إذا قررت زيارة المكان فقد يبدو الوصول سهلاً، حارة الخرنفش المتفرعة من أكبر متحف مفتوح في العالم، شارع المعز لدين الله الفاطمي، عطفات صغيرة بعدها حتى تخطف أنظارك نجمة داوود على بوابة حديدية لأحد المنازل، حتى تصل لمعبد موسى بن ميمون في نهايته. أنت الآن في حارة اليهود في مصر، هنا سكنت "فاطمة وماريكا وراشيل" جنباً إلى جنب، كما سكنّ قلب محمد فوزي في أغنيته الشهيرة، صحيح أن الغلبة كانت لليهود، لكن ضمن "كوكتيل" مصري، مرّ عليه عبد الناصر وليلى مراد، وعدد من وجوه الستينيات الشهيرة.
بين جنبات الحارة يجلس عم كرم رضوان في دكانه الصغير، المقابل لمدرسة النصر بحارة اليهود، لم يبعده الزمان كثيراً عن مدرسة صباه، حيث رست سفينة العمر في دكان والدته، مُطلاً على بوابة مدرسة الإسرائيليين القريبين "سابقاً"، وذلك بعد تقاعده من عمله محاسباً في إحدى الهيئات الحكومية.
يستدعي الرجل الستيني مشاهد حارة اليهود من ذاكرته منذ عقود، ويروي "الناس هنا باختلاف ديانتهم كانوا زي أهالينا ونفس تقاليدنا، أطباق الأكل رايحة جاية بينا، لو سمعوا صوتك بمكروه يجروا يطمنوا عليك".
سكنها جمال عبد الناصر
لا يخفى في أي حديث مع سكان حارة اليهود أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر مر من هنا، وسكن في الحارة لعدة سنوات أثناء طفولته، تتهلل أساريرهم بزهو، وسرعان ما يشيرون بأيديهم إلى منزل المعلم يعقوب شمويل، الذي احتضنت إحدى شققه صبياً جاء من الإسكندرية ليسكن مع عمه، ارتاد جمال مدرسة النحاسين الابتدائية، وتقع في شارع المعز، بجوار مجمع السلطان قلاوون، على بعد خطوات من المنزل.
واعتاد الحلاقة لدى حلاق شهير يُدعى "عم أحمد"، يشارك كرم رضوان، نجل أحد أكبر تجار الماني فاتورة بالحي، الذي يضج بأقدم الصناعات وأعتى الصنايعية، حكايات عم أحمد عن الصغير، فيروي أن جسده الصغير كان يغوص في كرسي الحلاق، فما كان من الرجل العجوز إلا أن يحضر خشبة صغيرة تصلح كمقعد ويثبتها أعلى مسندَي الكرسي، فترقى بالصبي عدة سنتيمترات كافية للتمكن من التعامل مع رأسه، وخروجه سعيداً في أبهى صورة.
يتداول أهل الحي روايات تبدو مؤكدة عن سكن موشي ديان نفس المنزل الذي سكنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وذلك من دون أي أدلة، فيما لم يذكر وزير الدفاع الإسرائيلي خلال حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول، في مذكراته، أنه سبق أن زار مصر أبداً حتى الستينيات بعد حرب 1967.
ليلى مراد وزيارات المعبد
يؤكد طارق أحمد، أحد السكان القدامى، تردد الفنانة ليلى مراد وشقيقها منير مراد على حارة اليهود، بينما يشير الكاتب الكبير راغب السرجاني إلى استياء اليهود عند اعتناقها الإسلام بعد زواجها من أنور وجدي، وأنها كانت تتردد على معبد ابن ميمون الشهير بنهاية الحارة، وطلبت من رجال الدين هناك الصلاة على روح والدها الراحل زكي مراد، وهو المعبد الذي يشهد حتى الآن زيارات سياحية من اليهود والأجانب من مختلف دول العالم حتى الآن.
وعن ذكرياته مع يهود الحارة يقول الرجل الخمسيني "بيتنا على ناصية الشارع كان فيه مسلمون ومسيحيون ويهود، كان الدين لله والوطن للجميع"، حتى إنه يتذكر جارتهم اليهودية "راشيل"، التي كانت تساعد أطفال المنزل في مذاكرة دروسهم، وتبادل مربى العنب والرمان مع عائلتها، ولا يلبث أن يحكي عن امرأة عجوز تُدعى "ماريا"، وتمسكها بالأودش، وهو منزل يهودي متعدد الحجرات "كانت تسكن قريباً من معبد ابن ميمون، ورفضت مغادرة بيتها، ودائماً تقول أنا عايشة هنا ومتربية هنا أمشي ليه؟!" يكمل طارق، أحد العاملين في صناعة الحلي، توفيت من 9 سنوات تقريباً، ومازال بيتها على حالته مغلقاً، ويشير إلى أنه في نهايات وجودهم تسرّبت مشاعر الاحتقان ضدّهم، بسبب الأحداث السياسية، لكنه ينفي احتمالية تجنيد الموساد لبعض يهود الحي قائلاً "مستحيل دول أهلنا ومتربيين مع بعض".
هجرة بعد العدوان الثلاثي
بدأت هجرات اليهود من مصر عامة خلال الحرب العالمية الثانية؛ خوفاً من الألمان، وزادت الهجرات بعد العدوان الثلاثي على مصر في الخمسينيات، ثم بعد إصدار القوانين الأشتراكية في أوائل الستينيات، وهو ما انعكس بدوره على وجودهم في حارة اليهود، يُكمل عم كرم قائلاً "كتير منهم رفضوا يهاجروا لإسرائيل، الأراضي المحتلة، خاصة بعد عنصريتهم واضطهاد يهود الشرق الأوسط، واضطروا إلى الهجرة إلى أوروبا وأمريكا أو بلاد المغرب أو البلاد الإفريقية"، مغادرة اليهود لم تكن أخباراً سارة لكل أهل الحارة، ومن إحدى أكثر الروايات شيوعاً هناك رواية "بيت النبقة"، في حارة الكنيسة، وهي حارة تصل شارع المعز بشارع بورسعيد، يحكي عم كرم أنه بيت ليهودي كان قد زرع فيه شجرة نبق، وبعد هجرته إلى المغرب أبت أن تُنبت الشجرة حزناً عليه.