بعد وفاة صاحبه جون غراي أمضى غريفريارس بوبي السنوات الـ14 التالية في حراسة قبره، من دون أن يغادره إلا لتناول الطعام مرة واحدة في اليوم، حتى وفاته في 14 يناير/كانون الثاني 1872.
بدأت القصة حين أصبح رجلٌ كبير السن من العاصمة الأسكتلندية إدنبره، ويُدعى جون غراي، حارساً ليلياً بالشرطة في أواسط خمسينيات القرن التاسع عشر؛ واختار كلب حراسةٍ بهدف مرافقته، في الليالي الطويلة المتخمة بمهام الحراسة.
كان هذا الكلب صغير الحجم وينتمي إلى سلالة "سكاي تيرير"، فأطلق عليه جون اسم بوبي؛ كان ذكياً، محباً للمغامرات، والأهم أنه بقي وفياً لوظيفته في مرافقة غراي حتى بعد وفاته.
قصة بوبي مشهورة كثيراً في أسكتلندا، وقد أُنتج عنها عدة أفلام، كان آخرها The Adventures of Greyfriars Bobby في العام 2005، من إخراج جون هندرسون. كما يُعتبر التمثال التذكاري لبوبي وسط أحد شوارع إدنبره معلماً سياحياً.
غريفريارس بوبي وجون غراي
ظل هذا الثنائي يسير في دورياته الليلية بشوارع إدنبره المرصوفة بالحجارة، وكانا يتوقفان عند المكان نفسه خلال كل مناوبة، للحصول على القهوة. ولكن بعد عدة سنوات من أداء الوظيفة معاً، شخََص الأطباء إصابة غراي بمرض السل. تطور المرض وتوفي في فبراير/شباط من العام 1858.
دفن أهل البلدة جون غراي في مدافن غريفريارس كيركيارد، تاركاً بوبي محطم القلب، لدرجة أنه رفض مغادرة موقع مقبرة صاحبه. وقد قيل إنه بقي حارساً على قبر غراي كل يوم وليلة، مهما كان حال الطقس، ولا يغادر الموقع إلا مرة واحدة لتناول وجبته اليومية.
تقول الرواية إنه عندما كان يُضرب مدفع "ميلز ماونت" في قلعة إدنبره عند الواحدة ظهراً من كل يوم، كان الكلب يركض بدوره متجهاً إلى النقطة التي كان يقف عندها غراي كل مناوبة لتناول القهوة، وهو مقهى "تريلز تيمبرانس كوفي هاوس". كان جون تريل المالك في ذلك الوقت، وكان يحرص يومياً على تناول بوبي وجبته.
تعاطفت البلدة كلها مع الكلب الصغير واعتنت به؛ وحتى بعد محاولة طرده في البداية من موقع المقبرة، سلم حراس المقبرة بالأمر الواقع، وشيدوا مأوى صغير للكلب الحزين.
وحتى في العام 1867 -أي بعد 9 سنوات من وفاة صاحبه- عندما سنَّ المسؤولون قانوناً ينص على التخلص من جميع الكلاب الضالة التي لا تحمل رخصة، لم يُطبق القانون على بوبي. فقد دفع لورد إدنبره والسير ويليام تشامبرز مصاريف إصدار ترخيصٍ لبوبي، واشتريا طوقاً له، حمل عبارة: "غريفريارس بوبي، للورد بروفوست-1867، مُرخص".
ظل الكلب يحرس المثوى الأخير لجون غراي طيلة 14 سنة. وفعل هذا بإخلاص ووفاء لمس قلوب جميع من سمعوا بقصته. وقد توفي في العام 1872، ومنحته البلدة مقبرة خاصة قريبة من مقبرة جون غراي، بجوار البوابات الداخلية لمدافن غريفريارس كيركيارد.
تمثال غريفريارس بوبي.. معلماً سياحياً
نصب مجلس المدينة تمثالاً من الغرانيت للكلب، يقع أمام المقبرة التي دُفن فيها مع صاحبه غراي. ونُفذ هذا الأمر بناءً على طلب من البارونة أنجيلا جورجينا بورديت كوتس، رئيسة لجنة السيدات في الجمعية الملكية لمنع القسوة على الحيوانات (RSPCA).
كُشف النقاب عن التمثال من دون مراسم في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1873، أي بعد عامٍ من رحيل بوبي. وتقول اللوحة الموجودة أسفل التمثال: "غريفريارس بوبي.. توفي في 14 يناير/كانون الثاني عام 1872، عن عمر 16 سنة. ليكن وفاؤه وإخلاصه درساً لنا جميعاً".
مع الوقت، درجت العادة بأن يفرك السياح أنف تمثال بوبي لجلب الحظ؛ وبسبب ذلك، أُزيل طلاء الأنف، ما جعله يبدو أفتح وأكثر لمعاناً من باقي أجزاء التمثال.
وعلى مدى سنوات، بقيت روح غريفريارس بوبي على قيد الحياة، بسبب الروايات والفيديوهات والأفلام التي تناولت قصته، فضلاً عن الدمية التي قررت شركة إدنبره للألعاب صناعتها على هيئته.
الجدل المثير للدهشة حول غريفريارس بوبي
من السائد خضوع الحكايات لتغييرات طفيفة مع مرور الوقت، أو أنها أحياناً تُنمق وتُضاف إليها بعض السرديات بهدف تجميلها. وبطبيعة الحال، لم تكن حكاية بوبي استثناءً من هذه القاعدة.
فقد أرسل شخصان خطابين متعارضين إلى صحيفة The Scotsman الأسكتلندية في العام 1889، بعد أن نشرت تقريراً عن الكلب الوفي. ادعى كلا الرجلين وجود علاقة وثيقة بينهما وبين مدافن غريفريارس كيركيارد، وأنهما كانا يعرفان الكلب جيداً. غير أن كلاً منهما حمل آراء متناقضة حول صحة القصة بحسب الطريقة التي تُروى بها، وحتى بعد مرور 17 عاماً.
كتب المؤرخ والكاتب الأسكتلندي فوربس ماكغريغور كتاباً عن الكلب غريفريارس بوبي، ذكر فيه تفاصيل بعض التناقضات التي حملتها الرواية. بادئ ذي بدء، جلب الإعلان عن قصة الكلب مزيداً من السياح إلى البلدة، مما يعني أن الزيارات ستدر مزيداً من المال.
لكن السؤال الذي بقي يُطرح في هذا الإطار: هل تمت الاستعانة بكلبٍ يُشبه بوبي بعد وفاة الكلب الحقيقي، لاستقطاب مزيدٍ من السياح؟
يؤمن المؤلف جان بوندسونر بوجود كلبين، وهي حقيقية ذكرتها عدة مصادر في العام 2011؛ حتى إن البعض ذهب أبعد من ذلك، والاعتقاد بأن أياً من الكلبين كان من سلالة سكاي تيرير، الذي كان بوبي ينتمي إليها.
السبب الرئيسي لهذا الاعتقاد هو أن متوسط عمر كلاب سكاي تيرير يتراوح بين 10 و12 عاماً. وبحسب القصة التي تُروى دائماً، فإن غريفريارس بوبي عاش ما لا يقل عن 16 عاماً. قد تعيش هذه السلالة إلى هذا العمر، لكن ذلك ليس شائعاً للغاية.
كذلك.. فقد اتضح أن جون تريل لم يستلم إدارة المطعم القريب من المقبرة إلا بعد 4 سنوات من وفاة جون غراي. وفي واقع الأمر، كان غراي (وكذلك بوبي) يتناولان الطعام أحياناً في "غراس ماركت" بعد مناوبة الليل.
والأهم أنَّ ضرب المدفع في تمام الواحدة ظهراً لم يبدأ إلا في العام 1861، أي بعد ثلاث سنوات من وفاة غراي. ويبدو أن الرقيب سكوت، الذي كان يعمل في قلعة إدنبره سمع بالكلب وصاحبه. ويفترض كتاب ماكغريغور أن سكوت هو الشخص الذي علّم بوبي الذهاب إلى المطعم عند سماع صوت المدفع.
إرث غريفريارس بوبي المحبّب
على أي حال، تعد الصورة البلاغية للكلب الوفي الذي لم يغادر مقبرة صاحبه، حكاية فلكلورية موجودة في عدة أماكن خارج إدنبره. ففي واقع الأمر، ثمة حكايات كهذه في جميع أنحاء العالم.
وقصة بوبي تستحضر ذكريات كلاب وفية شهيرة أخرى، أشهرها قصة الكلب هاتشيكو في اليابان، التي تحولت إلى فيلمٍ سينمائي شهير لعب بطولته ريتشارد غير في العام 2016، وحقق نجاحاً شعبياً كبيراً حول العالم.
يقول متحدث باسم منظمة VisitScotland الحكومية السياحية، إنه بغض النظر عن حكاية الكلب غريفريارس بوبي، فإن "فصل الحقيقة عن الأسطورة يكون خادعاً دائماً".
ويتابع: "بعيداً عن مدى تحور القصة على مدى السنوات، لم يمنع ذلك السياح من تكريم أيقونة أسكتلندية حقيقية. إنني متأكد من أن الناس سوف يواصلون زيارة إدنبره؛ كي تلهمهم قصة بوبي، وأنه يستحق موضعه في التاريخ الأسكتلندي".تجدر الإشارة أخيراً إلى أن متحف إدنبره يحتفظ بطوق بوبي وصحن الطعام الخاص به، إضافة إلى تمثال لهذا الكلب الشهير الذي توفي في العام 1872.