلة الاستعمار، وقد عُرفت بمقاومتها للتواجد الأجنبي في المغرب من خلال الصوت والكلمة واللحن.
كانت أغنياتها تحمل رسائل مشفّرة ضدّ الاستعمار الفرنسي، الأمر الذي لم يُعجب سلطة الحماية الفرنسية حينها. فقد كان يتمّ استدعاؤها واستنطاقها، بعد كل أغنيةٍ تصدرها، للتأكد من كلمات الأغنية ومعانيها والتلميحات خلفها.
تعتبر أغنية "حاضيا البحر ليرحل" من أشهر أغنياتها، التي ما زالت حاضرة في مختلف المناسبات. لكن العلامة الفارقة في تاريخها الفني كانت حين غنّت "آش جاب لينا حتى بليتينا آ الشيباني، آش جاب لينا حتى كويتينا آ الشيباني، فمو مهدوم فيه خدمة يوم، مقدم الكرعة مات بالخلعة".
لم تكن تعلم أن هذه الكلمات ستكون سبباً لاعتقالها، بعدما اعتبرت سلطات الحماية الفرنسية في الدار البيضاء أن مضمونها موجَّه إلى بن عرفة، الذي كان عُيّن سلطاناً على المغرب، بعد نفي السلطان الشرعي آنذاك محمد الخامس.
وبعد خروجها من السجن، وبسبب التضييق الذي مارسته سلطة الاستعمار عليها خلال فترة الخمسينيات، هربت الحاجة الحمداوية إلى فرنسا قبل أن تعود إلى المغرب بعد الاستقلال.
تألق الحاجة الحمداوية.. أيقونة العيطة
كما تعرّضت الحجاجية للاعتقال والمضايقات في تلك المرحلة، كذلك عاش بعض نجوم العيطة من جيلها. فقد كانت الفرق الغنائية التقليدية تتنقل بين المدن بترخيصٍ مختوم من الإدارة الاستعمارية، كان يُحرم منه كلّ من يغني أنواعاً معيّنة من "العيوط"، يعتبرها الاستعمار الفرنسي تحريضية ضدّه.
في فرنسا، تألقت الحاجة الحمداوية وقدّمت أغنيات كُرّست أساسية في مشوارها الفني، لكن المضايقات والاستجوابات لم تتوقف من قِبل السلطات، فقرّرت الرجوع إلى المغرب بعد عودة السلطان محمد الخامس من المنفى.
بدأ نجمها يلمع بعد الاستقلال، محققةً نجاحاً تلو الآخر. غنّت في القصور الملكية خلال عهد 3 ملوك، محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس، كما غنّت في حفلات الجنرال محمد أوفقير، وشاركت في إحياء زفاف الملك محمد السادس وشقيقه الأمير الرشيد.
حافظت الحاجة الحمداوية على التراث، لكنها أعطته طابعاً عصرياً؛ وفي حديثٍ إلى "الجزيرة.نت"، يقول الباحث المتخصّص في فن العيطة حسن نجمي إن "كلمات أغانيها مأخوذة من معجم العيطة بتوزيعٍ موسيقي عصري، أي أنها أخضعت العيطة لمقتضيات التوزيع الموسيقي الأوركسترالي، مما جعل فنّها سريع الانتشار ويلامس العمق والوجدان المغربي العام".
ويوضح أن هذا التجديد لم يكن "تجديداً كاملاً مبنياً على القطيعة مع أشكال الموسيقى التقليدية، بل بقي مرتبطاً بالشكل التقليدي، ولكن في الوقت ذاته دخله نفسٌ مختلف ونوع من التطوير الداخلي".
في وقتٍ كانت الخطوط الحمراء كثيرة أمام النساء، فكيف في زمن الاستعمار الفرنسي، أصرّت الحاجة الحمداوية على ممارسة شغفها وتحقيق حلمها، متحديةً كلّ الحواجز الشخصية والسياسية.
تمكنت الحاجة الحمداوية من أن تكون فنانة الشعب، وقد نجحت في إيصال العيطة إلى كلّ العالم العربي، بعدما كان سلاحها بوجه الاستعمار الفرنسي. صدحت بصوتها كلاماً يعبّر عن الناس وقضاياهم اليومية، فغنّت "منين أنا ومنين أنت"، "هزو بينا العلام"، "أنا حاضية البحر لا يرحل"، "دابا يجي يا الحبيبة"، "مشا سيدي مول التاج وجا بنعرفة مول العكاز"، و"آويلي الشيباني دابا يعفو يتوب".
لن ينسى المغربيون مغنيتهم التي لطالما حرصت على ارتداء القفطان المغربي الأنيق، وحمل دفّها الشهير الذي لم يفارقها خلال كلّ حفلاتها، على مدى أكثر من سبعة عقود.