لم تكن جنين، الواقعة شمال الضفة الغربية، شوكةً في حلق المحتلين الإسرائيليين فحسب، فلطالما كانت شعلة للمقاومة حاربت الاحتلال الفرنسي فانتقم منها جنود نابليون بونابرت بحرق منازلها وتهجير أهاليها، وقاومت الاحتلال البريطاني فجاء الانتقام البريطاني بتفجير قرابة ربع المدينة.
جنين أو "عين الجنائن".. مسرى المسيح ومسرح "عين جالوت"
وفقاً لعلماء الآثار فقد أسس الكنعانيون مدينة جنين حوالي عام 2450 قبل الميلاد، مما يجعلها واحدة من أقدم مدن العالم التي لا تزال مأهولة بالسكان، وورد اسم هذه المدينة في مصادر وآثار المصريين القدماء والبابليين والآشوريين.
ولم تُعرف بهذا الاسم إلا بعد الفتح الإسلامي، فقد كان اسمها سابقاً "عين جانيم" الذي يعني "عين الجنائن".
في العصر الحديث اكتسبت المدينة أهمية؛ كونها مركزاً لمقاومة المحتلين الفرنسيين والبريطانيين والإسرائيليين، أما فيما مضى فقد كان للمدينة أهمية دينية في المقام الأول؛ إذ تعتبر خامس الأماكن المقدسة عند المسيحيين، وذلك لمرور المسيح فيها أكثر من مرة في طريقه من الناصرة إلى القدس، كذلك فقد شفى المسيح 10 من البرص المنعزلين في مغارة بطرف قرية برقين التابعة للمدينة.
وفي أوائل القرن الرابع الميلادي، أقام قسطنطين الكبير كنيسة برقين المعروفة بكنيسة جرجس، التي أصبحت طريقاً للحجاج المسيحيين ما بين الناصرة وبيت لحم.
وبعد الفتح الإسلامي تعاقب الأمويون والعباسيون على حكم المنطقة، ومع انهيار الدولة العباسية تمكَّن الصليبيون من احتلال جنين عام 1103، لتعود ثانية إلى حكم المسلمين بعد أن حرَّر صلاح الدين الأيوبي القدس.
مع حلول عام 1255 أصبحت جنين تابعة للمماليك، وفي شمال المدينة قامت معركة "عين جالوت" التي تعتبر واحدة من أهم المعارك في التاريخ الإسلامي حيث انتصر فيها المماليك على المغول.
ازدهرت المدينة في عهد العثمانيين، وعاشت فترة من الاستقرار قبل أن تصبح مركزاً لمقاومة الاحتلال، بدءاً بالاحتلال الفرنسي ومروراً بالاحتلال البريطاني وانتهاء بالاحتلال الإسرائيلي.
جنين.. حصن في سفح "جبل النار"
تقع جنين عند سفح "جبل النار"، الذي اكتسب اسمه ذاك من حادثة ترمز لمقاومة أهالي المدينة للاستعمار، ويعود تاريخها إلى عام 1799.
في ذاك الحين، كانت فلسطين -كسائر بلاد الشام- تعيش في ظل الدولة العثمانية، وكان الاحتلال الفرنسي يتجهز لغزوها بقيادة نابليون بونابرت.
وعندما بدأت القوات الفرنسية في الزحف باتجاه مدينة جنين، لم يتردد سكانها في إضرام النار في حقول الزيتون والبساتين التي تشكل المصدر الأساسي لرزقهم، بهدف منع القوات الفرنسية من التقدم. وعندما بات النصر حليفاً للفرنسيين، جاء الرد من قوات نابليون بأن أحرقوا المدينة ونهبوا بيوتها انتقاماً من أهاليها الذين ساعدوا العثمانيين.
ولم تستسلم جنين عندما وقعت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى عام 1918، بل تشكلت فيها بذرة مقاومة جديدة، وكانت حاضنة شعبية لثورة عز الدين القسام.
اغتيال مساعد مفوّض اللواء البريطاني في مكتبه
طوال فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين لعبت جنين دوراً مركزياً في المقاومة، ففي عام 1935 أنشأ عز الدين القسام أول تنظيم للمقاومة المسلحة، ووجد في جنين حاضنة شعبية من المؤمنين بالثورة والداعمين لها.
وعقب وفاته، تسلَّم القيادة من بعده فرحان السعدي، الذي وُلد في قرية المزار الواقعة في قضاء جنين، وبذلك تحولت المدينة إلى مركز للمقاومة الفلسطينية.
واستمرت المدينة بلعب دور فاعل أثناء الثورة العربية التي امتدت ما بين عامَي 1936 و1939، حتى إن المقاومين اغتالوا مساعد مفوض اللواء البريطاني في مكتبه في جنين عام 1938.
وكما أحرقت قوات نابليون جنين انتقاماً من مقاومة أهاليها للاستعمار الفرنسي، دخلت القوات البريطانية بالمتفجرات إلى المدينة، وتم تفجير قرابة ربع مساحتها.
وعلى الرغم من الانتقام البريطاني المروِّع من أهالي جنين، فإنهم لم يستسلموا للاحتلال واستمروا في المقاومة، حتى إن جيش التحرير العربي بقيادة فوزي القاوقجي استخدم جنين كقاعدة في حرب فلسطين عام 1948، التي كانت الحرب الأولى في تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
جنين تحت الحكم الأردني
بعد نكبة عام 1948، واحتلال الإسرائيليين للأراضي الفلسطينية، وقعت جنين كذلك تحت الاحتلال الإسرائيلي خلال "قتال العشرة أيام"، لكن ذلك لم يستمر لفترة طويلة؛ إذ استطاع أهالي جنين تحريرها بمساعدة الجيش العراقي.
وبعد اتفاقيات الهدنة لعام 1949 بين إسرائيل ومصر ولبنان والأردن وسوريا، أصبحت جنين تحت الحكم الأردني وتم ضمها للأردن عام 1950، وفقاً لـ Britannica.
ومع حلول عام 1953 أسست الحكومة الأردنية مخيم جنين لإيواء الفلسطينيين النازحين الذين استولت القوات الإسرائيلية على منازلهم بعد النكبة.
وبقيت جنين تحت الحكم الأردني إلى أن احتلتها إسرائيل ثانية بعد حرب عام 1967، ومنذ ذلك الحين لم تهدأ المقاومة في جنين حتى بعد أن أصبحت المدينة ومخيمها تابعَين للسلطة الفلسطينية.
هل قضت إسرائيل على "عش الدبابير" حقاً؟
لا تزال جنين تقاوم الاحتلال الإسرائيلي إلى اليوم، وتتصدر من فترة إلى أخرى عناوين الأخبار ولعل "السور الواقي" كان أبرز المعارك التي كان مسرحها مخيم جنين المقاوم.
ففي عام 2002 على سبيل المثال، شنَّت القوات الإسرائيلية هجوماً على مخيم جنين في عملية أطلقت عليها تل أبيب اسم "السور الواقي"، فطوَّقت المخيم بالكامل بالدبابات وقوات المشاة، وفي المقابل شكَّل المقاومون غرفة عمليات مشتركة من كافة الفصائل وجهزت 200 مقاوم مسلحين بالبنادق والعبوات بدائية الصنع.
استطاع المقاومون في البداية قتل 13 جندياً إسرائيلياً وإصابة 15 آخرين، وذلك عن طريق نصب الكمائن المفخخة في أزقة المخيم؛ لذلك قرَّر رئيس أركان جيش الاحتلال شاؤول موفاز منع الماء والكهرباء والطعام عن أهالي المخيم وقصفه بالطائرات والمدفعية؛ الأمر الذي أسفر عن هدم جزء من المخيم وتسويته بالأرض.
حيث دمَّر الاحتلال في تلك العملية 455 منزلاً بالكامل كما ألحق ضرراً بـ800 منزل أخرى واستشهد 58 من أبناء المخيم، وكان معظمهم من المدنيين، فضلاً عن اعتقال المئات من أبناء المخيم.
لكن جاء الرد من المقاومين بقتل 50 جندياً إسرائيلياً وإصابة العشرات؛ مما يجعل عملية "السور الواقي" واحدة من أكثر العمليات التي تكبدت فيها إسرائيل خسائر بشرية ومادية.
لذلك حاول الإعلام الإسرائيلي تبرير تلك الخسائر، والادعاء بأن القوات الإسرائيلية قامت باجتثاث المقاومة في المخيم الذي وصفته على أنه "عش الدبابير" الذي لا بد من تدميره.. لكن السنوات اللاحقة أثبتت أن المقاومة لم تمت في مخيم جنين، كما ادَّعت إسرائيل.
المقاومة مستمرة
رغم الخسائر التي تكبَّدتها جنين بسبب مقاومتها للاحتلال بمختلف أشكاله، لا تزال المقاومة مستمرة في المدينة، والأحداث التي تدل على ذلك كثيرة.
ففي عام 2021، وقعت اشتباكات عديدة بين المقاومين وجنود الاحتلال، أولها أسفر عن استشهاد 3 فلسطينيين وإصابة 4 إسرائيليين، أما ثانيها فأسفر عن استشهاد 4 شباب فلسطينيين من المدينة ومخيمها، وكانت نتيجته خروج جنود الاحتلال من المخيم تحت غطاء كثيف من إطلاق الرصاص الحي لحماية أنفسهم.
ولم يخلُ ذاك العام من العمليات المسلحة الفردية، ففي عملية إطلاق نار نفذها الفلسطيني ضياء حمارشة قُتل 5 إسرائيليين وأصيب 6 آخرون.
المسلح الشبح
وكان "المسلح الشبح" من أبرز أمثلة المقاومة في جنين عام 2022، أما ذاك الشبح فلم يكن سوى الشاب رعد حازم البالغ من العمر 29 عاماً والقاطن في مخيم جنين.
فتح رعد نيران سلاحه على الموجودين في شارع ديزنغوف، الذي سُمِّي تيمناً بمؤسس تل أبيب مائير ديزنغوف، وخلَّف 5 من القتلى و6 جرحى، ثم انسحب بهدوء تام دون أن يترك وراءه أي أثر.
تلك الحادثة نشرت الرعب في قلوب الإسرائيليين الذي راحوا يغلقون مطاعمهم وحاناتهم في وقت مبكر خوفاً من ظهور "الشبح" مرة أخرى، وبدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد ذلك بالبحث عن مُنفذ العملية التي وقعت في واحد من أهم الشوارع في إسرائيل.
استطاعت القوات الإسرائيلية إيجاد رعد في مدينة يافا، وبعد استشهاده، اقتحم الإسرائيليون مدينة جنين، التي فقدت 10 شهداء منذ بداية 2022، وأصيب فيها عشرات الجرحى؛ لتكون بذلك على رأس قائمة المدن الفلسطينية من حيث عدد الشهداء والجرحى لهذا العام، وليكون لها النصيب الأكبر في عمليات المقاومة والهجمات ضد حواجز الاحتلال العسكرية.