يعرف كثيرون قصة هيرو أونودا، الجندي الياباني الذي رفض التصديق بأن الحرب العالمية الثانية قد انتهت ولم يستسلم إلا في فبراير/شباط 1974، ويُوصف أونودا كثيراً بأنه آخر المُرابطين الذين لم يبرحوا مواقعهم إلا بعد عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكنّ تل المعلومة غير صحيحة، إذ أعقبه جندي آخر عُثر عليه بعده بعشرة أشهر، وكان اسمه تيرو ناكامورا.
تيرو ناكامورا جندي ياباني رفض الاستسلام في الحرب لـ30 عاماً
هناك جنود يابانيون واصلوا القتال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، هؤلاء الجنود اليابانيون المتبقون هم مجموعة من الجنود التابعين للجيش الإمبراطوري الياباني الذين خاضوا الحرب العالمية الثانية، ولم يقتنعوا بنهايتها بعد استسلام اليابان، يوم 2 سبتمبر/أيلول عام 1945، فواصلوا مواجهة العدو كل حسب طريقته من بينهم ناكامورا.
في 18 ديسمبر/كانون الأول 1974 انتشرت أخبار وفقاً لما ذكره موقع All That's Interesting الأمريكي بأن عسكرياً يابانياً واحداً لم يعرف قط أن الحرب وضعت أوزارها.
عُثر على ناكامورا في جزيرة موروتاي في إندونيسيا، التي كانت موقع تمركزه في عام 1944.
وكان المعلوم للناس أن معركة شرسة شهدها هذا الموقع في سبتمبر/أيلول من ذلك العام، وأن ناكامورا قد مات بين من ماتوا فيها، إلا أن حقيقة الأمر أنه لجأ إلى أدغال غابة الجزيرة، ومعه عدد من الجنود اليابانيين، وانهمكوا في الإعداد لشنِّ حرب عصابات على عدوهم كما كانت قيادتهم قد أمرتهم.
لم يظهر هذا المُرابط الأخير من مرابطي الحرب العالمية الثانية إلى العلن إلا بعد 30 عاماً من العيش في ما يشبه العزلة التامة، ليجد أن العالم الذي كان يعرفه قد تغيرت ملامحه وتبدَّل إلى عالم آخر.
وقد استدعى العثور على تيرو ناكامورا نقاشاً عاماً حول مسائل الولاء، والانتماء للعرق، ودعم المحاربين القدامى.
التحق بالتجنيد في سنة 1943 ولم يعد إلى بيته إلا بعد 30 عاماً
وُلد تيرو ناكامورا أتون بالاليْن، الذي يُعرف أيضاً باسم "سانيو"، في تايوان في 8 أكتوبر/تشرين الأول 1919، وينحدر من قبيلة "آميس"، وهم قوم من السكان الأصليين التايوانيين، وقد نشأ ناكامورا نشأة فقيرة في جبال الجزيرة.
كان هذا التنوع في الأصول الثقافية لنشأة ناكامورا سبباً في كثير من الجدال لاحقاً حول مسيرة حياته، غير أن أحداً لم يلتفت إليها بالطبع حين التحق ناكامورا بوحدة تاكاساغو للمتطوعين في الجيش الإمبراطوري الياباني في نوفمبر/تشرين الثاني 1943.
تمركز ناكامورا في جزيرة موروتاي الواقعة، فيما عُرفت آنذاك بجزر الهند الشرقية الهولندية (إندونيسيا حالياً) بعد مدة وجيزة من تجنيده.
ثم هاجمت القوات الأمريكية والأسترالية الجزيرة في 15 سبتمبر/أيلول 1944، في الحملة العسكرية التي عُرفت باسم "معركة موروتاي".
قاتل الجنود اليابانيون بضراوة، لكن عدوهم كان يفوقهم عدداً وعدة، فألحق بهم خسائر فادحة، ثم استسلم عدد كبير من الجنود الباقين لقوات الحلفاء، ولاذ بعضهم بأدغال الغابة كثيفة الأشجار بالجزيرة.
"قائدي العسكري أمرني بأن أحارب، وهذا ما فعلته"
ووفقاً لما ذكرته مجلة Time الأمريكية، فإن وحدة ناكامورا كانت قد تلقت أوامر باللجوء إلى حرب العصابات إذا وقعت في حالة كهذه.
ويسترجع ناكامورا هذه الذكرى في حديثه للمجلة بعد سنوات طويلة، بالقول: "قائدي العسكري أمرني بأن أحارب، وهذا ما فعلته".
أُسر عدد كبير ممن بقوا بالجزيرة من جنود الجيش الياباني في بضعة أشهر، واستسلم بعضهم ومات آخرون مرضاً أو جوعاً.
لكن تيرو ناكامورا بقي مع القليل من الجنود المعزولين الذين أن يبقوا متمسكين باتباع الأوامر حتى وإن انقطعت جميع سبل التواصل مع العالم الخارجي.
لم يرد في السجلات أي ذكر لاستسلام ناكامورا، ما دفع الجيش الياباني لإعلان وفاته في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1944، ولم تعرف عائلته الحقيقة إلا بعد 30 عاماً.
كيف عاش ناكامورا حياة العزلة؟
أقام تيرو ناكامورا في جزيرة موروتاي ومعه بقية من الجنود اليابانيين مدة 12 عاماً، ولأنهم فقدوا سبل الاتصال اللاسلكي بقادتهم، لم يعلموا بانتهاء الحرب.
وعندما تلقوا المنشورات التي أُلقيت فوق الجزيرة عام 1945 لتُعلم سكانها بأن اليابان استسلمت وأن الحرب انتهت، أنكرها ناكامورا ورفاقه وظنوها دعاية مغرضة من العدو.
ناكامورا ظن أن الحرب لا تزال مستمرة بسبب الطائرات التي ظلت تحلق باستمرار فوق الجزيرة، وفقاً لما ذكرته صحيفة Taipei Times التايوانية.
وحين أصبحت الطائرات المحلقة أحدث، ظنَّ أن الأمر ما هو إلا سباق تسلح يجري بين قوات الحلفاء والمحور، والواقع أنها لم تكن إلا قاعدة جوية إندونيسية قريبة، وأنه كان يشاهد طلعات التدريب اليومية.
ترك ناكامورا رفاقه الجنود في عام 1956، وانطلق وحده، ويُقال إنه فعل ذلك لخلاف وقع مع رجال آخرين وإنهم حاولوا قتله.
ثم بنى كوخاً في أحد الحقول، واعتاش من زراعة البطاطا الحلوة وأكل الموز من الأشجار واصطياد الأسماك، بينما لم يكن يطبخ إلا حين يخيم الظلام خشية أن يرى الأعداء دخان ناره.
كيف كان يعدّ أيامه؟
أحصى تيرو ناكامورا الأيام مستعيناً بحساب دورات القمر، وتتبَّع الأشهر والسنوات بعُقدٍ كان يربطها في حبل.
قال ناكامورا بعد ذلك في حلقة بثتها مدونة Skeptoid الصوتية: "استرحت إلى العيشة الساكنة، ومع أني عشت منفرداً بلا رفيق أتحدث إليه، بدا لي أن في غائر صدري بصيص أمل واستبشار، وما تبقى لي من أثر السعادة في ذلك الوقت كان مردُّه أنني ما زلت حياً، ولم ينقطع عني الإحساس بنعمة الوجود بعدُ، ومن ثم فقد أصبح البقاء حياً هو همّي الوحيد، واستنفد مني ذلك جلَّ وقتي".
وأضاف ناكامورا أنه تواصل في وقت ما مع رجل من منطقة محلية قريبة يُدعى بايكولي، وهو من أمدَّه ببعض الاحتياجات الأساسية ووسائل الراحة، مثل الشاي والقهوة، وقد استمر ذلك عدة سنوات حتى تُوفي بايكولي.
غنوا النشيد الوطني للبلاد لإغرائه بالظهور
تشير تقارير إلى أن نجل بايكولي هو من عرَّف السلطات موقع تيرو ناكامورا خوفاً من تدهور حالته الصحية، فيما يقول آخرون إن طياراً اكتشف كوخ ناكامورا أثناء تحليقه فوق الجزيرة.
مهما كانت الوسيلة التي عرفت بها السلطات خبر ناكامورا، فإن الثابت أن الحكومة الإندونيسية أُبلغت في نوفمبر/تشرين الثاني 1974 أن مجموعة من الجنود اليابانيين قد يكونون اتخذوا من جزيرة موروتاي مستقراً لهم منذ الحرب العالمية الثانية، ومن ثم تواصلت إندونيسيا مع السفارة اليابانية لتنظيم حملة بحث عن الجنود.
رفع فريق البحث عن ناكامورا علمَ اليابان، وغنوا النشيد الوطني للبلاد لإغرائه بالظهور لهم، وقد نجحوا في ذلك، فقد كشف ناكامورا عن نفسه في 18 ديسمبر/كانون الأول 1974، وقد كان له من العمر وقتها 55 عاماً.
رغم ما فعله فإن اليابانيون لم يعترفوا به!
حين عاد ناكامورا إلى بيته، أدرك قدر التغيير الذي وقع به وبأهله، فقد مات والديه، وابنه الذي كان رضيعاً عندما التحق بالتجنيد، أصبح رجلاً راشداً وله أربعة أطفال، وقد تزوجت زوجه رجلاً آخر.
ثم اندلع الجدل حول قضية معاش تيرو ناكامورا، فقد كانت تايوان مستعمرة تابعة للإمبراطورية اليابانية عندما التحق ناكامورا بالجيش عام 1943.
ثم أمضى ناكامورا 30 عاماً في موروتاي، أصبحت فيها تايوان تحت حكم جمهورية الصين الشعبية.
ومع أن ناكامورا حارب في صفوف الجيش الإمبراطوري الياباني، فإن الحكومة اليابانية امتنعت عن إعادته وحبست عنه معاشه التقاعدي الذي كان يستحقه، زاعمةً بأنه لم يكن مواطناً يابانياً كامل المواطنة إذا التزمنا الحدود الجغرافية لليابان.
عاش ناكامورا 4 سنوات في هدوء وسكينة مع أسرته، ثم هزمه سرطان الرئة في معركته الأخيرة في 15 يونيو/حزيران 1979.
ومع أنه أمضى ما يقرب من نصف حياته في عزلة عن العالم، فإن تيرو ناكامورا ترك وراءه سيرةً حسنة عن رجلٍ شجاع وجندي أخلص في خدمة بلاده.