لم تكن حياة المفكّر النمساوي محمد أسد عادية، بل مليئة بالأحداث والمغامرات.. بدءاً من رحلته إلى فلسطين، وعمله مع الملك عبد العزيز آل سعود، ومقابلته عمر المختار وبعدها مساعدة المقاومة الليبية ضدّ الاستعمار الإيطالي.. لنتعرّف سوياً إلى قصّة غير عادية لرجلٍ استثنائي.
في العام 1922 وصل إلى فلسطين صحفي نمساوي شاب، يُدعى محمد أسد، ينحدر من عائلةٍ يهودية، بدأ في كتابة مقالات حول الأوضاع في البلاد، التي كانت آنذاك تحت الانتداب البريطاني. وانطلاقاً من مهمّته الصحفية، التي تحدث خلالها عن القلق العربي المبكر من مشروع تأسيس دولة يهودية، بدأ رحلة بحثٍ ودراسة معمّقة للإسلام.
لم تتوقف تلك الرحلة طوال سنوات لاحقة، جال فيها في معظم بلدان المنطقة، ليقرّر بعدها في العام 1926 اعتناق الإسلام، وينخرط في البيئة الإسلامية حتى صار جزءاً منها. فتحدث بالعربية بدلاً من الألمانية، وذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحجّ.
ومحمد أسد، الذي لم يكن حينها سوى ليوبولد فايس -قبل أن يغيّر اسمه- أصبح فيما بعد الرجل المسلم الأكثر تأثيراً في أوروبا والعالم، خلال القرن العشرين.
القدس.. محطة محمد أسد الأولى
وُلد محمد أسد في 2 يوليو/تموز 1900 بمدينة لفيف (أوكرانيا حالياً)، لعائلةٍ يهودية مهاجرة ومتديّنة، خَرَج منها عدد من حاخامات أوروبا الشرقية؛ وقد غاص في دراسة التوراة والتلمود، كما أتقن العبرية وهو في 13 من عمره، استعداداً لأن يكون حاخاماً.
بدأ الدراسة في جامعة فيينا، لكنه ما لبث أن قرّر إيقاف دراسته والتوجّه إلى برلين أوائل العشرينيات، حيث عمل صحفياً مع وكالة الصحافة المتحدة الأمريكية، وأصبح في العام 1921 محرراً ثقافياً في صحيفة "فرانكفورتر" الألمانية.
يقول أسد، في كتاب مذكّراته، إن نشأته اليهودية أبعدته عن دين آبائه، وإن الفراغ الذي شهدته أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى جعله يتعمّق في الفلسفة بعد أن عانى من أزمةٍ روحية. ويروي كيف أن تعرّفه إلى الإسلام كان بداية الشعور، بأن ذلك الطريق هو السبيل الوحيد لسدّ الفراغ الروحي الذي عاناه.
كانت القدس المحطة الأولى للصحفي الشاب؛ توجّه إليها بعد دعوةٍ تلقّاها من خاله، وهو طبيبٌ نفسي كان يعيش في القدس، حيث ترأس أيضاً مستشفى للأمراض العقلية. وفي أحد لقاءاته المصوّرة، يقول أسد: "كان خالي معارضاً لفكرة الصهيونية، وعاش منعزلاً قليلاً داخل مجتمعه".
ويتابع: "ومن هنا بدأ انجذابي إلى العالم الإسلامي، ومن خلال ذلك إلى الإسلام"؛ ويُشير إلى أنه كان خالياً من الأفكار السياسية حينها، "لكني شعرتُ منذ اللحظة الأولى أن الهدف من الاستيطان اليهودي لفلسطين، هو أمرٌ لا أخلاقي، فأصبحتُ كارهاً لفكرة الصهيونية".
ومن فلسطين تابع محمد أسد عمله الصحافي، الذي كان قد بدأ في برلين قبل مغادرتها، ويقول عن تلك الفترة: "كتبتُ مقالاً وأرسلتُ 10 نسخٍ منه إلى 10 صحفٍ في أوروبا، 9 منها لم تُجِب، في حين قبلت صحيفة "فرانكفورتر تسايتونج" -وكانت الأشهر أوروبياً في تلك الفترة- نشر الموضوع".
لاحقاً عرضت عليه الصحيفة أن يصبح مراسلها الخاص لشؤون الشرق الأوسط، وهذا ما صار. لاحقاً ونتيجة مقالاته -التي جاءت بمعظمها كتحذيرٍ للعرب من مخطّطات الصهاينة- أصبح اسمه معروفاً في الصحافة الألمانية.
في فلسطين، انخرط في سجالاتٍ مع قادة الحركة الصهيونية، واتخذ منهم موقفاً معارضاً "منذ اللحظة الأولى لسماعي عن مشروعهم". ولعلّ القصة الأشهر في هذا الإطار هي المواجهة التي دارت بينه وبين حاييم وايزمان، رئيس المؤتمر الصهيوني العالمي والرئيس الأول لدولة الاحتلال فيما بعد، رَوى عنه في مذكراته قائلاً:
"قلتُ له: كيف تتوقع أن تكون فلسطين وطنك القومي، وتلك المقاومة العنيفة من العرب تواجهنا، وهم يشكّلون أغلبية؟ فقال: نتوقّع ألا يكونوا أغلبية بعد بضعة أعوام. رددتُ قائلاً: ألا يؤرقك الجانب الأخلاقي من المشكلة؟ ألا تظن أنه من الخطأ طرد شعبٍ عاش طوال عمره في هذا البلد"؟
ويتابع أسد: "أجاب متحفزاً: ولكنها أرضنا، نحن لا نفعل أكثر من استرداد ما سُلب منا بالخطأ. رددتُ: ولكنك كنتَ بعيداً عن فلسطين، على مدى ألفي عام تقريباً، ولم تكن قبلها سيداً سوى على جزءٍ بسيط من تلك الأرض لمدة 500 عام. ألا تعتقد أن العرب بالمنطق ذاته، يمكنهم المطالبة بإسبانيا التي حكموها وخرجوا منها منذ 500 عام فقط"؟
قصة اعتناقه الإسلام.. قبل لقاء عمر المختار
يقول الباحث المصري محمد عبد العزيز إن محمد أسد "شعر بارتباطٍ روحي ونفسي مع الشخصية العربية، وشعر أن هؤلاء العرب هم أحفاد إبراهيم وداود، الذين قرأ عنهم في العهد القديم".
ويتابع في حديثٍ إلى التلفزيون "العربي": "تعرّف أكثر، من خلال جولاته، إلى الشخصية العربية من بلاد الشام والجزيرة العربية ومصر، ثم سافر إلى إيران وأفغانستان وغطّى كلّ تلك المنطقة في تحقيقاته الصحفية. وكلّ تلك الجولات والمقالات جمعها في كتابٍ واحد صدر لاحقاً في العام 1924 تحت عنوان (الشرق غير الرومانسي)".
خلال وجود محمد أسد في أفغانستان، قابل أسد شيخ إحدى القبائل؛ وبعد نقاشٍ عميق بينهما، حول الإسلام والوصايا المذكورة في القرآن، أخبره الشيخ الأفغاني أنه -أي أسد- مسلم "ولكنك لا تعلم ذلك، يوماً ما ستعلم".
ومنذ تلك اللحظة حدث التحوّل الكبير في حياة محمد أسد؛ وبعد بضعة أشهرٍ فقط، توجّه إلى برلين حيث قابل رئيس الجالية المسلمة، وأخبره بأنه يريد أن يصبح مسلماً، فكان ذلك في مسجد فيلمسدروف أقدم مساجد مدينة برلين الألمانية.
يروي أسد في مذكراته -التي حملتْ عنوان "الطريق إلى مكّة"، والتي نشرها في أغسطس/آب 1954- كيف أصابته الحيرةُ في أيامه الأولى في القدس، حين رأى أن الناس تصلّي بشكلٍ جماعي، فطلب من إمام المسجد أن يشرح له حركات الصلاة. ورَوى كيف أن ذلك الشرح البسيط قد فتح له أول بابِ إلى الإسلام.
وفي تلك المذكرات، يتحدث أسد عن السنوات المثيرة التي قضاها مرتحلاً بين أوروبا والشرق الإسلامي، ويقول: "ما أرويه هنا لا يُعدّ سيرةً ذاتيةً لامرئٍ يشعر بالفخر لدور قام به في الحياة العامة، كما لا يُعدّ روايةً لمغامراتٍ خضتُها".
ويتابع: "هذا الكتاب يُعدّ قصة حياة رجلٍ يفتّش، بقصدٍ ونيّة، عن إيمانٍ عميق أو عقيدة بذاتها. فذلك الإيمان حلّ عليّ عبر رحلة السنين، دون أن أسعى إليه. حكايتي ببساطة هي حكاية اكتشاف رجلٍ أوروبي للإسلام، كدينٍ متكاملٍ في أي مجتمعٍ إسلامي".
ساعد عمر المختار ضدّ الاستعمار الإيطالي
بعد اعتناقه الإسلام في العام 1926، سافر محمد أسد إلى مكّة لأداء فريضة الحجّ واستقرّ في المدينة المنوّرة، حيث تعرّف إلى مؤسّس السعودية وأول ملوكها عبد العزيز آل سعود، بسبب مهاراته، والمكانة التي اكتسبها بصفته أوروبياً اعتنق الإسلام.
عاش أسد في المملكة طيلة ست سنوات، عمل خلالها مستشاراً للديوان الملكي السعودي، ويُفرد في مذكراته صفحاتٍ كثيرة عن الملك عبد العزيز آل سعود الذي دعاه إلى مجلسه في الرياض، فنشأت بينهما علاقة وثيقة. وسرعان ما ضمّه إلى مجلس مستشاريه، وسمح له بزيارة منطقة نجد التي كانت محظورة على الأجانب في ذلك الوقت.
حينها، وفي الدولة التي كوّنها آل سعود، كانت شمال الجزيرة العربية منطقة نزاع مع البريطانيين. ومن خلال مقالاتٍ استقصائية نشرها أسد، أبرزها بعنوان "دراما في الصحراء"، و"الصحراء العربية"، و"بريطانيا تقصف نجد"؛ مقالاتٍ شكّلت رأياً عاماً في أوروبا، استعملها الملك عبد العزيز في التفاوض مع الإنجليز على مسألة الحدود في الجزيرة العربية.
لاحقاً طلب منه الزعيم الليبي أحمد السنوسي السفر إلى ليبيا، حيث تطوّع في مهمة ساقته في مطلع العام 1931 للقاء القائد التاريخي عمر المختار. وهناك، ساهم محمد أسد في الحرب الشعبية الليبية ضدّ الاستعمار الإيطالي، وقدّم للثوار المشورة والمؤازرة في تمويل المقاتلين، وبقى شهرين في ليبيا تحت الخطر وأعين الجواسيس.
وبعد مرحلة عمر المختار، في العام 1932، سافر أسد إلى الهند، حيث التقى العلّامة محمد إقبال، المعروف بـ"الأب الروحي" لباكستان، والذي شجّع أسد على البقاء ومساعدته في صياغة وتوضيح المقدّمات النظرية والفكرية لدولة إسلامية مستقبلية، ستنفصل عن الهند، وتكون بمثابة جسر علمي بين إسلام جنوب آسيا والغرب الناطق بالإنجليزية.
وبالفعل استقر أسد في الهند، مع زوجته السعودية الثانية منيرة وابنهما طلال، بعد وفاة زوجته الأولى خلال إقامته بالسعودية. وكتب "الإسلام في مفترق الطرق" عام 1934، وقد نُشر بالإنجليزية، وتُرجم لاحقاً إلى العربية.
البريطانيون اعتقلوه وخرج ليؤسّس دولة باكستان
لم يمضِ الكثير على إقامته في الهند، حتى اعتقله البريطانيون مع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، بسبب جواز سفره النمساوي والاشتباه في قيامه بأعمال تحريض ضدّ البريطانيين.
وبحسب صحيفة Tablet Mag، سرعان ما ألحقوا به في المعسكر زوجته وابنه. وبعدها اعتقل النازيون والده وأخته في ألمانيا، وقتلوهما مع باقي اليهود في مراكز الاعتقال النازية.
بقي أسد معتقلاً حتى انتهاء الحرب في العام 1945؛ وبعد خروجه من السجن، واصل عمله مع مسلمي الهند لإعلان دولتهم. وبالفعل، ساهم محمد أسد في العام 1947، بتأسيس دولة باكستان الإسلامية، التي كرّمته -بُعَيد تأسيسها- بمنحه الجنسية الباكستانية.
ليكون بذلك أوّل مواطنٍ باكستاني عبر التاريخ، كما عُيّن أسد بمناصب مختلفة في باكستان، كان آخرها وزير الدولة لدى هيئة الأمم المتحدة.
مع منتصف القرن العشرين، استقال محمد أسد من عمله في وزارة الخارجية الباكستانية، وتفرّغ للكتابة عن الإسلام، والدفاع عنه، ومحاولة مدّ الجسور بينه وبين الغرب. غادر إلى نيويورك، ثم عاد مجدداً إلى أوروبا، حيث استقر 10 سنوات في سويسرا، ثم رحل إلى مدينة طنجة المغربية التي عاش فيها 20 عاماً.
عاد إلى الغرب للمرة الأخيرة، حيث استقر في إسبانيا التي قضى بها سنواته الأخيرة، ودوَّن الجزء الثاني من مذكراته تحت عنوان "عودة القلب إلى وطنه". وقد توفي في فبراير/شباط 1992، ودُفن في المقبرة الإسلامية في غرناطة كما أوصى. ترك محمد أسد، خلال مسيرته التي امتدّت قرابة القرن، مجموعة كبيرة من الكتب التي كانت شاهداً على جزءٍ كبير ومهمّ من التاريخ والفكر الإسلامي في القرن 20.